كتاب ذم الكبر والعجب

 

كتاب ذم الكبر والعجب

وهو الكتاب التاسع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الخالق البارئ المصور العزيز الجبار المتكبر العلي الذي لا يضعه عن مجده واضع الجبار الذي كل جبار له ذليل خاضع وكل متكبر في جناب عزه مسكين متواضع فهو القهار الذي لا يدفعه عن مراده دافع الغني الذي ليس له شريك ولا منازع القادر الذي بهر أبصار الخلائق جلاله وبهاؤه وقهر العرش المجيد استواؤه واستعلاؤه واستيلاؤه وحصر ألسن الأنبياء وصفه وثناؤه وارتفع عن حد قدرتهم إحصاؤه واستقصاؤه فاعترف بالعجر عن وصف كنه جلاله ملائكته وأنبياؤه وكسر ظهور الأكاسرة عزه وعلاؤه وقصر أيدي القياصرة عظمته وكبرياؤه فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه ومن نازعه فيهما قصمه بداء الموت فأعجزه دواؤه جل جلاله وتقدست أسماؤه والصلاة على محمد الذي أنزل عليه النور المنتشر ضياؤه حتى أشرقت بنوره أكناف العالم وأرجاؤه وعلى آله وأصحابه الذين هم أحباء الله وأولياؤه وخيرته وأصفياؤه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته حديث قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته أخرجه الحاكم في المستدرك دون ذكر العظمة وقال صحيح على شرط مسلم وتقدم في العلم وسيأتي بعد حديثين بلفظ آخر وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه حديث ثلاث مهلكات الحديث أخرجه البزار والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث أنس بسند ضعيف وتقدم فيه أيضا فالكبر والعجب داءان مهلكان والمتكبر والمعجب سقيمان مريضان وهما عند الله ممقوتات بغيضان وإذا كان القصد في هذا الربع من كتاب إحياء علوم الدين شرح المهلكات وجب إيضاح الكبر والعجب فإنهما من قبائح المرديات ونحن نستقضي بيانهما من الكتاب في شطرين شطر في الكبر وشطر في العجب.

الشطر الأول من الكتاب في الكبر وفيه بيان ذم الكبر وبيان ذم الاختيال وبيان فضيلة التواضع وبيان حقيقة التكبر وآفته وبيان من يتكبر عليه ودرجات التكبر وبيان ما به التكبر وبيان البواعث على التكبر وبيان أخلاق المتواضعين وما فيه يظهر الكبر وبيان علاج الكبر وبيان امتحان النفس في خلق الكبر وبيان المحمود من خلق التواضع والمذموم منه بيان ذم الكبر قد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه وذم كل جبار متكبر فقال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) وقال عز وجل: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) وقال تعالى: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) وقال تعالى: (إنه لا يحب المستكبرين) وقال تعالى: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) وقال تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وذم الكبر في القرآن كثير وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) حديث لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار رجل في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي حديث أبي هريرة يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه واللفظ له وقال أبو داود قذفته في النار وقال مسلم عذبته وقال رداؤه وإزاره بالغيبة وزاد مع أبي هريرة أبا سعيد أيضا وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال التقى عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر على الصفا فتواقفا فمضى ابن عمرو وأقام ابن عمر يبكي فقالوا ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن فقال هذا يعني عبد الله بن عمرو زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أكبه الله في النار على وجهه حديث عبد الله بن عمرو من كان في قلبه مثقال حبة من كبر كبه الله في النار على وجهه أخرجه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان من طريقه بإسناد صحيح وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم من العذاب حديث لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين الحديث أخرجه الترمذي وحسنه من حديث سلمة بن الأكوع دون قوله من العذاب وقال سليمان بن داود عليهما السلام يوما للطير والإنس والجن والبهائم اخرجوا فخرجوا في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن فرفع حتى سمع زجل الملائكة بالتسبيح في السموات ثم خفض حتى مست أقدامه البحر فسمع صوتا لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته وقال صلى الله عليه وسلم يخرج من النار عنق له أذنان تسمعان وعينان تبصران ولسان ينطق يقول وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين حديث يخرج من النار عنق له أذنان الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حسن صحيح غريب وقال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة بخيل ولا جبار ولا سيء الملكة حديث لا يدخل الجنة جبار ولا بخيل ولا سيء الملكة تقدم في أسباب الكسب والمعاش والمعروف خائن مكان جبار وقال صلى الله عليه وسلم تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقاطهم وعجزتهم فقال الله للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها حديث تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقال صلى الله عليه وسلم بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد عبد تجبر واختال ونسي الكبير المتعال بئس العبد عبد غفل وسها ونسي المقابر والبلى بئس العبد عبد عتا وبغى ونسي المبدأ والمنتهى حديث بئس العبد عبد تجبر واعتدى الحديث أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت عميس بزيادة فيه مع تقديم وتأخير وقال غريب وليس إسناد بالقوي ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ورواه البيهقي في الشعب من حديث نعيم بن عمار وضعفه وعن ثابت أنه قال بلغنا أنه قيل يا رسول الله ما أعظم كبر فلان فقال أليس بعده الموت حديث ثابت بلغنا أنه قيل يا رسول الله ما أعظم كبر فلان فقال أليس بعده الموت أخرجه البيهقي في الشعب هكذا مرسلا بلفظ تجبر وقال عبد الله بن عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه وقال إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك والكبر وآمركما بلا إله إلا الله فإن السموات والأرضين وما فيهن لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح منهما ولو أن السموات والأرضين وما فيهن كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله عليها لقصمتها وآمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء حديث عبد الله بن عمرو إن نوحا لما حضرته الوفاة دعا ابنيه وقال إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك والكبر الحديث أخرجه أحمد والبخاري في كتاب الأدب والحاكم بزيادة في نقله قال صحيح الإسناد قال المسيح عليه السلام طوبى لمن علمه الله كتابه ثم لم يمت جبارا وقال صلى الله عليه وسلم أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع وأهل الجنة الضعفاء المقلون حديث أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع وهي الزيادة عندهما من حديث حارثة بن وهب الخزاعي ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر وقال صلى الله عليه وسلم إن أحبكم إلينا وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلينا وأبعدكم منا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون المتكبرون حديث إن أحبكم إلينا وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقا الحديث أخرجه أحمد من حديث أبي ثعلبة الخشني بلفظ إلى ومني وفيه انقطاع ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة وقد تقدم في رياضة النفس أول الحديث وقال صلى الله عليه وسلم يحشر المتكبرون يوم القيامة في مثل صور الذر تطؤهم الناس ذرا في مثل صور الرجال يعلوهم كل شيء من الغار ثم يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس يعلوهم نار الأنيار يسقون من طين الخبال عصارة أهل النار حديث يحشر المتكبرون يوم القيامة ذرا في صور الرجال الحديث أخرجه الترمذي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال غريب وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم الناس نهواهم على الله تعالى حديث أبي هريرة يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر الحديث أخرجه البزار هكذا مختصرا دون قوله الجبارون وإسناده حسن وعن محمد بن واسع قال دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له يا بلال إن أباك حدثني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن في جهنم واديا يقال له هبهب حق على الله أن يسكنه كل جبار فإياك يا بلال أن تكون ممن يسكنه حديث أبي موسى إن في جنهم واديا يقال له هبهب حق على الله أن يسكنه كل جبار أخرجه أبو يعلى والطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد قلت فيه أزهر بن سنان ضعفه ابن معين وابن حبان وأورد له في الضعفاء هذا الحديث وقال صلى الله عليه وسلم إن في النار قصرا يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم حديث إن في النار قصرا يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أنس وقال توابيت مكان قصرا وقال فيقفل مكان يطبق وفيه أبان بن أبي عياش وهو ضعيف وقال صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من نفخة الكبرياء حديث اللهم إني أعوذ بك من نفخة الكبرياء لم أره بهذا اللفظ وروى أبو داود وابن ماجه من حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الحديث أعوذ بالله من الشيطان من نفخة ونفثه وهمزه قال نفثه الشعر ونفحه الكبر وهمزه الموتة ولأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري نحو تكلم فيه أبو داود وقال الترمذي هو أشهر حديث في هذا الباب وقال من فارق روحه جسده وهو برئ من ثلاث دخل الجنة الكبر والدين والغلول حديث من فارق روحه جسده وهو برئ من ثلاثة دخل الجنة الكبر والدين والغلول أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ثوبان وذكر المصنف لهذا الحديث هنا موافق للمشهور في الرواية أنه الكبر بالموحدة والراء لكن ذكر ابن الجوزي في جامع المسانيد عن الدارقطني قال إنما هو الكنز بالنون والزاي وكذلك أيضا ذكر ابن مردويه الحديث في تفسير والذين يكنزون الذهب والفضة الآثار قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يحقرن أحد أحدا من المسلمين فإن صغير المسلمين عند الله كبير وقال وهب لما خلق الله جنة عدن نظر إليها فقال أنت حرام على كل متكبر وكان الأحنف بن قيس يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يوما ومصعب ماد رجليه فلم يقبضهما وقعد الأحنف فزحمه بعض الزحمة فرأى أثر ذلك في وجهه فقال عجبا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين وقال الحسن العجب من ابن آدم يغسل الخرء بيده كل يوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار السموات وقد قيل في وفي أنفسكم أفلا تبصرون هو سبيل الغائط والبول وقد قال محمد بن الحسين بن علي ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو كثر وسئل سليمان عن السيئة التي لا تنفع معها حسنة فقال الكبر وقال النعمان بن بشير على المنبر إن للشيطان مصالي وفخوخا وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله والفخر بإعطاء الله والكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه بيان ذل الاختيال وإظهار آثار الكبر في المشي وجر الثياب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطرا حديث لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا متفق عليه من حديث أبي هريرة وقال صلى الله عليه وسلم بينما رجل يتبختر في بردته إذ أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة حديث بينما رجل يتبختر في برديه قد أعجبته نفسه الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقال صلى الله عليه وسلم من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة وقال زيد بن أسلم دخلت على ابن عمر فمر به عبد الله ابن واقد وعليه ثوب جديد فسمعته يقول أي بني ارفع إزارك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء حديث ابن عمر لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء رواه مسلم مقتصرا على المرفوع دون ذكر مرور عبد الله ابن واقد على ابن عمر وهو رواية لمسلم أن المار رجل من بني ليث غير مسمى وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما على كفه ووضع أصبعه عليه وقال يقول الله تعالى ابن آدم أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد جمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة حديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما على كفه ووضع أصبعه عليها وقال يقول الله ابن آدم أتعجزني وقد خلقت من مثل هذه الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحح إسناده من حديث بشر بن جحاش وقال صلى الله عليه وسلم إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط الله بعضهم على بعض حديث إذا مشت أمتي المطيطاء الحديث أخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر المطيطاء بضم الميم وفتح الطاءين المهملتين بينهما مثناة من تحت مصغرا ولم يستعمل مكبرا قال ابن الأعرابي هي مشية فيها اختيال وقال صلى الله عليه وسلم من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان حديث من تعظم في نفسه واختال في مشيه لقي الله وهو عليه غضبان أخرجه أحمد والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر الآثار عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر علينا ابن الأهتم يريد المقصورة وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي يتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال أف أف شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله فيها ولا المؤدي حق الله منها والله أن يمشي أحد طبيعته يتخلج تخلق المجنون في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان به لفتة فسمع ابن الأهتم فرجع يعتذر إليه فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك أما سمعت قول الله تعالى ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ومر بالحسن شاب عليه بزة له حسنة فدعاه فقال له ابن آدم معجب بشبابه محب لشمائله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك قد لاقيت عملك ويحك داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم وروي أن عمر ابن عبد العزيز حج قبل أن يستخلف فنظر إليه طاوس وهو يختال في مشيته فغمز جنبه بأصبعه ثم قال ليست هذه مشية من في بطنه خراء فقال عمر كالمعتذر يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها ورأى محمد بن واسع ولده يختال فدعاه وقال أتدري من أنت أما أمك فأشتريها بمائتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله ورأى ابن عمر رجلا يجر إزاره فقال إن للشيطان إخوانا كررها مرتين أو ثلاثا ويروى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب وهو يتبختر في جبة خز فقال يا عبدالله هذه مشية يبغضها الله ورسوله فقال له المهلب أما تعرفني فقال بلى أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرتك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته تلك وقال مجاهد في قوله تعالى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي يتبختر وإذ قد ذكرنا ذم الكبر والاختيال فلنذكر فضيلة التواضع والله تعالى أعلم.

بيان فضيلة التواضع

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زاد عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله حديث ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وقد تقدم وقال صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها فإن هو رفع نفسه جبذاها ثم قالا اللهم ضعه وإن وضع نفسه قالا اللهم ارفعه حديث ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها الحديث أخرجه العقيلي في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة والبيهقي أيضا من حديث ابن عباس وكلاهما ضعيف وقال صلى الله عليه وسلم طوبى لمن تواضع في غير مسكنة وأنفق مالا جمعه في غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة حديث طوبى لمن تواضع في غير مسكنة الحديث أخرجه البغوي وابن قانع والطبراني من حديث ركب المصري والبزار من حديث أنس وقد تقدم بعضه في العلم وبعضه في آفات اللسان وعن أبي سلمة المديني عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا بقباء وكان صائما فأتيناه عند إفطاره بقدح من لبن وجعلنا فيه شيئا من عسل فلما رفعه وذاقه وجد حلاوة العسل فقال ما هذا قلنا يا رسول الله جعلنا فيه شيئا من عسل فوضعه وقال أما إني لا أحرمه ومن تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ومن اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله حديث أبي سلمة المديني عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا بقباء وكان صائما الحديث وفيه من تواضع رفعه الله الحديث رواه البزار من رواية طلحة بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده طلحة فذكر نحوه دون قوله ومن أكثر من ذكر الله أحبه الله ولم يقل بقباء وقال الذهبي في الميزان إنه خبر منكر وقد تقدم ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه لبن وعسل الحديث وفيه أما إني لا أزعم أنه حرام الحديث وفيه من أكثر ذكر الموت أحبه الله وروى المرفوع منه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد دون قوله ومن بذر أفقره الله وذكر رفيه قوله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله وتقدم في ذم الدنيا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه في بيته يأكلون فقام سائل على الباب وبه زمانة يتكره منها فأذن له فلما دخل أجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذه ثم قال له اطعم فكأن رجلا من قريش اشمأز منه وتكره فما مات ذلك الرجل حتى كانت به زمانة مثلها حديث السائل الذي كان به زمانة منكرة وأنه صلى الله عليه وسلم أجلسه على فخذه ثم قال اطعم الحديث لم أجد له أصلا والموجود حديث أكله مع مجذوم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر وقال الترمذي غريب وقال صلى الله عليه وسلم خيرني ربي بين أمرين أن أكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا فلم أدر أيهما أختار وكان صفي من الملائكة جبريل فرفعت رأسي إليه فقال تواضع لربك فقلت عبدا رسولا حديث خيرني ربي بين أمرين عبدا رسولا وملكا نبيا الحديث أخرجه أبو يعلى من حديث عائشة والطبراني من حديث ابن عباس وكلا الحديثين ضعيف وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتعاظم على خلقي وألزم قلبه خوفي وقطع نهاره بذكري وكف نفسه عن الشهوات من أجلي وقال صلى الله عليه وسلم الكرم التقوى والشرف التواضع واليقين الغنى حديث الكرم التقوى والشرف التواضع واليقين الغنى أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين مرسلا وأسند الحاكم أوله من رواية الحسن عن سمرة وقال صحيح الإسناد وقال المسيح عليه السلام طوبى للمتواضعين في الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة طوبى للمطهرة قلوبهم في الدنيا هم الذين ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة وقال بعضهم بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا هدى الله عبدا للإسلام وحسن صورته وجعله في موضع غير شائن له ورزقه مع ذلك تواضعا فذلك من صفوة الله حديث إذا هدى الله عبدا للإسلام وحسن صورته الحديث أخرجه الطبراني موقوفا على ابن مسعود نحوه وفيه المسعودي مختلف فيه وقال صلى الله عليه وسلم أربع لا يعطيهم الله إلا من أحب الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا حديث أربع لا يعطيهن الله إلا من يحب الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا أخرجه الطبراني والحاكم من حديث أنس أربع لا يصبن إلا بعجب الصمت وهو أول العبادة والتواضع وذكر الله وقلة الشيء قال الحاكم صحيح الإسناد قلت فيه العوام بن جويرية قال ابن حبان يروي الموضوعات ثم روى له هذا الحديث وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة حديث ابن عباس إذا تواضع العبد رفع الله رأسه إلى السماء السابعة أخرجه البيهقي في الشعب نحوه وفيه زمعة بن صالح ضعفه الجمهور وقال صلى الله عليه وسلم التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرحمكم الله حديث إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة الحديث أخرجه في الترغيب والترهيب من حديث أنس وفيه بشر بن الحسين وهو ضعيف جدا ورواه ابن عدي من حديث ابن عمر وفيه الحسن بن عبدالرحمن الاحتياصي وخارجة بن مصعب وكلاهما ضعيف ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم فجاء رجل أسود به جدري قد تقشر فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه حديث كان يطعم فجاءه رجل أسود به جدري فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه لم أجده هكذا والمعروف أكله مع مجذوم رواه أبو داود والترمذي وقال غريب وابن ماجه من حديث جابر كما تقدم وقال صلى الله عليه وسلم إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده يكون مهنة لأهله يدفع به الكبر عن نفسه حديث إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده فيكون مهنة لأهله يدفع به الكبر عن نفسه غريب وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوما مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة قالوا وما حلاوة العبادة قال التواضع حديث مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة قالوا وما حلاوة العبادة قال التواضع غريب أيضا وقال صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك مذلة لهم وصغار حديث إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك لهم مذلة وصغار غريب أيضا الآثار قال عمر رضي الله عنه إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش رفعك الله وإذا تكبر وعدا طوره رهصه الله في الأرض وقال اخسأ خسأك الله فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس حقير حتى إنه لأحقر عندهم من الخنزير وقال جرير بن عبد الله انتهيت مرة إلى شجرة تحتها رجل نائم قد استظل بنطع له وقد جاوزت الشمس النطع فسويته عليه ثم إن الرجل استيقظ فإذا هو سلمان الفارسي فذكرت له ما صنعت فقال لي يا جرير تواضع لله في الدنيا فإنه من تواضع لله في الدنيا رفعه الله يوم القيامة يا جوير أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة قلت لا قال إنه ظلم الناس بعضهم في الدنيا وقالت عائشة رضي الله عنها إنكم لتغفلون عن أفضل العبادات التواضع وقال يوسف بن أسباط يجزي قليل الورع من كثير العمل ويجزي قليل التواضع من كثير الاجتهاد وقال الفضيل وقد سئل عن التواضع ما هو فقال أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته ولو سمعته من أجهل الناس قبلته وقال ابن المبارك رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل وقال قتادة من أعطي مالا أو جمالا أو ثيابا أو علما ثم لم يتواضع فيه كان عليه وبالا يوم القيامة وقيل أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إذا أنعمت عليك بنعمة فاستقبلها بالاستكانة أتممها عليك وقال كعب ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع بها درجة في الآخرة وما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشرها ولم يتواضع بها لله إلا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح له طبقا من النار يعذبه إن شاء الله أو يتجاوز عنه وقيل لعبد الملك بن مروان أي الرجال أفضل قال من تواضع عن قدرة وزهد عن رغبة وترك النصرة عن قوة ودخل ابن السماك على هارون فقال يا أمير المؤمنين إن تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك فقال ما أحسن ما قلت فقال يا أمير المؤمنين إن امرأ آتاه الله جمالا في خلقته وموضعا في حسبه وبسط له في ذات يده فعف في جماله وواسى من ماله وتوضع في حسبه كتب في ديوان الله من خالص أولياء الله فدعا هارون بدواة وقرطاس وكتبه بيده وكان سليمان بن داود عليهما السلام إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء إلى المساكين فيقعد معهم ويقول مسكين مع مساكين وقال بعضهم كما تكره أن يراك الأغنياء في الثياب الدون فكذلك فاكره أن يراك الفقراء في الثياب المرتفعة روي أنه خرج يونس وأيوب والحسن يتذاكرون التواضع فقال لهم الحسن أتدرون ما التواضع التواضع أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلما إلا رأيت له عليك فضلا وقال مجاهد إن الله تعالى لما أغرق قوم نوح عليه السلام شمخت الجبال وتطاولت وتواضع الجودي فرفعه الله فوق الجبال وجعل قرار السفينة عليه وقال أبو سليمان إن الله عز وجل اطلع على قلوب الآدميين فلم يجد قلبا أشد تواضعا من قلب موسى عليه السلام فخصه من بينهم بالكلام وقال يونس بن عبيد وقد انصرف من عرفات لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم إني أخشى أنهم حرموا بسببي ويقال أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه وأوضع ما يكون عند الله أرفع ما يكون عند نفسه وقال زياد النمري الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر وقال مالك بن دينار لو أن مناديا ينادي بباب المسجد ليخرج شركم رحلا والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلا بفضل قوة أو سعي قال فلما بلغ ابن المبارك قوله قال بهذا صار مالك مالكا وقال الفضيل من أحب الرياسة لم يفلح أبدا وقال موسى بن القاسم كانت عندنا زلزلة وريح حمراء فذهبت إلى محمد بن مقاتل فقلت يا أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز وجل لنا فبكى ثم قال ليتني لم أكن سبب هلاككم قال فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال إن الله عز وجل رفع عنكم بدعاء محمد ين مقاتل وجاء رجل إلى الشبلي رحمه الله فقال له ما أنت وكان هذا دأبه وعادته فقال أنا النقطة التي تحت الباء فقال له الشبلي أباد الله شاهدك أو تجعل لنفسك موضعا وقال الشبلي في بعض كلامه ذلي عطل ذل اليهود ويقال من يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب وعن أبي الفتح بن شخرف قال رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام فقلت له يا أبا الحسن عظني فقال لي ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء رغبة منهم في ثواب الله وأحسن من تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله عز وجل وقال أبو سليمان لا يتواضع العبد حتى يعرف نفسه وقال أبو يزيد ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر فقيل له فمتى يكون متواضعا قال إذا لم ير لنفسه مقاما ولا حالا وتواضع كل إنسان على قدر معرفته بربه عز وجل ومعرفته بنفسه وقال أبو سليمان لو اجتمع الخلق على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا عليه وقال عروة بن الورد التواضع أحد مصايد الشرف وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا التواضع وقال يحيى بن خالد البرمكي الشريف إذا تنسك تواضع والسفيه إذا تنسك تعاظم وقال يحيى بن معاذ التكبر على ذي التكبر عليك بماله تواضع ويقال التواضع في الخلق كلهم حسن وفي الأغنياء أحسن والتكبر في الخلق كلهم قبيح وفي الفقراء أقبح ويقال لا عز إلا لمن تذلل لله عز وجل ولا رفعة إلا لمن تواضع لله عز وجل ولا أمن إلا لمن خاف الله عز وجل ولا ربح إلا لمن ابتاع نفسه من الله عز وجل وقال أبو علي الجوزجاني النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة وإذا أراد الله تعالى به خيرا لطف به في ذلك فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل وعن الجنيد رحمه الله أنه كان يقول يوم الجمعة في مجلسه لولا أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم حديث يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة إذا اتخذ الفيء دولا الحديث وفيه كان زعيم القوم أرذلهم الحديث وقال غريب وله من حديث علي بن أبي طالب إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء فذكر منها وكان زعيم القوم أرذلهم ولأبي نعيم في الحلية من حديث حذيفة من اقتراب الساعة اثنان وسبعون خصلة فذكرها منها وفيهما فرج بن فضالة ضعيف ما تكلمت عليكم وقال الجنيد أيضا التواضع عند أهل التوحيد تكبر ولعل مراده أن التواضع يثبت نفسه ثم يضعها والموحد لا يثبت نفسه ولا يراها شيئا حتى يضعها أو يرفعها وعن عمرو بن شيبة قال كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلا راكبا بغلة وبين يديه غلمان وإذا هم يعنفون الناس قال ثم عدت بعد حين فدخلت بغداد فكنت على الجسر فإذا أنا برجل حاف حاسر طويل الشعر قال فجعلت أنظر إليه وأتأمله فقال لي مالك تنظر إلي فقلت له شبهتك برجل رأيته بمكة ووصفت له الصفة فقال له أنا ذلك الرجل فقلت ما فعل الله بك فقال إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس وقال المغيرة كنا نهاب إبراهيم النخعي هيبة الأمير وكان يقول إن زمانا صرت فيه فقيه الكوفة لزمان سوء وكان عطاء السلمي إذا سمع صوت الرعد قام وقعد وأخذه بطنه كأنه امرأة ماخض وقال هذا من أجلي يصيبكم لو مات عطاء لاستراح الناس وكان بشر الحافي يقول سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم ودعا رجل لعبد الله بن المبارك فقال أعطاك الله ما ترجوه فقال إن الرجاء يكون بعد المعرفة فأين المعرفة وتفاخرت قريش عند سلمان الفارسي رضي الله عنه يوما فقال سلمان لكنني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة ثم آتي الميزان فإن ثقل فأنا كريم وإن خف فأنا لئيم وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجدنا الكرم في التقوى والغنى في اليقين والشرف في التواضع نسأل الله الكريم حسن التوفيق.

بيان حقيقة الكبر وآفته

اعلم أن الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر فالباطن هو خلق في النفس والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح واسم الكبر بالخلق الباطن أحق وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق وخلق الكبر موجب للأعمال ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال تكبر وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبه ينفصل الكبر عن العجب كما سيأتي فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجبا ولا يتصور أن يكون متكبرا إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال فعند ذلك يكون متكبرا ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبرا فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه فلا يتكبر عليه ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل ينبغي أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر لا أن هذه الرؤية تنفي الكبر بل هذه الرؤية وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة هو خلق الكبر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من نفخة الكبرياء حديث أعوذ بك من نفخة الكبرياء تقدم فيه وكذلك قال عمر أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا للذي استأذنه أن يعظ بعد صلاة الصبح فكأن الإنسان مهما رأى نفسه بهذه العين وهو الاستعظام كبر وانتفخ وتعزز فالكبر عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات وتسمى أيضا عزة وتعظما ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه قال عظيمة لم يبلغوها ففسر الكبر بتلك العظمة ثم هذه العزة تقتضي أعمالا في الظاهر والباطن هي ثمرات ويسمى ذلك تكبرا فإنه مهما عظم عنده قدره بالإضافة إلى غيره حقر من دونه وازدراه وأقصاه عن نفسه وأبعده وترفع عن مجالسته ومؤاكلته ورأى أن حقه أن يقوم ماثلا بين يديه إن اشتد كبره فإن كان أشد من ذلك استنكف عن استخدامه ولم يجعله أهلا للقيام بين يديه ولا بخدمة عتبته فإن كان دون ذلك فأنف من مساواته وتقدم عليه في مضايق الطرق وارتفع عليه في المحافل وانتظر أن يبدأه بالسلام واستبعد تقصيره في قضاء حوائجه وتعجب منه وإن حاج أو ناظر أنف أن يرد عليه وإن وعظ استنكف من القبول وإن وعظ عنف في النصح وإن رد عليه شيء من قوله غضب وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وامتن عليهم واستخدمهم وينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالا لهم واستحقارا والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة وهي أكثر من أن تحصى فلا حاجة إلى تعدادها فإنها مشهورة فهذا هو الكبر وآفته عظيمة وغائلته هائلة وفيه يهلك الخواص من الخلق وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء فضلا عن عوام الخلق وكيف لا تعظم آفته وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر حديث لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر تقدم فيه وإنما صار حجابا دون الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة والكبر وعزة النفس يغلق تلك الأبواب كلها لأنه لا يقدر على أن يحب المؤمنين ما يحب لنفسه وفيه شيء من العز ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين وفيه العز ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز ولا يقدر أن يدوم على الصدق وفيه العز ولا يقدر على ترك الغضب وفيه العز ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه العز ولا يقدر على ترك الحسد وفيه العز ولا يقدر على النصح اللطيف وفيه العز ولا يقدر على قبول النصح وفيه العز ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم وفيه العز ولا معنى للتطويل فما من خلق ذميم إلا وصاحب العز والكبر مضطر إليه ليحفظ عزه وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزه فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه والأخلاق الذميمة متلازمة والبعض منها داع إلى البعض لا محالة وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له وفيه وردت الآيات التي فيها ذم الكبر والمتكبرين قال الله تعالى والملائكة باسطو أيديهم إلى قوله وكنتم عن آياته تستكبرون ثم قال ادخلوا أبواب جنهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ثم أخبر أن أشد أهل النار عذابا أشدهم عتيا على الله تعالى فقال ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا وقال تعالى فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون وقال عز وجل يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين وقال تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق قيل في التفسير سأرفع فهم القرآن عن قلوبهم وفي بعض التفاسير سأحجب قلوبهم عن الملكوت وقال ابن جريج سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها ولذلك قال المسيح عليه السلام إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت على الصفا كذلك الحكمة تعمل في قلب المتواضع ولا تعمل في قلب المتكبر ألا ترون أن من شمخ برأسه إلى السقف شجه ومن طأطأ أظله وأكنه فهذا مثل ضربه للمتكبرين وأنهم كيف يحرمون الحكمة ولذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم جحود الحق في حد الكبر والكشف عن حقيقته وقال من سفه الحق وغمص الناس حديث الكبر من سفه الحق وغمص الناس أخرجه من حديث ابن مسعود في أثناء حديث وقال بطر الحق وغمط الناس ورواه الترمذي فقال من بطر الحق وغمص الناس وقال حسن صحيح ورواه أحمد من حديث عقبة عامر بلفظ المصنف ورواه البيهقي في الشعب من حديث أبي ريحانة هكذا بيان المتكبر عليه ودرجاته وأقسامه وثمرات الكبر فيه اعلم أن المتكبر عليه هو الله تعالى أو رسله أو سائر خلقه وقد خلق الإنسان ظلوما جهولا فتارة يتكبر على الخلق وتارة يتكبر على الخالق فإذن التكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام الأول التكبر على الله وذلك هو أفحش أنواع الكبر ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان مثل ما كان من نمروذ فإنه كان يحدث نفسه بأن يقاتل رب السماء وكما يحكى عن جماعة من الجهلة بل ما يحكى عن كل من ادعى الربوبية مثل فرعون وغيره فإنه لتكبره قال أنا ربكم الأعلى إذ استنكف أن يكون عبدا لله ولذلك قال تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون الآية وقال تعالى وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا القسم الثاني التكبر على الرسل من حيث تعزز النفس وترفعها على الانقياد لبشر مثل سائر الناس وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره فيمتنع عن الانقياد وهو ظان أنه محق فيه وتارة يمتنع مع المعرفة ولكن لا تطاوعه نفسه للانقياد للحق والتواضع للرسل كما حكى الله قولهم أنؤمن لبشرين مثلنا وقولهم إن أنتم إلا بشر مثلنا ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا وقالوا لولا أنزل عليه ملك وقال فرعون فيما أخبر الله عنه أو جاء معه الملائكة مقترنين وقال الله تعالى واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق فتكبر هو على الله وعلى رسله جميعا قال وهب قال له موسى عليه السلام آمن ولك ملكك قال حتى أشاور هامان فشاور هامان فقال هامان بينما أنت رب يعبد إذ صرت عبد تعبد فاسنكف عن عبودية الله وعن اتباع موسى عليه السلام وقالت قريش فيما أخبر الله تعالى عنهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم قال قتادة عظيم القريتين هو الوليد بن المغيرة وأبو مسعود الثقفي طلبوا من هو أعظم رياسة من النبي صلى الله عليه وسلم إذ قالوا غلام يتيم كيف بعثه الله إلينا فقال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك وقال الله تعالى ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أي استحقارا لهم واستبعادا لتقدمهم وقالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نجلس إليك وعندك هؤلاء وأشاروا إلى فقراء المسلمين فازدروهم بأعينهم لفقرهم وتكبروا عن مجالستهم فأنزل الله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى قوله ما عليك من حسابهم وقال تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا حديث قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نجلس إليك وعندك هؤلاء الحديث في نزول قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم أخرجه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص إلا أنه قال فقال المشركون وقال ابن ماجه قالت قريش ثم أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذا لم يروا الذين ازدروهم فقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار قيل يعنون عمارا وبلالا وصهيبا والمقداد رضي الله عنهم ثم كان منهم من منعه الكبر عن الفكر والمعرفة فجهل كونه صلى الله عليه وسلم محقا ومنهم من عرف ومنعه الكبر عن الاعتراف قال الله تعالى مخبرا عنهم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وقال وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وهذا الكبر قريب من التكبر على الله عز وجل وإن كان دونه ولكنه تكبر على قبول أمر الله والتواضع لرسوله القسم الثالث التكبر على العباد وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره فتأبى نفسه عن الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم وهذا وإن كان دون الأول والثاني فهو أيضا عظيم من وجهين أحدهما أن الكبر والعز والعظمة والعلاء لا يليق إلا بالملك القادر فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله ومثاله أن يأخذ الغلام قلنسوة الملك فيضعها على رأسه ويجلس على سريره فما أعظم استحقاقه للمقت وما أعظم تهدفه للخزي والنكال وما أشد استجراءه على مولاه وما أقبح ما تعاطاه وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته أي إنه خاص صفتي ولا يليق إلا بي والمنازع فيه منازع في صفة من صفاتي وإذا كان الكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه إذ الذي يسترذل خواص غلمان الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم ويستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم فهو منازع له في بعض أمره وإن لم يبلغ درجته درجة من أراد الجلوس على سريره والاستبداد بملكه فالخلق كلهم عباد الله وله العظمة الكبرياء عليهم فمن تكبر على عبد من عباد الله فقد نازع الله في حقه نعم الفرق بين هذه المنازعة وبين منازعة نمروذ وفرعون هو الفرق بين منازعة الملك في استصغار بعض عبيده واستخدامهم وبين منازعته في أصل الملك الوجه الثاني الذي تعظم به رذيلة الكبر أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عبادالله استنكف عن قبوله وتشمر لجحده ولذلك ترى المناظرين في مسائل الدين يزعمون أنهم يتباحثون عن أسرار الدين ثم إنهم يتجاحدون تجاحد المتكبرين ومهما اتضح الحق على لسان واحد منهم أنف الآخر من قبوله وتشمر لجحده واحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين إذ وصفهم الله تعالى فقال وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون فكل من يناظر للغلبة والإفحام لا ليغتنم الحق إذا ظفر به فقد شاركهم في هذا الخلق وكذلك يحمل ذلك على الأنفة من قبول الوعظ كما قال تعالى وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأها فقال إنا لله وإنا إليه راجعون قام رجل يأمر بالمعروف فقتل فقام آخر فقال يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فقتل المتكبر الذي خالفه والذي أمره كبرا وقال ابن مسعود كفى بالرجل إثما إذا قيل له اتق الله قال عليك نفسك وقال صلى الله عليه وسلم لرجل كل بيمينك قال لا أستطيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم ل استطيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا فما منعه إلا كبره قال فما رفعها بعد ذلك حديث قال لرجل كل بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت الحديث أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع أي اعتلت يده فإذن تكبره على الخلق عظيم لأنه سيدعوه إلى التكبر على أمر الله وإنما ضرب إبليس مثلا لهذا وما حكاه من أحواله إلا ليعتبر به فإنه قال أنا خير منه وهذا الكبر بالنسب لأنه قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فحمله ذلك على أن يمتنع من السجود الذي أمره الله تعالى به وكان مبدؤه الكبر على آدم والحسد له فجره ذلك إلى التكبر على أمر الله تعالى فكان ذلك سبب هلاكه أبد الآباد فهذه آفة من آفات الكبر على العباد عظيمة ولذلك شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بهاتين الآفتين إذ سأله ثابت بن قيس بن شماس فقال يا رسول الله إني امرؤ قد حبب إلي من الجمال ما ترى أفمن الكبر هو فقال صلى الله عليه وسلم لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس حديث قول ثابت بن قيس بن شماس إني امرؤ قد حبب إلي من الجمال ما ترى الحديث وفيه الكبر من بطر الحق وغمص الناس أخرجه مسلم والترمذي وقد تقدم قبله بحديثين وفي حديث آخر من سفه الحق حديث الكبر من سفه الحق وغمص الناس تقدم معه وقوله وغمص الناس أي ازدراهم واستحقرهم وهم عباد الله أمثاله أو خير منه وهذه الآفة الأولى وسفه الحق هو رده وهي الآفة الثانية فكل من رأى أنه خير من أخيه واحتقر أخاه وازدراه ونظر إليه بعين الاستصغار أو رد الحق وهو يعرفه فقد تكبر فيما بينه وبين الخلق ومن أنف من أن يخضع لله تعالى ويتواضع لله بطاعته واتباع رسله فقد تكبر فيما بينه وبين الله تعالى ورسله.

بيان ما به التكبر

اعلم أنه لا يتكبر إلا متى استعظم نفسه ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي فالديني هو العلم والعمل والدنيوي هو النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار فهذه سبعة أسباب الأول العلم وما أسرع الكبر إلى العلماء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم آفة العلم الخيلاء حديث آفة العلم الخيلاء قلت هكذا ذكره المصنف والمعروف آفة العلم النسيان وآفة الجمال الخيلاء هكذا رواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث علي بسند ضعيف وروى عنه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس آفة الجمال الخيلاء وفيه الحسن بن الحميد الكوفي لا يدري من هو حدث عن أبيه بحديث موضوع قاله صاحب الميزان فلا يلبث العالم أن يتعزز بعزة العلم يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويستجهلهم ويتوقع أن يبدءوه بالسلام فإن بدأه واحد منهم بالسلام أو رد عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة رأى ذلك صنيعة عنده ويدا عليه يلزمه شكرها واعتقد أنه أكرمهم وفعل بهم ما لا يستحقون من مثله وأنه ينبغي أن يرقوا له ويخدموه شكرا له على صنيعه بل الغالب أنهم يبرونه فلا يبرهم ويزورونه فلا يزورهم ويعودونه فلا يعودهم ويستخدم من خالطه منهم ويستسخره في حوائجه فإن قصر فيه استنكره كأنهم عبيده أو أجراؤه وكأن تعليمه العلم صنيعة منه إليهم ومعروفلديهم واستحقاق حق عليهم هذا فيما يتعلق بالدنيا أما في أمر الآخرة فتكبره عليهم بأن يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم وهذا بأن يسمى جاهلا أولى من أن يسمى عالما بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه وخطر الخاتمة وحجة الله على العلماء وعظم خطر العلم فيه كما سيأتي في طريق معالجة الكبر بالعلم وهذا العلم يزيد خوفا وتواضعا وتخشعا ويقتضي أن يرى كل الناس خيرا منه لعظم حجة الله عليه بالعلم وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم ولهذا قال أبو الدرداء من ازداد علما ازداد وجعا وهو كما قال فإن قلت فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبرا وأمنا فأعلم أن لذلك سببين أحدهما أن يكون اشتغاله بما يسمى علما وليس علما حقيقيا وإنما العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه ونفسه وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر والأمن قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فأما ما وراء ذلك كعلم الطب والحساب واللغة والشعر والنحو وفصل الخصومات وطرق المجادلات فإذا تجرد الإنسان لها حتى امتلأ منها امتلأ بها كبرا ونفاقا وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوما بل العلم هو معرفة العبودية والربوبية وطريق العبادة وهذه تورث التواضع غالبا السبب الثاني أن يخوض العبد في العلم وهو خبيث الدخلة رديء النفس سيء الأخلاق فإنه لم يشتغل أولا بتهذيب نفسه وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات ولم يرض نفسه في عبادة ربه فبقي خبيث الجوهر فإذا خاض في العلم أي علم كان صادف العلم من قلبه منزلا خبيثا فلم يطب ثمره ولم يظهر في الخير أثره وقد ضرب وهب لهذا مثلا فقال العلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتشربه الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة فكذلك العلم تحفظه الرجال فتحوله على قدر هممها وأهوائها فيزيد المتكبر كبرا والمتواضع تواضعا وهذا لأن من كانت همته الكبر وهو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به فازداد كبرا وإذا كان الرجل خائفا مع جهله فازداد علما علم أن الحجة قد تأكدت عليه فيزداد خوفا وإشفاقا وذلا وتواضعا فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال عز وجل ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ووصف أولياءه فقال أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وكذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه العباس رضي الله عنه يكون قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا ومن أعلم منا ثم التفت إلى أصحابه وقال أولئك منكم أيها الأمة أولئك هم وقود النار حديث العباس يكون قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق ولذلك قال عمر رضي الله عنه لا تكونوا جبابرة العلماء فلا يفي علمكم بجهلكم ولذلك أستأذن تميم الداري عمر رضي الله عنه في القصص فأبى أن يأذن له وقال إنه الذبح واستأذنه رجل كان إمام قوم أنه إذا سلم من صلاته ذكرهم فقال إني أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا وصلى حذيفة بقوم فلما سلم من صلاته قال لتلتمسن إماما غيري أو لتصلن وحدانا فإني رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل مني فإذا كان مثل حذيفة لا يسلم فكيف يسلم الضعفاء من متأخري هذه الأمة فما أعز على بسيط الأرض عالما يستحق أن يقال له عالم ثم إنه لا يحركه عز العلم وخيلاؤه فإن وجد ذلك فهو صديق زمانه فلا ينبغي أن يفارق بل يكون النظر إليه عبادة فضلا عن الاستفادة من أنفاسه وأحواله لو عرفنا ذلك ولو في أقصى الصين لسعينا إليه رجاء أن تشملنا بركته وتسري إلينا سيرته وسجيته وهيهات فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم فهم أرباب الإقبال وأصحاب الدول قد انقرضوا في القرن الأول ومن يليهم بل يعز في زماننا عالم يختلج في نفسه الأسف والحزن على فوات هذه الخصلة فذلك أيضا إما معدوم وإما عزيز ولولا بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله سيأتي على الناس زمان من تمسك فيه بعشر ما أنتم عليه نجا حديث سيأتي على الناس زمان من تمسك بعشر ما أنتم عليه نجا أخرجه أحمد من رواية رجل عن أبي ذر لكان جديرا بنا أن نقتحم والعياذ بالله تعالى ورطة اليأس والقنوط مع ما نحن عليه من سوء أعمالنا ومن لنا أيضا بالتمسك بعشر ما كانوا عليه وليتنا تمسكنا بعشر عشره فنسأل الله تعالى أن يعاملنا بما هو أهله ويستر علينا قبائح أعمالنا كما يقتضيه كرمه وفضله الثاني العمل والعبادة وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر واستمالة قلوب الناس الزهاد والعباد ويترشح الكبر منهم في الدين والدنيا أما في الدنيا فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم بزيارة غيرهم ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ إلى جميع ما ذكرناه في حق العلماء وكأنهم يرون عبادتهم منة على الخلق وأما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجيا وهو الهالك تحقيقا مهما رأى ذلك قال صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم حديث إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وإنما قال ذلك لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق الله مغتر بالله آمن من مكره غير خائف من سطوته وكيف لا يخاف ويكفيه شرا احتقاره لغيره قال صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء شرا أن يحقر أخاه المسلم حديث كفى بالمرء شرا أن يقر أخاه المسلم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ امرؤ من الشر وكم من الفرق بينه وبين من يحبه لله ويعظمه لعبادته ويستعظمه ويرجو له ما لا يرجوه لنفسه فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه لله فهم يتقربون إلى الله تعالى بالدنو منه وهو يتمقت إلى الله بالتنزه والتباعد منهم كأنه مترفع عن مجالستهم فما أجدرهم إذ أحبوه لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل وما أجدره إذ ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى حد الإهمال كما روي أن رجلا في بني إسرائيل كان يقال له خليع بني إسرائيل لكثرة فساده مر برجل آخر يقال له عابد بني إسرائيل وكان على رأس العابد غمامة تظله فلما مر الخليع به فقال الخليع في نفسه أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بني إسرائيل فلو جلست إليه لعل الله يرحمني فجلس إليه فقال العابد أنا عابد بني إسرائيل وهذا خليع بني إسرائيل فكيف يجلس إلي فأنف منه وقال له قم عني فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان مرهما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع وأحبطت عمل العابد وفي رواية أخرى فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع وهذا يعرفك أن الله تعالى إنما يريد من العبيد قلوبهم فالجاهل العاصي إذا تواضع هيبة لله وذل خوفا منه فقد أطاع الله بقلبه فهو أطوع لله من العالم المتكبر والعابد المعجب وكذلك روي أن رجلا في بني إسرائيل أتى عابدا من بني إسرائيل فوطئ على رقبته وهو ساجد فقال ارفع فوالله لا يغفر الله لك حديث الرجل من بني إسرائيل الذي وطئ على رقبة عابد من بني إسرائيل وهو ساجد فقال ارفع فوالله لا يغفر الله لك الحديث أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة في قصة العابد الذي قال للعاصي والله لا يغفر الله لك أبدا وهو بغير هذا السياق وإسناده حسن فأوحى الله إليه أيها المتألي بل أنت لا يغفر الله لك وكذلك قال الحسن وحتى أن صاحب الصوف أشد كبرا من صاحب المطرز الخز أي أن صاحب الخز يذل لصاحب الصوف ويرى الفضل وصاحب الصوف يرى الفضل لنفسه وهذه الآفة أيضا قلما ينفك عنها كثير من العباد وهو أنه لو استخف به مستخف أو آذاه مؤذ استبعد أن يغفر الله له ولا يشك في أنه صار ممقوتا عند الله ولو آذى مسلما آخر لم يستنكر ذلك الاستنكار وذلك لعظم قدر نفسه عنده وهو جهل وجمع بين الكبر والعجب واغترار بالله وقد ينتهي الحمق والغباوة ببعضهم إلى أن يتحدى ويقول سترون ما يجري عليه وإذا أصيب بنكبة زعم أن ذلك من كراماته وأن الله ما أراد به إلا شفاء غليله والانتقام له منه مع أنه يرى طبقات من الكفار يسبون الله ورسوله وعرف جماعة آذوا الأنبياء صلوات الله عليهم فمنهم من قتلهم ومنهم من ضربهم ثم إن الله أمهل أكثرهم ولم يعاقبهم في الدنيا بل ربما أسلم بعضهم فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة ثم الجاهل المغرور يطن أنه أكرم على الله من أنبيائه وأنه قد انتقم له بما لا ينتقم لأنبيائه به ولعله في مقت الله بإعجابه وكبره وهو غافل عن هلاك نفسه فهذه عقيدة المغترين وأما الأكياس من العباد فيقولون ما كان يقوله عطاء السلمي حين كان تهب ريح أو تقع صاعقة ما يصيب الناس ما يصيبهم إلا بسببي ولو مات عطاء لتخلصوا وما قاله الآخر بعد انصرافه من عرفات كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم فانظر إلى الفرق بين الرجلين هذا يتقي الله ظاهرا وباطنا وهو وجل على نفسه مزدر لعمله وسعيه وذاك ربما يضمر من الرياء والكبر والحسد والغل ما هو ضحكة للشيطان به ثم إنه يمتن على الله بعمله ومن اعتقد جزما أنه فوق أحد من عباد الله فقد أحبط بجهله جميع عمله فإن الجهل أفحش المعاصي وأعظم شيء يبعد العبد عن الله وحكمه لنفسه بأنه خير من غيره جهل محض وأمن من مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ولذلك روي أن رجلا ذكر بخير للنبي صلى الله عليه وسلم فأقبل ذات يوم فقالوا يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك فقال إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان فسلم ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أسألك بالله حدثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل منك قال اللهم نعم حديث أن رجلا ذكر بخير للنبي صلى الله عليه وسلم فأقبل ذات يوم فقالوا يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك فقال إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان الحديث أخرجه أحمد والبزار والدارقطني من حديث أنس فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور النبوة ما استكن في قلبه سفعة في وجهه وهذه آفة لا ينفك عنها أحد من العباد إلا من عصمه الله لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات الدرجة الأولى أن يكون الكبر مستقرا في قلبه يرى نفسه خيرا من غيره إلا أنه يجتهد ويتواضع ويفعل فعل من يرى غيره خيرا من نفسه وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر ولكنه قطع أغصانها بالكلية الثانية أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس والتقدم على الأقران وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم وفي العابد أن يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ولا في الوجه حتى يعبس ولا في الخد حتى يصعر ولا في الرقبة حتى تطأطأ ولا في الذيل حتى يضم إنما الورع في القلوب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التقوى هاهنا وأشار إلى صدره حديث التقوى هاهنا وأشار إلى صدره أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وقد تقدم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق وأتقاهم وكان أوسعهم خلقا وأكثرهم بشرا وتبسما وانبساطا حديث كان أكرم الخلق وأتقاهم الحديث تقدم في كتاب أخلاق النبوة ولذلك قال الحارث بن جزء الزبيدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبني من القراء كل طليق مضحاك فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر الله في المسلمين مثله ولو كان الله سبحانه وتعالى يرضى ذلك لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وهؤلاء الذين يظهر أثر الكبر على شمائلهم فأحوالهم أخف حالا ممن هو في الرتبة الثالثة وهو الذي يظهر الكبر على لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى والمفاخرة والمباهاة وتزكية النفس وحكايات الأحوال والمقامات والتشمر لغلبه الغير في العلم والعمل أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد من هو وما عمله ومن أين زهده فيطول اللسان فيهم بالتنقص ثم يثني على نفسه ويقول إني لم أفطر منذ كذا وكذا ولا أنام الليل وأختم القرآن في كل يوم وفلان ينام سحرا ولا يكثر القراءة وما يجري مجراه وقد يزكي نفسه ضمنا فيقول قصدني فلان بسوء فهلك ولده وأخذ ماله أو مرض أو ما يجره مجراه يدعي الكرامة لنفسه وأما مباهاته فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي وإن كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر له قوته وعجزهم وكذلك يشتد في العبادة خوفا من أن يقال غيره أعبد منه أو أقوى منه في دين الله وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق ورأيت من الشيوخ فلانا وفلانا ومن أنت وما فضلك ومن لقيت وما الذي سمعت من الحديث كل ذلك ليصغره ويعظم نفسه وأما مباهاته فهو أنه يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب ويسهر طول الليل والنهار في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع الألفاظ وحفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم ويحفظ الأحاديث ألفاظها وأسانيدها حتى يرد على من أخطأ فيها فيظهر فضله ونقصان أقرانه ويفرح مهما أخطأ واحد منهم ليرد عليه ويسوء إذا أصاب وأحسن خيفة من أن يرى أنه أعظم منه فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل وأين من يخلو عن جميع ذلك أو عن بعضه فليت شعري من الذي عرف هذه الأخلاق من نفسه وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر حديث لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر تقدم كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه من أهل النار وإنما العظيم من خلا عن هذا ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظيم وتكبر والعالم هو الذي فهم أن الله تعالى قال له إن لك عندنا قدرا ما لم تر لنفسك قدرا فإن رأيت لها قدرا فلا قدر لك عندنا ومن لم يعلم هذا من الدين فاسم العالم عليه كذب ومن علمه لزمه أن لا يتكبر ولا يرى لنفسه قدرا فهذا هو التكبر بالعلم والعمل الثالث التكبر بالحسب والنسب فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملا وعلما وقد يتكبر بعضهم فيرى أن الناس له أموال وعبيد ويأنف من مخالطتهم ومجالستهم وثمرته على اللسان التفاخر به فيقول لغيره يا نبطي يا هندي ويا أرمني من أنت ومن أبوك فأنا فلان ابن فلان وأين لمثلك أن يكلمني أو ينظر إلي ومع مثلي تتكلم وما يجري مجراه وذلك عرق دفين في النفس لا ينفك عنه نسيب وإن كان صالحا وعاقلا إلا أنه قد لا يترشح منه ذلك عند اعتدال الأحوال فإن غلبه غضب أطفأ ذلك نور بصيرته وترشح منه كما روي عن أبي ذر أنه قال قاولت رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له يا ابن السوداء فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر طف الصاع طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل حديث أبي ذر قاولت رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له يا ابن السوداء الحديث أخرجه ابن المبارك في البر والصلة مع اختلاف ولأحمد من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى فقال أبو ذر رحمه الله فاضطجعت وقلت للرجل قم فطأ على خدي فانظر كيف نبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى لنفسه فضلا بكونه ابن بيضاء وأن ذلك خطأ وجهل وانظر كيف تاب وقلع من نفسه شجرة الكبر بأخمص قدم من تكبر عليه إذ عرف أن العز لا يقمعه إلا الذل ومن ذلك ما روي أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما للآخر أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم افتخر رجلان عند موسى عليه السلام فقال أحدهما أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل للذي افتخر بل التسعة من أهل النار وأنت عاشرهم حديث أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما للآخر أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك الحديث أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند من حديث أبي بن كعب بإسناد صحيح ورواه أحمد موقوفا على معاذ بقصة موسى فقط وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحما في جهنم أو ليكون أهون على الله من الجعلان التي تذرف بآنافها القذر حديث ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحما في جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان من حديث أبي هريرة الرابع التفاخر بالجمال وذلك أكثر ما يجري بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس ومن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد اغتبتها حديث عائشة دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة الحديث تقدم في آفات اللسان وهذا منشؤه خفاء الكبر لأنها لو كانت أيضا قصيرة لما ذكرتها بالقصر فكأنها أعجبت بقامتها واستقصرت المرأة في جنب نفسها فقالت ما قالت الخامس الكبر بالمال وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم وبين التجار في بضائعهم وبين الدهاقين في أراضيهم وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيستحقر الغني الفقير ويتكبر عليه ويقول له أنت مكد ومسكين وأنا لو أردت لاشتريت مثلك واستخدمت من هو فوقك ومن أنت وما معك وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك وأنا أنفق في اليوم ما لا تأكله في سنة وكل ذلك لاستعظامه للغنى واستحقاره للفقر وكل ذلك جهل منه بفضيلة الفقر وآفة الغنى وإليه الإشارة بقوله تعالى فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا حتى أجابه فقال إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وكان ذلك منه تكبرا بالمال والولد ثم بين الله عاقبة أمره بقوله يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ومن ذلك تكبر قارون إذ قال تعالى إخبارا عن تكبره فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم السادس الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف السابع التكبر بالأتباع والأنصار والتلامذة والغلمان وبالعشيرة والأقارب والبنين ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين وبالجملة فكل ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالا وإن لم يكن في نفسه كمالا أمكن أن يتكبر به حتى إن المخنث ليتكبر على أقرانه بزيادة معرفتة وقدرته في صنعة المخنثين لأنه يرى ذلك كمالا فيفتخر به وإن لم يكن فعله إلا نكالا وكذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشرب وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان ويتكبر به لظنه أن ذلك كمالا وإن كان مخطئا فيه فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض فيتكبر من يدلي بشيء منه على من لا يدلي به أو على من يدلي بما هو دونه في اعتقاده وربما كان مثله أو فوقه عند الله تعالى كالعالم الذي يتكبر بعلمه على من هو أعلم منه لظنه أنه هو الأعلم ولحسن اعتقاده في نفسه نسأل الله العون بلطفه ورحمته إنه على كل شيء قدير.

بيان البواعث على التكبر وأسبابه المهيجة له

اعلم أن الكبر خلق باطن وأما ما يظهر من الأخلاق والأفعال فهي ثمرة ونتيجة وينبغي أن تسمى تكبرا ويخص اسم الكبر بالمعنى الباطن الذي هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر كما سيأتي معناه فإنه إذا أعجب بنفسه وبعلمه وبعمله أو بشيء من أسبابه استعظم وتكبر وأما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة سبب في المتكبر وسبب في المتكبر عليه وسبب فيما يتعلق بغيرهما أما السبب الذي في المتكبر فهو العجب والذي يتعلق بالمتكبر عليه هو الحقد والحسد والذي يتعلق بغيرهما هو الرياء فتصير الأسباب بهذا الاعتبار أربعة العجب والحقد والحسد والرياء أما العجب فقد ذكرنا أنه يورث الكبر الباطن والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأعمال والأقوال والأحوال وأما الحقد فإنه يحمل على التكبر من غير عجب كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو فوقه ولكن قد غضب عليه بسبب سبق منه فأورثه الغضب حقدا ورسخ في قلبه بغضه فهو لذلك لا تطاوعه نفسه أن يتواضع له وإن كان عنده مستحقا للتواضع فكم من رذل لا تطاوعه نفسه على التواضع لواحد من الأكابر لحقده عليه أو بغضه له ويحمله ذلك على رد الحق إذا جاء من جهته وعلى الأنفة من قبول نصحه وعلى أن يجتهد في التقدم عليه وإن علم أنه لا يستحق ذلك وعلى أن لا يستحله وإن ظلمه فلا يعتذر إليه وإن جنى عليه ولا يسأله عما هو جاهل به وأما الحسد فإنه أيضا يوجب البغض للمحسود وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي الغضب والحقد ويدعو الحسد أيضا إلى جحد الحق حتى يمنع من قبول النصيحة وتعلم العلم فكم من جاهل يشتاق إلى العلم وقد بقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده أو أقاربه حسدا وبغيا عليه فهو يعرض عنه ويتكبر عليه مع معرفته بأنه يستحق التواضع بفضل علمه ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين وإن كان في باطنه ليس يرى نفسه فوقه وأما الرياء فهو أيضا يدعو إلى أخلاق المتكبرين حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه وليس بينه وبينه معرفة ولا محاسدة ولا حقد ولكن يمتنع من قبول الحق منه ولا يتواضع له في الاستفادة خيفة من أن يقول الناس إنه أفضل منه فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد ولو خلا معه بنفسه لكان لا يتكبر عليه وأما الذي يتكبر بالعجب أو الحسد أو الحقد فإنه يتكبر أيضا عند الخلوة به مهما لم يكن معهما ثالث وكذلك قد ينتمي إلى نسب شريف كاذبا وهو يعلم أنه كاذب ثم يتكبر به على من ليس ينتسب إلى ذلك النسب ويترفع عليه في المجالس ويتقدم عليه في الطريق ولا يرضى بمساواته في الكرامة والتوقير وهو عالم باطنا بأنه لا يستحق ذلك ولا كبر في باطنه لمعرفته بأنه كاذب في دعوى النسب ولكن يحمله الرياء على أفعال المتكبرين وكأن اسم المتكبر إنما يطلق في الأكثر على من يفعل هذه الأفعال عن كبر في الباطن صادر عن العجب والنظر إلى الغير بعين الاحتقار وهو إن سمي متكبرا فلأجل التشبه بأفعال الكبر نسأل الله حسن التوفيق والله تعالى أعلم.

بيان أخلاق المتواضعين ومجامع ما يظهر فيه أثر التواضع والتكبر

اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الرجل كصعر في وجهه ونظره شزرا وإطراقه رأسه وجلوسه متربعا أو متكئا وفي أقواله حتى في صوته ونغمته وصيغته في الإيراد ويظهر في مشيته وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته وفي تعاطيه لأفعاله وفي سائر تقلباته في أحواله وأقواله وأعماله فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض فمنها التكبر بأن يحب قيام الناس له أو بين يديه وقد قال علي كرم الله وجهه من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل قاعد وبين يديه قوم قيام وقال أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك حديث أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له الحديث تقدم في آداب الصحبة وفي أخلاق النبوة ومنها أن لا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه قال أبو الدرداء لا يزال العبد يزداد من الله بعدا ما مشى خلفه وكان عبدالرحمن بن عوف لا يعرف من عبيده إذ كان لا يتميز عنهم في صورة ظاهرة ومشى قوم خلف الحسن البصري فمنعهم وقال ما يبقى هذا من قلب العبد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات يمشي مع بعض الأصحاب فيأمرهم بالتقدم ويمشي في غمارهم حديث كان في بعض الأوقات يمشي مع أصحاب فيأمرهم بالتقدم أخرجه منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا أنه خرج يمشي إلى البقيع فتبعه أصحابه فوقف فأمرهم أن يتقدموا ومشى خلفهم فسئل عن ذلك فقال إني سمعت خفق نعالكم فأشفقت أن يقع في نفسي شيء من الكبر وهو منكر فيه جماعة ضعفاء إما لتعليم غيره أو لينفي عن نفسه وساوس الشيطان بالكبر والعجب كما أخرج الثوب الجديد في الصلاة وأبدله بالخليع لأحد هذين المعنيين حديث إخراجه الثوب الجديد في الصلاة وإبداله بالخليع قلت المعروف نزع الشراك الجديد ورد الشراك الخلق أو نزع الخميصة وليس الأنبجانية وكلاهما تقدم في الصلاة ومنها أن لا يزور غيره وإن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين وهو ضد التواضع روي أن سفيان الثوري قدم الرملة فبعث إليه إبراهيم بن أدهم أن تعال فحدثنا فجاء سفيان فقيل له يا أبا إسحاق تبعث إليه بمثل هذا فقال أردت أن أنظر كيف تواضعه ومنها أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه والتواضع خلافه قال ابن وهب جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد فمس فخذي فخذه فنحيت نفسي عنه فأخذ ثيابي فجرني إلى نفسه وقال لي لم تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة وإني لا أعرف رجلا منكم شرا مني وقال أنس كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينزع يده منها حتى تذهب به حيث تشاء حديث أنس كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث تقدم في آداب المعيشة ومنها أن يتوقى من مجالسة المرضى والمعلولين ويتحاشى عنهم وهو الكبر دخل رجل وعليه جدري قد تقشر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ناس من أصحابه يأكلون فما جلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه حديث الرجل الذي به جدري وإجلاسه إلى جنبه تقدم قريبا وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يحبس عن طعامه مجذوما ولا أبرص ولا مبتلى إلا أقعدهم على مائدته ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلا في بيته والتواضع خلافه روي أن عمر بن عبدالعزيز أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف أقوم إلى المصباح فأصلحه فقال ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه قال أفأنبه الغلام فقال هي أول نومة نامها فقام وأخذ البطة وملأ المصباح زيتا فقال الضيف قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين فقال ذهبت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر ما نقص مني شيء وخير الناس من كان عند الله متواضعا ومنها أن لا يأخذ متاعه ويحمله إلى بيته وهو خلاف عادة المتواضعين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك حديث حمله متاعه إلى بيته أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة في شرائه للسراويل وحمله وتقدم وقال علي كرم الله وجهه لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله وكان أبو عبيدة ابن الجراح وهو أمير يحمل سطلا له من خشب إلى الحمام وقال ثابت بن أبي مالك رأيت أبا هريرة أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك وعن الأصبغ بن نباتة قال كأني أنظر إلى عمر رضي الله عنه معلقا لحما في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله وقال بعضهم رأيت عليا رضي الله عنه قد اشترى لحما بدرهم فحمله في ملحفته فقلت له أحمل عنك يا أمير المؤمنين فقال لا أبو العيال أحق أن يحمل ومنها اللباس إذ يظهر به التكبر والتواضع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم البذاذة من الإيمان حديث البذاذة من الإيمان أخرجه أبو داود وابن ماجه حديث أبي أمامة بن ثعلبة وقد تقدم فقال هارون سألت معنا عن البذاذة فقال هو الدون من اللباس وقال زيد بن وهب رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى السوق وبيده الدرة وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم وعوتب علي كرم الله وجهه في إزار مرقوع فقال يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب وقال عيسى عليه السلام جودة الثياب خيلاء في القلب وقال طاوس إني لأغسل ثوبي هذين فأنكر قلبي ما داما نقيين ويروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان قبل أن يستخلف تشترى له الحلة بألف دينار فيقول ما أجودها لولا خشونة فيها فلما استخلف كان يشترى له الثوب بخمسة دراهم فيقول ما أجوده لولا لينه فقيل له أين لباسك ومركبك وعطرك يا أمير المؤمنين فقال إن لي نفسا ذواقة وإنها لم تذق من الدنيا طبقة إلا تاقت إلى الطبقة التي فوقها حتى إذا ذاقت الخلافة وهي أرفع الطباق تاقت إلى ما عند الله عز وجل وقال سعيد بن سويد صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست فنكس رأسه مليا ثم رفع رأسه فقال إن أفضل القصد عند الجدة وإن أفضل العفو عند القدرة وقال صلى الله عليه وسلم من ترك زينة لله ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله وابتغاء لمرضاته كان حقا على الله أن يدخر له عبقري الجنة حديث من ترك زينة لله ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله الحديث أخرجه أبو سعيد الماليني في مسند الصوفية وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عباس من ترك زينة لله الحديث وفي إسناده نظر فإن قلت فقد قال عيسى عليه السلام جودة الثياب خيلاء القلب وقد سئل نبينا صلى الله عليه وسلم عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر فقال لا ولكن من سفه الحق وغمص الناس حديث سئل عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر فقال لا الحديث تقدم غير مرة فكيف طريق الجمع بينهما فاعلم أن الثوب الجديد ليس من ضرورته أن يكون من التكبر في حق كل أحد في كل حال وهو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حال ثابت بن قيس إذ قال إني امرؤ حبب إلي من الجمال ما ترى حديث إن ثابت بن قيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني امرؤ حبب إلي الجمال الحديث هو الذي قبله سمي فيه السائل وقد تقدم فعرف أن ميله إلى النظافة وجودة الثياب لا ليتكبر على غيره فإنه ليس من ضرورته أن يكون من الكبر وقد يكون ذلك من الكبر كما أن الرضا بالثوب الدون قد يكون من التواضع وعلامة المتكبر أن يطلب التجمل إذا رآه الناس ولا يبالي إذا انفرد بنفسه كيف كان وعلامة طالب الجمال أن يحب الجمال في كل شيء ولو في خلوته وحتى في سنور داره فذلك ليس من التكبر فإذا انقسمت الأحوال نزل قول عيسى عليه السلام على بعض الأحوال على أن قوله خيلاء القلب يعني قد تورث خيلاء في القلب وقول نبينا صلى الله عليه وسلم إنه ليس من الكبر يعني أن الكبر لا يوجبه ويجوز أن لا يوجبه الكبر ثم يكون هو مورثا للكبر وبالجملة فالأحوال تختلف في مثل هذا المحبوب الوسط من اللباس الذي لا يوجب شهرة بالجودة ولا بالرداءة وقد قال صلى الله عليه وسلم كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة حديث كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة أخرجه النسائي وابن ماجه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده حديث إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده أخرجه الترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أيضا وقد جعلهما المصنف حديثا واحدا وقال بكر بن عبد الله المزني البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية وإنما خاطب بهذا قوما يطلبون التكبر بثياب أهل الصلاح وقد قال عيسى عليه السلام ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب الضواري البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية ومنها أن يتواضع بالاحتمال إذا سب وأوذي وأخذ حقه فذلك هو الأصل وقد أوردنا ما نقل عن السلف من احتمال الأذى في كتاب الغضب والحسد وبالجملة فمجامع حسن الأخلاق والتواضع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيه فينبغي أن يقتدى به ومنه ينبغي أن يتعلم وقد قال أبو سلمة قلت لأبي سعيد الخدري ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم فقال يا ابن أخي كل لله واشرب لله والبس لله وكل شيء من ذلك دخله زهو أو مباهاة أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته كان يعلف الناضح ويعقل البعير ويقم البيت ويحلب الشاة ويخصف النعل ويرقع الثوب ويأكل مع خادمه ويطحن عنه إذا أعيا ويشتري الشيء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يلعقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه وينقلب إلى أهله يصافح الغني والفقير والكبير والصغير ويسلم مبتدئا على كل من استقبله من صغير أو كبير أسود أو أحمر حر أو عبد من أهل الصلاة ليست له حلة لمدخله وحلة لمخرجه لا يستحي من أن يجيب إذا دعي وإن كان أشعث أغبر ولا يحقر ما دعي إليه وإن لم يجد إلا حشف الدقل لا يرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء هين المؤنة لين الخلق كريم الطبيعة جميل المعاشرة طليق الوجه بسام من غير ضحك محزون من غير عبوس شديد في غير عنف متواضع في غير مذلة جواد من غير سرف رحيم لكل ذي قربى ومسلم رقيق القلب دائم الإطراق لم يبشم قط من شبع ولا يمد يده من طمع قال أبو سلمة فدخلت على عائشة رضي الله عنها فحدثتها بما قال أبو سعيد في زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ما أخطأ منه حرفا ولقد قصر إذ ما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمتلئ قط شبعا ولم يبث إلى أحد شكوى وإن كانت الفاقة لأحب إليه من اليسار والغنى وإن كان ليظل جائعا يلتوي ليلته حتى يصبح فما يمنعه ذلك عن صيام يومه ولو شاء أن يسأل ربه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها من مشارق الأرض ومغاربها لفعل وربما بكيت رحمة له مما أوتي من الجوع فأمسح بطنه بيدي وأقول نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع فيقول يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم وقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم فأصبر أياما يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غدا في الآخرة وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلائي قالت عائشة رضي الله عنها فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله عز وجل حديث أبي سعيد الخدري وعائشة قال الخدري لأبي سلمة عالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج في بيته كان يعلف الناضح الحديث وفيه قال أبو سلمة فدخلت على عائشة فحدثتها بذلك عن أبي سعيد فقالت ما أخطأ ولقد قصر أو ما أخبرك أنه لم يمتلئ قط شبعا الحديث بطوله لم أقف له على إسناد فما نقل من أحواله صلى الله عليه وسلم يجمع جملة أخلاق المتواضعين فمن طلب التواضع فليقتد به ومن رأى نفسه فوق محله صلى الله عليه وسلم ولم يرض لنفسه بما رضي هو به فما أشد جهله فلقد كان أعظم خلق الله منصبا في الدنيا والدين فلا عز ولا رفعة إلا في الاقتداء به ولذلك قال عمر رضي الله عنه إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نطلب العز في غيره لما عوتب في بذاذة هيئته عند دخوله الشام وقال أبو الدرداء اعلم أن لله عبادا يقال لهم الأبدال خلف من الأنبياء هم أوتاد الأرض فلما انقضت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولا حسن حلية ولكن بصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر من غير تجبن وتواضع في غير مذلة وهم قوم اصطفاهم الله واستخلصهم لنفسه وهم أربعون صديقا أو ثلاثون رجلا قلوبهم على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه واعلم يا أخي أنهم لا يلعنون شيئا ولا يؤذونه ولا يحقرونه ولا يتطاولون عليه ولا يحسدون أحدا ولا يحرصون على الدنيا هم أطيب الناس خيرا وألينهم عريكة وأسخاهم نفسا علامتهم السخاء وسجيتهم البشاشة وصفتهم السلامة ليسوا اليوم في خشية وغدا في غفلة ولكن مدامين على حالهم الظاهر وهم فيما بينهم وبين ربهم لا تدركهم الرياح العواصف ولا الخيل المجراة قلوبهم تصعد ارتياحا إلى الله واشتياقا إليه وقدما في استباق الخيرات أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون قال الراوي فقلت يا أبا الدرداء ما سمعت بصفة أشد علي من تلك الصفة وكيف لي أن أبلغها فقال ما بينك وبين أن تكون في أوسعها إلا أن تكون تبغض الدنيا فإنك إذا بغضت الدنيا أقبلت على حب الآخرة وبقدر حبك للآخرة تزهد في الدنيا وبقدر ذلك تبصر ما ينفعك وإذا علم الله من عبد حسن الطلب أفرغ عليه السداد واكتنفه بالعصمة واعلم يا ابن أخي أن ذلك في كتاب الله تعالى المنزل إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون قال يحيى بن كثير فنظرنا في ذلك فما تلذذ المتلذذون بمثل حب الله وطلب مرضاته اللهم اجعلنا من محبي المحبين لك يا رب العالمين فإنه لا يصلح لحبك إلا من ارتضيته صلى الله عليه وسلم.

بيان الطريق في معالجة الكبر واكتساب التواضع له

اعلم أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه وإزالته فرض عين ولا يزول بمجرد التمني بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له وفي معالجته مقامان أحدهما استئصال أصله من سنخه وقلع شجرته من مغرسها في القلب الثاني دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره المقام الأول في استئصال أصله وعلاجه علمي وعملي ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما أما العلمي فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ويكفيه ذلك في إزالة الكبر فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله أما معرفته ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول وهو منتهى علم المكاشفة وأما معرفته نفسه فهو أيضا يطول ولكنا نذكر من ذلك ما ينفع في إثارة التواضع والمذلة ويكفيه أن يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله فإن في القرآن علم الأولين والآخرين لمن فتحت بصيرته وقد قال تعالى قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية أما أول الإنسان فهو أنه لم يكن شيئا مذكورا وقد كان في حيز العدم دهورا بل لم يكن لعدمه أول وأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم وقد كان كذلك في القدم ثم خلقه الله من أرذل الأشياء ثم من أقذرها إذ قد خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم جعله عظما ثم كسا العظم لحما فقد كان هذا بداية وجوده حيث كان شيئا مذكورا فما صار شيئا مذكورا إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت إذ لم يخلق في ابتدائه كاملا بل خلقه جمادا ميتا لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا يعلم فبدأ بموته قبل حياته وبضعفه قبل قوته وبجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه وبضلالته قبل هداه وبفقره قبل غناه وبعجزه قبل قدرته فهذا معنى قوله من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ومعنى قوله هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه كذلك خلقه أولا ثم أمتن عليه فقال ثم السبيل يسره وهذا إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت وكذلك قال من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل وإما شاكرا أو كفورا ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جمادا ميتا ترابا أولا ونطفة ثانيا وأسمعه بعد ما كان أصم وبصره بعد ما كان فاقدا للبصر وقواه بعد الضعف وعلمه بعد الجهل وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها وأغناه بعد الفقر وأشبعه بعد الجوع وكساه بعد العرى وهداه بعد الضلال فانظر كيف دبره وصوره وإلى السبيل كيف يسره وإلى طغيان الإنسان ما أكفره وإلى جهل الإنسان كيف أظهره فقال أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون فانظر إلى نعمة الله كيف نقله من تلك الذلة والقلة والخسة والقذارة إلى هذه الرفعة والكرامة فصار موجودا بعد العدم وحيا بعد الموت وناطقا بعد البكم وبصيرا بعد العمى وقويا بعد الضعف وعالما بعد الجهل ومهديا بعد الضلال وقادرا بعد العجز وغنيا بعد الفقر فكان في ذاته لا شيء وأي شيء أخس من لا شيء وأي قلة أقل من العدم المحض ثم صار بالله شيئا وإنما خلقه من التراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام والنطفة القذرة بعد العدم المحض أيضا ليعرفه خسة ذاته فيعرف به نفسه وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ويعلم بها عظمته وجلاله وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا ولذلك امتن عليه فقال ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين وعرف خسته أولا فقال ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة ثم ذكر منته عليه فقال فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده أولا بالاختراع فمن كان هذا بدؤه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء وهو على التحقيق أخس الأخساء وأضعف الضعفاء ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم وذلك لدلالة خسة أوله ولا حول ولا قوة إلا بالله نعم لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة والأسقام العظيمة والآفات المختلفة والطباع المتضادة من المرة والبلغم والريح والدم يهدم البعض من أجزائه البعض شاء أم أبى رضي أم سخط فيجوع كرها ويعطش كرها ويمرض كرها ويموت كرها لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا يريد أن يعلم الشيء فيجهله ويريد أن يذكر الشيء فينساه ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار فلا يملك قلبه قلبه ولا نفسه نفسه ويشتهي الشيء وربما يكون هلاكه فيه ويكره الشيء وربما تكون حياته فيه يستلذ الأطعمة وتهلكه وترديه ويستبشع الأدوية وهي تنفعه وتحييه ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره وتفلج أعضاؤه ويختلس عقله ويختطف روحه ويسلب جميع ما يهواه في دنياه فهو مضطر ذليل إن ترك بقي وإن اختطف فنى عبد مملوك لا يقدر على شيء من نفسه ولا شيء من غيره فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه وأنى يليق الكبر به لولا جهله فهذا أوسط أحواله فليتأمله وأما آخره ومورده فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته فيعود جمادا كما كان أول مرة لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته لا حس فيه ولا حركة ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأول نطفة مذرة ثم تبلى أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه وتنخر عظامه ويصير رميما رفاتا ويأكل الدود أجزاءه فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما وبخديه فيقطعهما وبسائر أجزائه فيصير روثا في أجواف الديدان ويكون جيفة يهرب منه الحيوان ويستقذره كل إنسان ويهرب منه لشدة الإنتان وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان فيصير ترابا يعمل منه الكيزان ويعمل منه البنيان فيصير مفقودا بعد ما أن موجودا وصار كأن لم يغن بالأمس حصيدا كما كان في أول أمره أمدا مديدا وليته بقي كذلك فما أحسنه لو ترك ترابا لا بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة ويخرج إلى أهوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة وسماء مشققة ممزقة وأرض مبدلة وجبال مسيرة ونجوم منكدرة وشمس منكسفة وأحوال مظلمة وملائكة غلاظ شداد وجهنم تزفر وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر ويرى صحائف منشورة فيقال له اقرأ كتابك فيقول وما هو فيقال كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها وتفتخر بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك ما كنت تنطق به أو تعمله من قليل وكثير ونقير وقطمير وأكل وشرب وقيام وقعود قد نسيت ذلك وأحصاه الله عليك فهلم إلى الحساب واستعد للجواب أو تساق إلى دار العذاب فينقطع قلبه فزعا من هول هذا الخطاب قبل أن تنتشر الصحيفة ويشاهد ما فيها من مخازيه فإذا شاهده قال يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا إحصاها فهذا آخر أمره وهو معنى قوله تعالى ثم إذا شاء أنشره فما لمن هذا حاله والتكبر والتعظم بل ماله وللفرح في لحظة واحدة فضلا عن البطر والأشر فقد ظهر له أول حاله ووسطه ولو ظهر آخره والعياذ بالله تعالى ربما اختار أن يكون كلبا أو خنزيرا ليصير مع البهائم ترابا ولا يكون إنسانا يسمع خطابا أو يلقى عذابا وإن كان عند الله مستحقا للنار فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع إذ أوله التراب وآخره التراب وهو بمعزل عن الحساب والعذاب والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيفة فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من العفو كيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر ويتجبر وكيف يرى نفسه شيئا حتى يعتقد له فضلا وأي عبد لم يذنب ذنبا استحق به العقوبة إلا أن يعفو الله الكريم بفضله ويجبر الكسر بمنه والرجاء منه ذلك لكرمه وحسن الظن به ولا قوة إلا بالله أرأيت من جنى على بعض الملوك فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط فحبس إلى السجن وهو ينتظر أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق وليس يدري أيعفى عنه أم لا كيف يكون ذله في السجن أفترى أنه يتكبر على من في السجن وما من عبد مذنب إلا والدنيا سجنه وقد استحق العقوبة من الله تعالى ولا يدري كيف يكون آخر أمره فيكفيه ذلك حزنا وخوفا وإشفاقا ومهانة وذلا فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين كما وصفناه وحكيناه من أحوال الصالحين ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد حديث كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد تقدم في آداب المعيشة وقيل لسلمان لم لا تلبس ثوبا جديدا فقال إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوما لبست جديدا أشار به إلى العتق في الآخرة ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعا وقيل الصلاة عماد الدين وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عمادا ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائما وبالركوع والسجود وقد كانت العرب قديما يأنفون من الإنحناء فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه حتى قال حكيم بن حزام بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثم فقه وكمل إيمانه بعد ذلك حديث حكيم بن حزام بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما الحديث رواه أحمد مقتصرا على هذا وفيه إرسال خفي فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم ويزول كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم وبه أمر سائر الخلق فإن الركوع والسجود والمثول قائما هو العمل الذي يقتضيه التواضع فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقا فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعا وذلك لخفاء العلاقة بين القلوب والجوارح وسر الارتباط الذي بين عالم الملك وعالم الملكوت والقلب من عالم الملكوت المقام الثاني فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المذكورة وقد ذكرنا في كتاب ذم الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي فمن هذا يعسر على العالم أن لا يتكبر ولكنا نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في جميع الأسباب السبعة الأول النسب فيمن يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه بمعرفة أمرين أحدهما أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره ولذلك قيل لئن فخرت بآباء ذوي شرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا فالمتكبر بالنسب إن كان خسيسا في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره بل لو كان الذي ينسب إليه حيا لكان له أن يقول الفضل لي ومن أنت وإنما أنت دودة خلقت من بولي أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي من بول فرس هيهات بل هما متساويان والشرف للإنسان لا للدودة الثاني أن يعرف نسبه الحقيقي فيعرف أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة وجده البعيد تراب ذليل وقد عرفه الله تعالى نسبه فقال الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين فمن أصله التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينة حتى صار حمأ مسنونا كيف يتكبر وأخس الأشياء ما إليه انتسابه إذ يقال يا أذل من التراب ويا أنتن من الحمأة ويا أقذر من المضغة فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من التراب فنقول افتخر بالقريب دون البعيد فالنطفة والمضغة أقرب إليه من الأب فليحقر نفسه بذلك ثم إن كان ذلك يوجب رفعة لقربه فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده فإذن أصله من التراب وفصله من النطفة فلا أصل له ولا فصل وهذه غاية خسة النسب فالأصل يوطأ بالأقدام والفصل تغسل منه الأبدان فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ومن عرفه لم يتكبر بالنسب ويكون مثله بعد هذه المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم وقد أخبره بذلك والداه فلم يزل فيه نخوة الشرف فبينما هو كذلك إذ أخبره عدول لا يشك في قولهم أنه ابن هندي حجام يتعاطى القاذورات وكشفوا له وجه التلبيس عليه فلم يبق له شك في صدقهم أفترى أن ذلك يبقي شيئا من كبره لا بل يصير عند نفسه أحقر الناس وأذلهم فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره فهذا حال البصير إذا تفكر في أصله وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب إذ لو كان أبوه ممن يتعاطى نقل التراب أو يتعاطى الدم بالحجامة أو غيرها لكان يعلم به خسة نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو في نفسه السبب الثاني التكبر بالجمال ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ولا ينظر إلى باطنه نظر البهائم ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه الرجيع في أمعائه والبول في مثانته والمخاط في أنفه والبزاق في فيه والوسخ في أذنيه والدم في عروقه والصديد تحت بشرته والصنان تحت إبطه يغسل الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو مرتين ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره فضلا عن أن يمسه أو يشمه كل ذلك ليعرف قذارته وذله هذا في حال توسطه وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور من النطفة ودم الحيض وأخرج من مجرى الأقذار إذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم مفيض دم الحيض ثم خرج من مجرى القذر قال أنس رحمه الله كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبنا فيقذر إلينا أنفسنا ويقول خرج أحدكم من مجرى البول مرتين وكذلك قال طاوس لعمر بن عبد العزيز ما هذه مشية من في بطنه خراء إذ رآه يتبختر وكان ذلك قبل خلافته وهذا أوله ووسطه ولو ترك نفسه في حياته يوما لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان والأقذار وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط فإذا نظر أنه خلق من أقذار وأسكن في أقذار وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي فبينما هو كذلك إذ صار هشيما تذروه الرياح كيف ولو كان جماله باقيا وعن هذه القبائح خاليا لكان يجب أن لا يتكبر به على القبيح إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه ولا كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه كيف ولا بقاء له بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو جدري أو قرحة أو سبب من الأسباب فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب فمعرفة هذه الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها السبب الثالث التكبر بالقوة والأيدي ويمنعه من ذلك أن يعلم ما سلط عليه من العلل والأمراض وأنه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كل عاجز وأذل من كل ذليل وأنه لو سلبه الذباب شيئا لم يستنقذه منه وأن بقة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه لقتلته وأن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته وأن حمى يوم تحلل من قوته مالا ينجبر في مدة فمن لا يطيق شوكة ولا يقاوم بقة ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه ذبابة فلا ينبغي أن يفتخر بقوته ثم إن قوى الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل وأي افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم السبب الرابع والخامس الغنى وكثرة المال وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر بولاية السلاطين والتمكن من جهتهم وكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان كالجمال والقوة والعلم وهذا أقبح أنواع الكبر فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره ولو مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليلا والمتكبر بتمكين السلطان وولايته لا بصفة في نفسه بنى أمره على قلب هو أشد غليانا من القدر فإن تغير عليه كان أذل الخلق وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته فهو ظاهر الجهل كيف والمتكبر بالغنى لو تأمل لرأى في اليهود من يزيد عليه في الغنى والثروة والتجمل فأف لشرف يسبقك به اليهودي وأف لشرف يأخذه السارق في لحظة واحدة فيعود صاحبه ذليلا مفلسا فهذه أسباب ليست في ذاته وما هو في ذاته ليس إليه دوام وجوده وهو في الآخرة وبال ونكال فالتفاخر به غاية الجهل وكل ما ليس إليك فليس لك وشيء من هذه الأمور ليس إليك بل إلى واهبه إن أبقاه لك وإن استرجعه زال عنك وما أنت إلا عبد مملوك لا تقدر على شيء ومن عرف ذلك لا بد وأن يزول كبره ومثاله أن يفتخر الغافل بقوته وجماله وماله وحريته واستقلاله وسعة منازله وكثرة خيوله وغلمانه إذ شهد عليه شاهدان عدلان عند حاكم منصف بأنه رقيق لفلان وأن أبويه كانا مملوكين له فعلم ذلك وحكم به الحاكم فجاء مالكه فأخذه وأخذ جميع ما في يده وهو مع ذلك يخشى أن يعاقبه وينكل به لتفريطه في أمواله وتقصيره في طلب مالكه ليعرف أن له مالكا ثم نظر العبد فرأى نفسه محبوسا في منزل قد أحدقت به الحيات والعقارب والهوام وهو في كل حال على وجل من كل واحدة منها وقد بقي لا يملك نفسه ولا ماله ولا يعرف طريقا في الخلاص ألبتة أفترى من هذا حاله هل يفخر بقدرته وثروته وقوته وكماله أم يذل نفسه ويخضع وهذا حال كل عاقل بصير فإنه يرى نفسه كذلك فلا يملك رقبته وبدنه وأعضاءه وماله وهو مع ذلك بين آفات وشهوات وأمراض وأسقام هي كالعقارب والحيات يخاف منها الهلاك فمن هذا حاله لا يتكبر بقوته وقدرته إذ يعلم أنه لا قدرة له ولا قوة فهذا طريق علاج التكبر بالأسباب الخارجة وهو أهون من علاج التكبر بالعلم والعمل فإنهما كمالان في النفس جديران بأن يفرح بهما ولكن التكبر بهما أيضا نوع من الجهل خفي كما سنذكره السبب السادس الكبر بالعلم وهو أعظم الآفات وأغلب الأدواء وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة وجهد جهيد وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله عظيم عند الناس وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما بل لا قدر لهما أصلا إلا إذا كان معهما علم وعمل ولذلك قال كعب الأحبار إن للعلم طغيانا كطغيان المال وكذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه العالم إذا زل زل بزلته عالم فيعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين أحدهما أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش إذ لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحا فيطيف به أهل النار فيقولون مالك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه حديث يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه الحديث متفق عليه من حديث أسامة بن زيد بلفظ يؤتى بالرجل وتقدم في العلم وقد مثل الله سبحانه وتعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب فقال عز وجل مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا أراد به علماء اليهود وقال في بلعم بن باعوراء واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها حتى بلغ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث قال ابن عباس رضي الله عنهما أوتي بلعم كتابا فأخلد إلى شهوات الأرض أي سكن حبه إليها فمثله بالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث أي سواء آتيته الحكمة أو لم أوته لا يدع شهوته ويكفي العالم هذا الخطر فأي عالم لم يتبع شهوته وأي عالم لم يأمر بالخير الذي لا يأتيه فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أن قدره أعظم من قدر غيره فهذا بذاك وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون قد كان فقيرا فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال والعياذ بالله منه فهذا الخطر يمنع من التكبر فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه فكيف يتكبر من هذا حاله فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم وقد كان بعضهم يقول يا ليتني لم تلدني أمي ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول يا ليتني كنت هذه التبنة ويقول الآخر ليتني كنت طيرا أوكل ويقول الآخر ليتني لم أك شيئا مذكورا كل ذلك خوفا من خطر العاقبة فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالا من الطير ومن التراب ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره ورأى نفسه كأنه شر الخلق ومثاله مثال عبد أمره سيده بأمور فشرع فيها فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا فأخبره مخبر أن سيده أرسل إليه رسولا يخرجه من كل ما هو فيه عريانا ذليلا ويلقيه على بابه في الحر والشمس زمانا طويلا حتى إذا ضاق عليه الأمر وبلغ به المجهود أمر برفع حسابه وفتش عن جميع أعماله قليلها وكثيرها ثم أمر به إلى سجن ضيق وعذاب دائم لا يروح عنه ساعة وقد علم أن سيده قد فعل بطوائف من عبيده مثل ذلك وعفا عن بعضهم وهو لا يدري من أي الفريقين يكون فإذا تفكر في ذلك انكسرت نفسه وذل وبطل عزه وكبره وظهر حزنه وخوفه ولم يتكبر على أحد من الخلق بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب فكذلك العالم إذا تفكر فيما ضيعه من أوامر ربه بجنايات على جوارحه وبذنوب في باطنه من الرياء والحقد والحسد والعجب والنفاق وغيره وعلم بما هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة الأمر الثاني أن العالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده وأنه إذا تكبر صار ممقوتا عند الله بغيضا وقد أحب الله منه أن يتواضع وقال له إن لك عندي قدرا ما لم تر لنفسك قدرا فإن رأيت لنفسك قدرا فلا قدر لك عندي فلا بد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه وهذا يزيل التكبر عن قلبه وإن كان يستيقن أنه لا ذنب له مثلا أو تصور ذلك وبهذا زال التكبر عن الأنبياء عليهم السلام إذ علموا أن من نازع الله تعالى في رداء الكبرياء قصمه وقد أمرهم الله بأن يصغروا أنفسهم حتى يعظم عند الله محلهم فهذا أيضا مما يبعثه على التواضع لا محالة فإن قلت فكيف يتواضع للفاسق المتظاهر بالفسق وللمبتدع وكيف يرى نفسه دونهم وهو عالم عابد وكيف يجهل فضل العلم والعبادة عند الله تعالى وكيف يغنيه أن يخطر بباله خطر العلم وهو يعلم أن خطر الفاسق والمبتدع أكثر فاعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر في خطر الخاتمة بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن يتكبر عليه إذ يتصور أن يسلم الكافر فيختم له بالإيمان ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر والكبير من هو كبير عند الله في الآخرة والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا يدري ذلك فكم من مسلم نظر إلى عمر رضي الله عنه قبل إسلامه فاستحقره وازدراه لكفره وقد رزقه الله الإسلام وفاق جميع المسلمين إلا أبا بكر وحده فالعواقب مطوية عن العباد ولا ينظر العاقل إلا إلى العاقبة وجميع الفضائل في الدنيا تراد للعاقبة فإذن من حق العبد أن لا يتكبر على أحد بل إن نظر إلى جاهل قال هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فهو أعذر مني وإن نظر إلى عالم قال هذا قد علم ما لم أعلم فكيف أكون مثله وإن نظر إلى كبير هو أكبر منه سنا قال هذا قد أطاع الله قبلي فكيف أكون مثله وإن نظر إلى صغير قال إني عصيت الله قبله فكيف أكون مثله وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال ما يدريني لعله يختم له بالإسلام ويختم لي بما هو عليه الآن فليس دوام الهداية إلي كما لم يكن ابتداؤها إلي فبملاحظة الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه وكل ذلك بأن يعلم أن الكمال في سعادة الآخرة والقرب من الله لا فيما يظهر في الدنيا مما لا بقاء له ولعمري هذا الخطر مشترك بين المتكبر والمتكبر عليه ولكن حق على كل واحد أن يكون مصروف الهمة إلى نفسه مشغول القلب بخوفه لعاقبته لا أن يشتغل بخوف غيره فإن الشفيق بسوء الظن مولع وشفقة كل إنسان على نفسه فإذا حبس جماعة في جناية ووعدوا بأن تضرب رقابهم لم يتفرغوا لتكبر بعضهم على بعض وإن عمهم الخطر إذ شغل كل واحد نفسه عن الالتفات إلى هم غيره حتى كأن كل واحد هو وحده في مصيبته وخطره فإن قلت فكيف أبغض المبتدع في الله وأبغض الفاسق وقد أمرت ببغضهما ثم مع ذلك أتواضع لهما والجمع بينهما متناقض فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس على أكثر الخلق إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق بكبر النفس والإدلال بالعلم والورع فكم من عابد جاهل وعالم مغرور إذا رأى فاسقا جلس بجنبه أزعجه من عنده وتنزه عند بكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه قد غضب لله كما وقع لعابد بني إسرائيل مع خليعهم وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شرا والحذر منه ممكن والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله وهو خير فإن الغضبان أيضا يتكبر على من غضب عليه والمتكبر يغضب وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه وهما ممتزجان ملتبسان لا يميز بينهما إلا الموفقون والذي يخلصك من هذا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع أو الفاسق أو عند أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور أحدهما التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك ليصغر عند ذلك قدرك في عينك والثاني أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم واعتقاد الحق والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله تعالى عليك فله المنة فيه لا لك فترى ذلك منه حتى لا تعجب بنفسك وإذا لم تعجب لم تتكبر والثالث ملاحظة إبهام عاقبتك وعاقبتك أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه فإن قلت فكيف أغضب مع هذه الأحوال فأقول تغضب لمولاك وسيدك إذ أمرك أن تغضب له لا لنفسك وأنت في غضبك لا ترى نفسك ناجيا وصاحبك هالكا بل يكون خوفك على نفسك بما علم الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة وأعرفك ذلك بمثال لتعلم انه ليس من ضرورة الغضب لله أن تتكبر على المغضوب عليه وترى قدرك فوق قدره فأقول إذا كان للملك غلام وولد هو قرة عينه وقد وكل الغلام بالولد ليراقبه وأمره أن يضربه مهما أساء أدبه واشتغل بما لا يليق به ويغضب عليه فإن كان الغلام محبا مطيعا لمولاه فلا يجد بدا أن يغضب مهما رأى ولده قد أساء الأدب وإنما يغضب عليه لمولاه ولأنه أمره به ولأنه يريد التقرب بامتثال أمره إليه ولأنه جرى من ولده ما يكره مولاه فيضرب ولده ويغضب عليه من غير تكبر عليه بل هو متواضع له يرى قدره عند مولاه فوق قدر نفسه لأن الولد أعز لا محالة من الغلام فإذن ليس من ضرورة الغضب التكبر وعدم التواضع فكذلك يمكنك أن تنظر إلى المبتدع والفاسق وتظن أنه ربما كان قدرهما في الآخرة عند الله أعظم لما سبق لهما من الحسنى في الأزل ولما سبق لك من سوء القضاء في الأزل وأنت غافل عنه ومع ذلك فتغضب بحكم الأمر محبة لمولاك إذ جرى ما يكرهه مع التواضع لمن يجوز أن يكون عنده أقرب منك في الآخرة فهكذا يكون بعض العلماء الأكياس فينضم إليه الخوف والتواضع وأما المغرور فإنه يتكبر ويرجو لنفسه أكثر مما يرجوه لغيره مع جهله بالعاقبة وذلك غاية الغرور فهذا سبيل التواضع لمن عصى الله أو اعتقد البدعة مع الغضب عليه ومجانبته بحكم الأمر السبب السابع التكبر بالورع والعبادة وذلك أيضا فتنة عظيمة على العباد وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد وهو أن يعلم أن من يتقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان لما عرفه من فضيلة العلم وقد قال تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقال صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي حديث فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وتقدم في العلم إلى غير ذلك مما ورد في فضل العلم فإن قال العابد ذلك لعالم عامل بعلمه وهذا عالم فاجر فيقال له أما عرفت أن الحسنات يذهبن السيئات وكما أن العلم يمكن أن يكون حجة على العالم فكذلك يمكن أن يكون وسيلة له وكفارة لذنوبه وكل واحد منهما ممكن وقد وردت الأخبار بما يشهد لذلك وإذا كان هذا الأمر غائبا عنه لم يجز له أن يحتقر عالما بل يجب عليه التواضع له فإن قلت فإن صح هذا فينبغي أن يكون للعالم أن يرى نفسه فوق العابد لقوله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي فاعلم أن ذلك كان ممكنا لو علم العالم عاقبة أمره وخاتمة الأمر مشكوك فيها فيحتمل أن يموت بحيث يكون حاله عند الله أشد من حال الجاهل الفاسق لذنب واحد كان يحسبه هينا وهو عند الله عظيم وقد مقته به وإذا كان هذا ممكنا كان على نفسه خائفا فإذا كان كل واحد من العابد والعالم خائفا على نفسه وقد كلف أمر نفسه لا أمر غيره فينبغي أن يكون الغالب عليه في حق نفسه الخوف وفي حق غيره الرجاء وذلك يمنعه من التكبر بكل حال فهذا العابد مع العالم فأما مع غير العالم فهم منقسمون في حقه إلى مستورين وإلى مكشوفين فينبغي أن لا يتكبر على المستور فلعله أقل عنه ذنوبا وأكثر منه عبادة وأشد منه حبا لله وأما المكشوف حاله إن لم يظهر لك من الذنوب إلا ما تزيد عليه ذنوبك في طول عمرك فلا ينبغي أن تتكبر عليه ولا يمكن أن تقول هو أكثر مني ذنبا لأن عدد ذنوبك في طول عمرك وذنوب غيرك في طول العمر لا تقدر على إحصائها حتى تعلم الكثرة نعم يمكن أن تعلم أن ذنوبه أشد كما لو رأيت منه القتل والشرب والرياء ومع ذلك فلا ينبغي أن تتكبر عليه إذ ذنوب القلوب من الكبر والحسد والرياء والغل واعتقاد الباطل والوسوسة في صفات الله تعالى وتخيل الخطأ في ذلك كل ذلك شديد عند الله فربما جرى عليك في باطنك من خفايا الذنوب ما صرت به عند الله ممقوتا وقد جرى للفاسق الظاهر الفسق من طاعات القلوب من حب الله وإخلاص وخوف وتعظيم ما أنت خال عنه وقد كفر الله بذلك عنه سيئاته فينكشف الغطاء يوم القيامة فتراه فوق نفسك بدرجات فهذا ممكن والإمكان البعيد فيما عليك ينبغي أن يكون قريبا عندك إن كنت مشفقا على نفسك فلا تتفكر فيما هو ممكن لغيرك بل فيما هو مخوف في حقك فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى وعذاب غيرك لا يخفف شيئا من عذابك فإذا تفكرت في هذا الخطر كان عندك شغل شاغل عن التكبر وعن أن ترى نفسك فوق غيرك وقد قال وهب بن منبه ما تم عقل عبد حتى يكون فيه عشر خصال فعد تسعة حتى بلغ العاشر فقال العاشرة وما العاشرة بها شاد مجده وبها علا ذكره أن يرى الناس كلهم خيرا منه وإنما الناس عنده فرقتان فرقة هي أفضل منه وأرفع وفرقة هي شر منه وأدنى فهو يتواضع للفرقتين جميعا بقلبه إن رأى من هو خير منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به وإن رأى من هو شر منه قال لعل هذا ينجو وأهلك أنا فلا تراه إلا خائفا من العاقبة ويقوم لعل بر هذا باطن فذلك خير له ولا أدري لعل فيه خلقا كريما بينه وبين الله فيرحمه الله ويتوب عليه ويختم له بأحسن الأعمال ويرى ظاهر فذلك شر لي فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها ثم قال فحينئذ كمل عقله وساد أهل زمانه فهذا كلامه وبالجملة فمن جوز أن يكون عند الله شقيا وقد سبق القضاء في الأزل بشقوته فماله سبيل إلى أن يتكبر بحال من الأحوال نعم إذا غلب عليه الخوف رأى كل أحد خيرا من نفسه وذلك هو الفضيلة كما روى أن عابدا آوى إلى جبل فقيل له في النوم ائت فلانا الإسكاف فسله أن يدعو لك فأتاه فسأله عن عمله فأخبره أنه يصوم النهار ويكتسب فيتصدق ببعضه ويطعم عياله ببعضه فرجع وهو يقول إن هذا لحسن ولكن ليس هذا كالتفرغ لطاعة الله فأتى في النوم ثانيا فقيل له ائت فلانا الإسكاف فقل له ما هذا الصفار الذي بوجهك فأتاه فسأله فقال له ما رأيت أحدا من الناس إلا وقع لي أنه سينجو وأهلك أنا فقال العابد بهذه والذي يدل على فضيلة هذه الخصلة قوله تعالى يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أي أنهم يؤتون الطاعات وهم على وجل عظيم من قبولها وقال تعالى إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وقال تعالى إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين وقد وصف الله تعالى الملائكة عليهم السلام مع تقدسهم عن الذنوب ومواظبتهم على العبادات على الدءوب بالإشفاق فقال تعالى مخبرا عنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم من خشيته مشفقون فمتى زال الإشفاق والحذر مما سبق به القضاء في الأزل وينكشف عند خاتمة الأجل غلب الأمن من مكر الله وذلك يوجب الكبر وهو سبب الهلاك فالكبر دليل الأمن والأمن مهلك والتواضع دليل الخوف وهو مسعد فإذن ما يفسده العابد بإضمار الكبر واحتقار الخلق والنظر إليهم بعين الاستصغار أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب لا غير إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد تضمر التواضع وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة فإذا وقعت الواقعة عادت إلى طبعها ونسيت وعدها فعلى هذا لا ينبغي أن يكتفي في المداواة بمجرد المعرفة بل ينبغي أن تكمل بالعمل وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر في النفس وبيانه أن يمتحن النفس بخمس امتحانان هي أدلة على استخراج ما في الباطن وإن كانت الامتحانات كثيرة الامتحان الأول أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والاعتراف به والشكر له على تنبيهه وتعريفه وإخراجه الحق فذلك يدل على أن فيه كبرا دفينا فليتق الله فيه ويشتغل بعلاجه أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه وخطر عاقبته وأن الكبر لا يليق إلا بالله تعالى وأما العمل فبأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق وأن يطلق اللسان بالحمد والثناء ويقر على نفسه بالعجز ويشكره على الاستفادة ويقول ما أحسن ما فطنت له وقد كنت غافلا عنه فجزاك الله خيرا كما نبهتني له فالحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها ينبغي أن يشكر من دله عليها فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعا وسقط ثقل الحق عن قلبه وطاب له قبوله ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه بما فيهم ففيه كبر فإن كان ذلك لا يثقل عليه في الخلوة ويثقل عليه في الملأ فليس فيه كبر وإنما فيه رياء فليعالج الرياء بما ذكرناه من قطع الطمع عن الناس ويذكر القلب بأن منفعته في كماله في ذاته وعند الله لا عند الخلق إلى غير ذلك من أدوية الرياء وإن ثقل عليه في الخلوة والملأ جميعا ففيه الكبر والرياء جميعا ولا ينفعه الخلاص من أحدهما ما لم يتخلص من الثاني فليعالج كلا الداءين فإنهما جميعا مهلكان الامتحان الثاني أن يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ويمشي خلفهم ويجلس في الصدور تحتهم فإن ثقل عليه ذلك فهو متكبر فليواظب عليه تكلفا حتى يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر وههنا للشيطان مكيدة وهو أن يجلس في صف النعال أو يجعل بينه وبين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضع وهو عين الكبر فإن ذلك يخف على صدور المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل فيكون قد تكبر وتكبر بإظهار التواضع أيضا بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس بينهم بجنبهم ولا ينحط عنهم إلى صف النعال فذلك هو الذي يخرج خبث الكبر من الباطن الامتحان الثالث أن يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب فإن ثقل ذلك عليه فهو كبر فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل فنفور النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر الامتحان الرابع أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت فإن أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء فإن كان يثقل ذلك عليه مع خلو الطريق فهو كبر وإن كان لا يثقل عليه إلا مع مشاهدة الناس فهو رياء وكل ذلك من أمراض القلب وعلله المهلكة له إن لم تتدارك وقد أهمل الناس طب القلوب واشتغلوا بطب الأجساد مع أن الأجساد قد كتب عليها الموت لا محالة والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها إذ قال تعالى إلا من أتى الله بقلب سليم ويروى عن عبد الله بن سلام أنه حمل حزمة حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في غلمانك وبنتك ما يكفيك قال أجل ولكن أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى جربها أهي صادقة أم كاذبة وفي الخبر من حمل الفاكهة أو الشيء فقد برئ من الكبر حديث من حمل الشيء والفاكهة فقد برئ من الكبر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة وضعفه بلفظ من حمل بضاعته الامتحان الخامس أن يلبس ثيابا بذلة فإن نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء وفي الخلوة كبر وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه له مسح يلبسه بالليل وقد قال صلى الله عليه وسلم من اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر حديث من اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بزيادة فيه وفي إسناده القاسم اليعمري ضعيف جدا وقال صلى الله عليه وسلم إنما أنا عبد آكل بالأرض وألبس الصوف وأعقل البعير وألعق أصابعي وأجيب دعوة المملوك فمن رغب عن سنتي فليس مني حديث إنما أن عبد آكل بالأرض وألبس الصوف الحديث تقدم بعضه ولم أجد بقيته وروي أن أبا موسى الأشعري قيل له إن أقواما يتخلفون عن الجمعة بسبب ثيابهم فلبس عباءة فصلى فيها بالناس وهذه مواضع يجتمع فيها الرياء والكبر فما يختص بالملأ فهو الرياء وما يكون في الخلوة فهو الكبر فاعرف فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ومن لا يدرك المرض لا يداويه.

بيان غاية الرياضة في خلق التواضع

اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان وواسطة فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبرا وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسسا ومذلة والوسط يسمى تواضعا والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس فإن كلا طرفي الأمور ذميم وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ومن يتأخر عنهم فهو متواضع أي وضع شيئا من قدره الذي يستحقه والعالم إذا دخل عليه إسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ثم تقدم وسوى له نعله وعدا إلى باب الدار خلفه فقد تخاسس وتذلل وهذا أيضا غير محمود بل المحمود عند الله العدل وهو أن يعطي كل ذي حق حقه فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من درجته فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك وأن لا يرى نفسه خيرا منه بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة أمره فإذن سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم حتى يخف عليه التواضع المحمود في محاسن العادات ليزول به الكبر عنه فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق التواضع وإن كان يثقل عليه وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع بل الخلق ما يصدر عنه الفعل بسهولة من غير ثقل ومن غير روية فإن خف ذلك وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره حتى أحب التملق والتخاسس فقد خرج إلى طرف النقصان فليرفع نفسه إذ ليس للمؤمن أن تذل نفسه إلى أن يعود إلى الوسط الذي هو الصراط المستقيم وذلك غامض في هذا الخلق وفي سائر الأخلاق والميل عن الوسط إلى طرف النقصان وهو التملق أهون من الميل إلى طرف الزيادة بالتكبر كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف البخل فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان وأحدهما أفحش وكذلك نهاية التكبر ونهاية التنقص والتذلل مذمومان وأحدهما أقبح من الآخر والمحمود المطلق هو العدل ووضع الأمور مواضعها كما يجب وعلى ما يجب كما يعرف ذلك بالشرع والعادة ولنقتصر على هذا القدر من بيان أخلاق الكبر والتواضع. الشطر الثاني من الكتاب في العجب وفيه بيان ذم العجب وآفاته وبيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما وبيان علاج العجب على الجملة وبيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه.

بيان ذم العجب وآفاته

اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ذكر ذلك في معرض الإنكار وقال عز وجل وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فاتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فرد على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم وقال تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهذا أيضا يرجع إلى العجب بالعمل وقد يعجب الإنسان بالعمل هو مخطئ فيه كما يعجب بعمل هو مصيب فيه وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم غير مرة وقال لأبي ثعلبة حيث ذكر آخر هذه الأمة فقال إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك حديث أبي ثعلبة إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وقد تقدم وقال ابن مسعود الهالك في اثنتين القنوط والعجب وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر والقانط لا يسعى ولا يطلب والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى فالموجود لا يطلب والمحال لا يطلب والسعادة موجودة في اعتقاد المعجب حاصلة له ومستحيلة في اعتقاد القانط فمن ههنا جمع بينهما وقد قال تعالى فلا تزكوا أنفسكم قال ابن جريج معناه إذا عملت خيرا فلا تقل عملت وقال زيد بن أسلم لا تبروها أي لا تعتقدوا أنها بارة وهو معنى العجب ووقى طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بنفسه فأكب عليه حتى أصيبت كفه فكأنه أعجبه فعله العظيم إذ فداه بروحه حتى جرح فتفرس ذلك عمر فيه فقال مازال يعرف في طلحة فأو منذ أصيبت أصبعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث وقى طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وأكب عليه حتى أصيبت كفه أخرجه البخاري من وراية قيس بن أبي حازم قال رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم والنأو هو العجب في اللغة إلا أنه لم ينقل فيه أنه أظهره واحتقر مسلما ولما كان وقت الشورى قال له ابن عباس أين أنت من طلحة قال ذلك رجل فيه تحوة فإذا كان لا يتخلص من العجب أمثالهم فكيف يتخلص من الضعفاء إن لم يأخذوا حذرهم وقال مطرف لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أبيت قائما وأصبح معجبا وقال صلى الله عليه وسلم لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب حديث لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب أخرجه البزار وابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث أنس وفيه سلام بن أبي الصهباء قال البخاري منكر الحديث وقال أحمد حسن الحديث ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد بسند ضعيف جدا فجعل العجب أكبر الذنوب وكان بشر بن منصور من الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى والدار الآخرة لمواظبته على العبادة فأطال الصلاة يوما ورجل خلفه ينظر ففطن له بشر فلما انصرف عن الصلاة قال له لا يعجبنك ما رأيت مني فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله تعالى مع الملائكة مدة طويلة ثم صار إلى ما صار إليه وقيل لعائشة رضي الله عنها متى يكون الرجل مسيئا قالت إذا ظن أنه محسن وقد قال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى والمن نتيجة استعظام الصدقة واستعظام العمل هو العجب فظهر بهذا أن العجب مذموم جدا.

بيان آفة العجب

اعلم أن آفات العجب كثيرة فإن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه كما ذكرناه فيتولد من العجب الكبر ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى هذا مع العباد وأما مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها فبعض ذنوبه لا يذكرها ولا يتفقدها لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها وما يتذكره منها فيستصغره ولا يستعظمه فلا يجتهد في تداركه وتلافيه بل يظن أنه يغفر له وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويتبجح بها ويمن على الله بفعلها وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين منها ثم إذا عجب بها عمي عن آفاتها ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعا فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع وإنما يتفقد من يغلب عليه الإشفاق والخوف دون العجب والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان وأن له عند الله منة وحقا بأعماله التي هي نعمة وعطية من عطاياه ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها وإن أعجب برأيه وعمله وعقله منع ذلك من الاستفادة ومن الاستشارة والسؤال فيستبد بنفسه ورأيه ويستنكف من سؤال من هو أعلم منه وربما يعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره ولا يفرح بخواطر غيره فيصر عليه ولا يسمع نصح ولا وعظ واعظ بل ينظر إلى غيره بعين الاستجهال ويصر على خطئه فإن كان رأيه في أمر دنيوي فيحقق فيه وإن كان في أمر ديني لا سيما فيما يتعلق بأصول العقائد فيهلك به ولو اتهم نفسه ولم يثق برأيه واستضاء بنور القرآن واستعان بعلماء الدين وواظب على مدارسة العلم وتابع سؤال أهل البصيرة لكان ذلك يوصله إلى الحق فهذا وأمثاله من آفات العجب فلذلك كان من المهلكات ومن أعظم آفاته أن يفتر في السعي لظنه أنه قد فاز وأنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه نسأل الله تعالى العظيم حسن التوفيق لطاعته.

بيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما

اعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة وللعالم بكمال نفسه في علم وعمل ومال وغيره حالتان إحداهما أن يكون خائفا على زواله ومشفقا على تكدره أو سلبه من أصله فهذا ليس بمعجب والأخرى أن لا يكون خائفا من زواله لكن يكون فرحا به من حيث إنه نعمة من الله تعالى عليه لا من حيث إضافته إلى نفسه وهذا أيضا ليس بمعجب وله حالة ثالثة هي العجب وهي أن يكون غير خائف عليه بل يكون فرحا به مطمئنا إليه ويكون فرحه به من حيث إنه كمال ونعمة وخير ورفعة لا من حيث إنه عطية من الله تعالى ونعمة منه فيكون فرحه من حيث إنه صفته ومنسوب إليه بأنه له لا من حيث إنه منسوب إلى الله تعالى بأنه منه فمهما غلب على قلبه أنه نعمة من الله مهما شاء سلبها عنه زال العجب بذلك عن نفسه فإذن العجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم فإن انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقا وأنه منه بمكان حتى يتوقع بعمله كرامة في الدنيا واستبعد أن يجري عليه مكروه استبعادا يزيد على استبعاده ما يجري على الفساق سمي هذا إدلالا بالعمل فكأنه يرى لنفسه على الله دالة وكذلك قد يعطي غيره شيئا فيستعظمه ويمن عليه فيكون معجبا فإن استخدمه أو اقترح عليه الاقتراحات أو استبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلا عليه وقال قتادة في قوله تعالى ولا تمنن تستكثر أي لا تدل بعملك وفي الخبر إن صلاة المدل لا ترفع فوق رأسه ولأن تضحك وأنت معترف بذنبك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك حديث إن صلاة المدل لا ترفع فوق رأسه الحديث لم أجد له أصلا والإدلال وراء العجب فلا مدل إلا وهو معجب ورب معجب لا يدل إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء فإن توقع إجابة دعوته واستنكر ردها بباطنه وتعجب منه كان مدلا بعمله لأنه لا يتعجب من رد دعاء الفاسق ويتعجب من رد دعاء نفسه لذلك فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه والله تعالى أعلم.

بيان علاج العجب على الجملة

اعلم أن علاج كل علة هو مقابلة سببها بضده وعلة العجب الجهل المحض فعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل فقط فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد كالعبادة والصدقة والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم فإن العجب بهذا أغلب من العجب بالجمال والقوة والنسب وما لا يدخل تحت اختياره ولا يراه من نفسه فنقول الورع والتقوى والعبادة والعمل الذي به يعجب إنما يعجب به من حيث إنه فيه فهو محله ومجراه أو من حيث إنه منه وبسببه وبقدرته وقوته فإن كان يعجب به من حيث إنه فيه وهو محله ومجراه يجري فيه وعليه من جهة غيره فهذا جهل لأن المحل مسخر ومجرى لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل فكيف يعجب بما ليس إليه وإن كان يعجب به من حيث إنه هو منه وإليه وباختياره حصل وبقدرته تم فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وأعضائه وسائر الأسباب التي بها يتم عمله أنها من أين كانت له فإن كان جميع ذلك نعمة من الله عليه من غير حق سبق له ومن غير وسيلة يدلي بها فينبغي أن يكون إعحابه بجود الله وكرمه وفضله إذ أفاض عليه ما لا يستحق وآثره به على غيره من غير سابقة ووسيلة فمهما برز الملك لغلمانه ونظر إليهم وخلع من جملتهم على واحد منهم لا لصفة فيه ولا لوسيلة ولا لجماله ولا لخدمة فينبغي أن يتعجب المنعم عليه من فضل الملك وحكمه وإيثاره من غير استحقاق وإعجابه بنفسه من أين وما سببه ولا ينبغي أن يعجب بنفسه نعم يجوز أن يعجب العبد فيقول الملك حكم عدل لا يظلم ولا يقدم ولا يؤخر إلا لسبب لولا أنه تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنة لما اقتضى الإيثار بالخلعة ولما آثرني بها فيقال وتلك الصفة أيضا هي من خلعة الملك وعطيته التي خصصك بها من غيرك من غير وسيلة أو هي عطية غيره فإن كانت من عطية الملك أيضا لم يكن لك أن تعجب بها بل كانوا كما لو أعطاك فرسا فلم تعجب به فأعطاك علاما فصرت تعجب به وتقول إنما أعطاني غلاما لأني صاحب فرس فأما غيري فلا فرس له فيقال وهو الذي أعطاك الفرس فلا فرق بين أن يعطيك الفرس والغلام معا أو يعطيك أحدهما بعد الآخر فإذا كان الكل منه فينبغي أن يعجبك جوده وفضله لا نفسك وأما إن كانت تلك الصفة من غيره فلا يبعد أن تعجب بتلك الصفة وهذا يتصور في حق الملوك ولا يتصور في حق الجبار القاهر ملك الملوك المنفرد باختراع الجميع المنفرد بإيجاد الموصوف والصفة فإنك إن أعجبت بعادتك وقلت وفقني للعبادة لحبي له فيقال ومن خلق الحب في قلبك فتقول هو فيقال فالحب والعبادة كلاهما نعمتان من عنده ابتدأك بهما من غير استحقاق من جهتك إذ لا وسيلة لك ولا علاقة فيكون الإعجاب بجوده إذ أنعم بوجودك ووجود صفاتك وبوجود أعمالك وأسباب أعمالك فإذا لا معنى لعجب العابد بعبادته وعجب العالم بعلمه وعجب الجميل بجماله وعجب الغني بغناه لأن كل ذلك من فضل الله وإنما هو محل لفيضان فضل الله تعالى وجوده والمحل أيضا من فضله وجوده فإن قلت لا يمكنني أن أجهل أعمالي وإني أنا عملتها فإني أنتظر عليها ثوابا ولولا أنها عملي لما انتظرت ثوابا فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع فمن أين لي الثواب وإن كانت الأعمال مني وبقدرته فكيف لا أعجب بها فاعلم أن جوابك من وجهين أحدهما هو صريح الحق والآخر فيه مسامحة أما صريح الحق فهو أنك وقدرتك وإرادتك وحركتك وجميع ذلك من خلق الله واختراعه فما عملت إذ عملت وما صليت إذ صليت وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فهذا هو الحق الذي انكشف لأرباب القلوب بمشاهدة أوضح من إبصار العين بل خلقك وخلق أعضاءك وخلق فيها القوة والقدرة والصحة وخلق لك العقل والعلم وخلق لك الإرادة ولو أردت أن تنفي شيئا من هذا عن نفسك لم تقدر عليه ثم خلق الحركات في أعضائك مستبدا باختراعها من غير مشاركة من جهتك معه في الاختراع إلا أنه خلقه على ترتيب فلم يخلق الحركة ما لم يخلق في العضو قوة وفي القلب إرادة ولم يخلق إرادة ما لم يخلق علما بالمراد ولم يخلق علما ما لم يخلق القلب الذي هو محل العلم فتدريجه في الخلق شيئا بعد شيء هو الذي خيل لك أنك أوجدت عملك وقد غلطت وإيضاح ذلك وكيفية الثواب على عمل هو من خلق الله سيأتي تقريره في كتاب الشكر فأنه أليق به فارجع إليه ونحن الآن نزيل إشكالك بالجواب الثاني الذي فيه مسامحة ما وهو أن تحسب أن العمل حصل بقدرتك فمن أين قدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك ووجود عملك وإرادتك وسائر أسباب عملك وكل ذلك من الله تعالى لا منك فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه وهذا المفتاح بيد الله ومهما لم يعطك المفتاح فلا يمكنك العمل فالعبادات خزائن بها يتوصل إلى السعادات ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بيد الله لا محالة أرأيت لو رأيت خزائن الدنيا مجموعة في قلعة حصينة ومفتاحها بيد خازن ولو جلست على بابها وحول حيطانها ألف سنة لم يمكنك أن تنظر إلى دينار مما فيها ولو أعطاك المفتاح لأخذته من قريب بأن تبسط يدك إليه فتأخذه فقط فإذا أعطاك الخازن المفاتيح وسلطك عليها ومكنك منها فمددت يدك وأخذتها كان إعجابك بإعطاء الخازن المفاتيح أو بما إليك من مد اليد وأخذها فلا تشك في أنك ترى ذلك نعمة من الخازن لأن المؤنة في تحريك اليد بأخذ المال قريبة وإنما الشأن كله في تسليم المفاتيح فكذلك مهما خلقت القدرة وسلطت الإرادة الجازمة وحركت الدواعي والبواعث وصرف عنك الموانع والصوارف حتى لم يبق صارف إلا دفع ولا باعث إلا وكل بك فالعمل هين عليك وتحريك البواعث وصرف العوائق وتهيئة الأسباب كلها من الله ليس شيء منها إليك فمن العجائب أن تعجب بنفسك ولا تعجب بمن إليه الأمر كله ولا تعجب بجوده وفضله وكرمه في إيثاره إياك على الفساق من عباده إذ سلط دواعي الفساد على الفساق وصرفها عنك وسلط أخدان السوء ودعاة الشر عليهم وصرفهم عنك ومكنك من أسباب الشهوات واللذات وزواها عنك وصرف عنهم بواعث الخير ودواعيه وسلطها عليك حتى تيسر لك الخير وتيسر لهم الشر فعل ذلك كله بك من غير وسيلة سابقة منك ولا جريمة سابقة من الفاسق العاصي بل آثرك وقدمك واصطفاك بفضله وأبعد العاصي وأشقاه بعدله فما أعجب إعجابك بنفسك إذا عرفت ذلك فإذن لا تنصرف قدرتك إلى المقدور إلا بتسليط الله عليك داعية لا تجد سبيلا إلى مخالفتها فكأنه الذي اضطرك إلى الفعل إن كنت فاعلا تحقيقا فله الشكر والمنة لا لك وسيأتي في كتاب التوحيد والتوكل من بيان تسلسل الأسباب والمسببات ما تستبين به أنه لا فاعل إلا الله ولا خالق سواه والعجب ممن يتعجب إذا رزقه الله عقلا وأفقره فمن أفاض عليه المال من غير علم فيقول كيف منعني قوت يومي وأنا العاقل الفاضل وأفاض على هذا نعيم الدنيا وهو الغافل الجاهل حتى يكاد يرى هذا ظلما ولا يدري المغرور أنه لو جمع له بين العقل والمال جميعا لكان ذلك بالظلم أشبه في ظاهر الحال إذ يقول الجاهل الفقير يا رب لم جمعت له بين العقل والغنى وحرمتني منهما فهلا جمعتهما لي أو لا هلا رزقتني أحدهما وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حيث قيل له ما بال العقلاء فقراء فقال إن عقل الرجل محسوب عليه من رزقه والعجب أن العاقل الفقير ربما يرى الجاهل الغني أحسن حالا من نفسه ولو قيل له هل تؤثر جهله وغناه عوضا عن عقلك وفقرك لامتنع عنه فإذن ذلك يدل على أن نعمة الله عليه أكبر فلم يتعجب من ذلك والمرأة الحسناء الفقيرة ترى الحلي والجواهر على الدميمة القبيحة فتعجب وتقول كيف يحرم مثل هذا الجمال من الزينة ويخصص مثل ذلك القبح ولا تدري المغرورة أن الجمال محسوب عليها من رزقها وأنها لو خيرت بين الجمال وبين القبح مع الغنى لآثرت الجمال فإذن نعمة الله عليها أكبر وقول الحكيم الفقير العاقل بقلبه يا رب لم حرمتني الدنيا وأعطيتها الجهال كقول من أعطاه الملك فرسا فيقول أيها الملك لم لا تعطيني الغلام وأنا صاحب فرس فيقول كنت لا تتعجب من هذا لو لم أعطك الفرس فهب أني ما أعطيتك فرسا أصارت نعمتي عليك وسيلة لك وحجة تطلب بها نعمة أخرى فهذه أوهام لا تخلو الجهال عنها ومنشأ جميع ذلك الجهل ويزال ذلك بالعلم المحقق بأن العبد وعمله وأوصافه كل ذلك من عند الله تعالى نعمة ابتدأه به قبل الاستحقاق وهذا ينفي العجب والإدلال ويورث الخضوع والشكر والخوف من زوال النعمة ومن عرف هذا لم يتصور أن يعجب بعلمه وعمله إذ يعلم أن ذلك من الله تعالى ولذلك قال داود عليه السلام يا رب ما تأتي ليلة إلا وإنسان من آل داود صائم وفي رواية ما تمر ساعة من ليل أو نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك إما يصلي وإما يصوم وإما يذكرك فأوحى الله تعالى إليه يا داود ومن أين لهم ذلك إن ذلك لم يكن إلا بي ولولا عوني إياك ما قويت وسأكلك إلى نفسك قال ابن عباس إنما أصاب داود ما أصاب من الذنب بعجبه بعمله إذ أضافه إلى آل داود مدلا به حتى وكل إلى نفسه فأذنب ذنبا أورثه الحزن والندم وقال داود يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال إني ابتليتهم فصبروا فقال يا رب وأنا إن ابتليتني صبرت فأدل بالعمل قبل وقته فقال الله تعالى فإني لم أخبرهم بأي شيء أبتليهم ولا في أي شهر ولا في أي يوم وأنا مخبرك في سنتك هذه وشهرك هذا أبتليك غدا بامرأة فاحذر نفسك فوقع فيما وقع فيه وكذلك لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم ونسوا فضل الله تعالى عليهم وقالوا لا نغلب اليوم من قلة حديث قولهم يوم حنين لا نغلب اليوم من قلة أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من رواية الربيع بن أنس مرسلا أن رجلا قال يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ولابن مردويه في تفسيره من حديث أنس لما التقوا يوم حنين أعجبتهم كثرتهم فقالوا اليوم نقاتل ففروا فيه الفرح بن فضالة ضعفه الجمهور وكلوا إلى أنفسهم فقال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين روى ابن عيينة أن أيوب عليه السلام قال إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء وما ورد على أمر إلا آثرت هواك على هواي فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت يا أيوب أنى لك ذلك أي من أين لك ذلك قال فأخذ رمادا ووضعه على رأسه وقال منك يا رب منك يا رب فرجع من نسيانه إلى إضافة ذلك إلى الله تعالى ولهذا قال الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم خير الناس ما منكم من أحد ينجيه عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته حديث ما منكم من أحد ينجيه عمله الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة ولقد كان أصحابه من بعده يتمنون أن يكونوا ترابا وتبنا وطيرا مع صفاء أعمالهم وقلوبهم فكيف يكون لذي بصيرة أن يعجب بعمله أو يدل به ولا يخاف على نفسه فإذن هذا هو العلاج القامع لمادة العجب من القلب ومهما غلب ذلك على القلب شغله خوف سلب هذه النعمة عن الإعجاب بها بل هو ينظر إلى الكفار والفساق وقد سلبوا نعمة الإيمان والطاعة بغير ذنب أذنبوه من قبل فيخاف من ذلك فيقول إن من لا يبالي أن يحرم من غير جناية ويعطى من غير وسيلة لا يبالي أن يعود ويسترجع ما وهب فكم من مؤمن قد ارتد ومطيع قد فسق وختم له بسوء وهذا لا يبقى معه عجب بحال والله تعالى أعلم.

بيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه

اعلم أن العجب بالأسباب التي بها يتكبر كما ذكرناه وقد يعجب بما لا يتكبر به كعجبه بالرأي الخطأ الذي يزين له بجهله فما به العجب ثمانية أقسام الأول أن يعجب ببدنه في جماله وهيئته وصحته وقوته وتناسب أشكاله وحسن صورته وحسن صوته وبالجملة تفصيل خلقته فيلتفت إلى جمال نفسه وينسى أنه نعمة من الله تعالى وهو بعرضة الزوال في كل حال وعلاجه ما ذكرناه في الكبر بالجمال وهو التفكر في أقذار باطنه وفي أول أمره وفي آخره وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة أنها كيف تمزقت في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع.

الثاني البطش والقوة كما حكي عن قوم عاد حين قالوا فيما أخبر الله عنهم من أشد منا قوة وكما اتكل عوج على قوته وأعجب بها فاقتلع جبلا ليطبقه على عسكر موسى عليه السلام فثقب الله تعالى تلك القطعة من الجبل بنقر هدهد ضعيف المنقار حتى صارت في عنقه وقد يتكل المؤمن أيضا على قوته كما روي عن سليمان عليه السلام أنه قال لأطوفن الليلة على مائة امرأة ولم يقل إن شاء الله تعالى فحرم ما أراد من الولد حديث قال سليمان لأطوفن الليلة بمائة امرأة الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة وكذلك قول داود عليه السلام إن ابتليتني صبرت وكان إعجابا منه بالقوة فلما ابتلي بالمرأة لم يصبر ويورث العجب بالقوة الهجوم في الحروب وإلقاء النفس في التهلكة والمبادرة إلى الضرب والقتل لكل من قصده بالسوء وعلاجه ما ذكرناه وهو أن يعلم أن حمى يوم تضعف قوته وأنه إذا أعجب بها ربما سلبها الله تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه.

الثالث العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا وثمرته الاستبداد بالرأي وترك المشورة واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه ويخرج إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم إعراضا عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل واستحقارا لهم وإهانة وعلاجه أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه فلا يأمن من أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره وليستقصر عقله وعلمه وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا وإن اتسع علمه وأن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما عرفه فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى وأن يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم فيحذر أن يكون منهم وهو لا يدري فإن القاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه ومن أعدائه لا من أصدقائه فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجبا وهو لا يظن بنفسه إلا الخير ولا يفطن لجهل نفسه فيزداد عجبا.

الرابع العجب بالنسب الشريف كعجب الهاشمية حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة آبائه وأنه مغفور له ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موال وعبيد وعلاجه أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه ملحق بهم فقد جهل وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب بل الخوف والازدراء على النفس واستعظام الخلق ومذمة النفس ولقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال الحميدة لا بالنسب فليتشرف بما شرفوا به وقد ساواهم في النسب وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله واليوم الآخر وكانوا عند الله شرا من الكلاب وأخس من الخنازير ولذلك قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد ثم ذكر فائدة النسب فقال وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال إن أكرمكم عند الله أتقاكم ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس من أكيس الناس لم يقل من ينتمي إلى نسبي ولكن قال أكرمهم أكثرهم للموت ذكرا وأشدهم له استعدادا حديث لما قيل له من أكرم الناس من أكيس الناس قال أكثرهم للموت ذكرا الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر دون قوله وأكرم الناس وهو بهذه الزيادة عند ابن أبي الدنيا في ذكر الموت آخر الكتاب وإنما نزلت هذه الآية حين أذن بلال يوم الفتح على الكعبة فقال الحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وخالد بن أسيد هذا العبد الأسود يؤذن على الكعبة فقال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية أي كبيرها كلكم بنو آدم وآدم من تراب حديث إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي أيضا من حديث ابن عمر وقال غريب وقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش لا تأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد يا محمد فأقول هكذا أي أعرض عنكم حديث يا معشر قريش لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم الحديث أخرجه الطبراني من حديث عمران بن حصين إلا أنه قال يا معشر بني هاشم وسنده ضعيف فبين أنهم إذا مالوا إلى الدنيا لم ينفعهم نسب قريش ولما نزل قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين ناداهم بطنا بعد بطن حتى قال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعملا لأنفسكما فإني لا أغني عنكما من الله شيئا حديث لما نزل قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين ناداهم بطنا بعد بطن حتى قال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة ورواه مسلم من حديث عائشة فمن عرف هذه الأمور وعلم أن شرفه بقدر تقواه وقد كان من عادة آبائه التواضع اقتدى بهم في التقوى والتواضع وإلا كان طاعنا في نسب نفسه بلسان حاله مهما انتمى إليهم ولم يشبههم في التواضع والتقوى والخوف والإشفاق فإن قلت فقد قال صلى الله عليه وسلم بعد قوله لفاطمة وصفية إني لا أغني عنكما من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها حديث قوله بعد قوله المتقدم لفاطمة وصفية ألا إن لكما رحما سأبلها ببلالها أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ غير أن لكم رحما سأبلها ببلاها وقد صلى الله عليه وسلم أترجو سليم شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب حديث أترجو سليم شفاعتي ولا ترجوها بنو عبد المطلب أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن جعفر وفيه أصيرم بن حوشب عن إسحاق بن واصل وكلاهما ضعيف جدا فذلك يدل على أنه سيخصص قرابته بالشفاعة فاعلم أن كل مسلم فهو منتظر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسيب أيضا جدير بأن يرجوها لكن بشرط أن يتقي الله أن يغضب عليه فإنه إن يغضب عليه فلا يأذن لأحد في شفاعته لأن الذنوب منقسمة إلى ما يوجب المقت فلا يؤذن في الشفاعة له وإلى ما يعفى عنه بسبب الشفاعة كالذنوب عند ملوك الدنيا فإن كل ذي مكانة عند الملك لا يقدر على الشفاعة فيما اشتد عليه غضب الملك فمن الذنوب ما لا تنجي منه الشفاعة وعنه العبارة بقوله تعالى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وبقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وبقوله ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له وبقوله فما تنفعهم شفاعة الشافعين وإذا انقسمت الذنوب إلا ما يشفع فيه وإلا ما لا يشفع فيه وجب الخوف والإشفاق لا محالة ولو كان ذنب تقبل فيه الشفاعة لما أمر قريشا بالطاعة ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها عن المعصية ولكان يأذن لها في اتباع الشهوات لتكمل لذاتها في الدنيا ثم يشفع لها في الآخرة لتكمل لذاتها في الآخرة فالانهماك في الذنوب وترك التقوى اتكالا على رجاء الشفاعة يضاهي انهماك المريض في شهواته اعتمادا على طبيب حاذق قريب مشفق من أب أو أخ أو غيره وذلك جهل لأن سعي الطبيب وهمته وحذقه تنفع في إزالة بعض الأمراض لا في كلها فلا يجوز ترك الحمية مطلقا اعتمادا على مجرد الطب بل للطبيب أثر على الجملة ولكن في الأمراض الخفيفة وعند غلبة اعتدال المزاج فهكذا ينبغي أن تفهم عناية الشفعاء من الأنبياء والصلحاء للأقارب والأجانب فإنه كذلك قطعا وذلك لا يزيل الخوف والحذر وكيف يزيل وخير الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وقد كانوا يتمنون أن يكونوا بهائم من خوف الآخرة مع كمال تقواهم وحسن أعمالهم وصفاء قلوبهم وما سمعوه من وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالجنة خاصة وسائر المسلمين بالشفاعة عامة ولم يتكلوا عليه ولم يفارق الخوف والخشوع قلوبهم فكيف يعجب بنفسه ويتكل على الشفاعة من ليس له مثل صحبتهم وسابقتهم الخامس العجب بنسب السلاطين الظلمة وأعوانهم دون نسب الدين والعلم وهذا غاية الجهل وعلاجه أن يتفكر في مخازيهم وما جرى لهم من الظلم على عباد الله والفساد في دين الله وأنهم الممقوتون عند الله تعالى ولو نظر إلى صورهم في النار وأنتانهم وأقذارهم لاستنكف منهم ولتبرأ من الانتساب إليهم ولأنكر على من نسبه إليهم استقذارا واستحقار لهم ولو انكشف له ذلهم في القيامة وقد تعلق الخصماء بهم والملائكة آخذون بنواصيهم يجرونهم على وجوههم إلى جهنم في مظالم العباد لتبرأ إلى الله منهم ولكان انتسابه إلى الكلب والخنزير أحب إليه من الانتساب إليهم فحق أولاد الظلمة إن عصمهم الله من ظلمهم أن يشكروا الله تعال على سلامة دينهم ويستغفروا لآبائهم إن كانوا مسلمين فأما العجب فجهل محض السادس العجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والعشيرة والأقارب والأنصار والأتباع كما قال الكفار نحن أكثر أموالا وأولادا وكما قال المؤمنون يوم حنين لا نغلب اليوم من قلة وعلاجه ما ذكرناه في الكبر وهو أن يتفكر في ضعفه وضعفهم وأن كلهم عبيد عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ثم كيف يعجب بهم وأنهم سيفترقون عنه إذا مات فيدفن في قبره ذليلا مهينا وحده لا يرافقه أهل ولا ولد ولا قريب ولا حميم ولا عشير فيسلمونه إلى البلى والحيات والعقارب والديدان ولا يغنون عنه شيئا وفي أحوج أوقاته إليهم وكذلك يهربون منه يوم القيامة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه الآية فأي خير فيمن يفارقك في أشد أحوالك ويهرب منك وكيف تعجب به ولا ينفعك في القبر والقيامة وعلى الصراط إلا عملك وفضل الله تعالى فكيف تتكل على من لا ينفعك وتنسى نعم من يملك نفعك وضرك وموتك وحياتك السابع العجب بالمال كما قال تعالى إخبارا عن صاحب الجنتين إذ قال أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا غنيا جلس بجنبه فقير فانقبض عنه وجمع ثيابه فقال صلى الله عليه وسلم أخشيت أن يعدو إليك فقره حديث رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا غنيا جلس لجنبه فقير فانقبض منه الحديث رواه أحمد في الزهد وذلك للعجب بالغنى وعلاجه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وعظيم غوائله وينظر إلى فضيلة الفقراء وسبقهم إلى الجنة في القيامة وإلى أن المال غاد ورائح ولا أصل له وإلى أن في اليهود من يزيد عليه في المال وإلى قوله صلى الله عليه وسلم بينما رجل يتبختر في حلة له قد أعجبته نفسه إذا أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة حديث بينما رجل في حلة قد أعجبته نفسه الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم وأشار به إلى عقوبة إعجابه بماله ونفسه وقال أبو ذر كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فقال لي يا أبا ذر ارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب جياد ثم قال ارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب خلقة فقال لي يا أبا ذر هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا حديث أبي ذر كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فقال لي يا أبا ذر ارفع رأسك فرفعت رأسي الحديث وفيه هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا أخرجه ابن حبان في صحيحه وجميع ما ذكرناه في كتاب الزهد وكتاب ذم الدنيا وكتاب ذم المال يبين حقارة الأغنياء وشرف الفقراء عند الله تعالى فكيف يتصور من المؤمن أن يعجب بثروته بل لا يخلو المؤمن عن خوف من تقصيره في القيام بحقوق المال في أخذه من حله ووضعه في حقه ومن لا يفعل ذلك فمصيره إلى الخزي والبوار فكيف يعجب بماله الثامن العجب بالرأي الخطأ قال الله تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا وقال تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك يغلب على آخر هذه الأمة حديث أنه يغلب على آخر هذه الأمة الإعجاب بالرأي هو حديث أبي ثعلبة المتقدم فإذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك وهو عند أبي داود والترمذي وبذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقا فكل معجب برأيه وكل حزب بما لديهم فرحون وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم والعجب بالبدعة هو استحسان ما يسوق إليه الهوى والشهوة مع ظن كونه حقا وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه ولو عرفه لتركه ولا يعالج الداء الذي لا يعرف والجهل داء لا يعرف فتعسر مداواته جدا لأن العارف يقدر على أن يبين للجاهل جهله ويزيله عنه إلا إذا كان معجبا برأيه وجهله فإنه لا يصغي إلى العارف ويتهمه فقد سلط الله عله بلية تهلكه وهو يظنها نعمة فكيف يمكن علاجه وكيف يطلب الهرب مما هو سبب سعادته في اعتقاده وإنما علاجه على الجملة أن يكون متهما لرأيه أبدا لا يغتر به إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشروط الأدلة ولن يعرف الإنسان أدلة الشرع والعقل وشروطها ومكامن الغلط فيها إلا بقريحة تامة وعقل ثاقب وجد وتشمر في الطلب وممارسة للكتاب والسنة ومجالسة لأهل العلم طول العمر ومدارسة للعلوم ومع ذلك فلا يؤمن عليه الغلط في بعض الأمور والصواب لمن لم يتفرع لاستغراق عمره في العلم أن لا يخوض في المذاهب ولا يصغي إليها ولا يسمعها ولكن يعتقد أن الله تعالى واحد لا شريك له وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأن رسوله صادق فيما أخبر به ويتبع سنة السلف ويؤمن بجملة ما جاء به الكتاب والسنة من غير بحث وتنقير وسؤال عن تفصيل بل يقول آمنا وصدقنا ويشتغل بالتقوى واجتناب المعاصي وأداء الطاعات والشفقة على المسلمين وسائر الأعمال فإن خاض في المذاهب والبدع والتعصب في العقائد هلك من حيث لا يشعر هذا حق كل من عزم على أن يشتغل في عمره بشيء غير العلم فأما الذي عزم على التجرد للعلم فأول مهم له معرفة الدليل وشروطه وذلك مما يطول الأمر فيه والوصول إلى اليقين والمعرفة في أكبر المطالب شديد لا يقدر عليه إلا الأقوياء المؤيدون بنور الله تعالى وهو عزيز الوجود جدا فنسأل الله تعالى العصمة من الضلال ونعوذ به من الاغترار بخيالات الجهال تم كتاب ذم الكبر والعجب والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم صلى الله عليه وسلم و وعلى آله وصحبه وسلم.

 

كتاب أسرار الزكاة

كتاب أسرار الزكاة

وهو الكتاب الخامس من ربع العبادات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أسعد وأشقى وأمات وأحيا وأضحك وأبكى وأوجد وأفنى وأفقر وأغنى وأضر وأقنى الذي خلق الحيوان من نطفة تمنى ثم تفرد عن الخلق بوصف الغنى ثم خصص بعض عباده بالحسنى فأفاض عليهم من نعمة ما أيسر به من شاء واستغنى وأحوج إليه من أخفق في رزقه وأكدى إظهارا للامتحان والابتلا ثم جعل الزكاة للدين أساسا ومبنى وبين أن بفضله تزكى من عباده من تزكى ومن غناه زكى ماله من زكى والصلاة على محمد المصطفى سيد الورى وشمس الهدى وعلى آله وأصحابه المخصوصين بالعلم والتقى أما بعد فإن الله تعالى جعل الزكاة إحدى مباني الإسلام وأردف بذكرها الصلاة التي هي أعلى الأعلام فقال تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وقال صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة حديث بني الإسلام على خمس أخرجاه من حديث ابن عمر وشدد الوعيد على المقصرين فيها فقال والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ومعنى الإنفاق في سبيل الله إخراج حق الزكاة قال الأحنف بن قيس كنت في نفر من قريش فمر أبو ذر فقال بشر الكانزين بكى في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكى في أقفائهم يخرج من جباههم وفي رواية أنه يوضع على حلمة ثدي أحدهم فيخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل وقال أبو ذر انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة فقلت ومن هم قال الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس حديث أبي ذر انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة الحديث أخرجاه مسلم والبخاري وإذا كان هذا التشديد مخرجا في الصحيحين فقد صار من مهمات الدين الكشف عن أسرار الزكاة وشروطها الجلية والخفية ومعانيها الظاهرة والباطنة مع الاقتصار على ما لا يستغنى عن معرفته مؤدى الزكاة وقابضها وينكشف ذلك في أربعة فصول الفصل الأول في أنواع الزكاة وأسباب وجوبها الثاني آدابها وشروطها الباطنة والظاهرة الثالث في القابض وشروط استحقاقه وآداب قبضه الرابع في صدقة التطوع وفضلها الفصل الأول في أنواع الزكاة وأسباب وجوبها والزكوات باعتبار متعلقاتها ستة أنواع زكاة النعم والنقدين والتجارة وزكاة الركاز والمعادن وزكاة المعشرات وزكاة الفطر النوع الأول زكاة النعم ولا تجب هذه الزكاة وغيرها إلا على حر مسلم ولا يشترط البلوغ بل تجب في مال الصبي والمجنون هذا شرط من عليه وأما المال فشروطه خمسة أن يكون نعما سائمة باقية حولا نصابا كاملا مملوكا على الكمال الشرط الأول كونه نعما فلا زكاة إلا في الإبل والبقر والغنم أما الخيل والبغال والحمير والمتولد من بين الظباء والغنم فلا زكاة فيها الثاني السوم فلا زكاة في معلوفة وإذا أسيمت في وقت وعلفت في وقت تظهر بذلك مؤنتها فلا زكاة فيها الثالث الحول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول حديث لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول أخرجه أبو داود من حديث علي بإسناد جيد وابن ماجه من حديث عائشة بإسناد ضعيف ويستثنى من هذا نتاج الحول الرابع كمال الملك والتصرف فتجب الزكاة في الماشية المرهونة لأنه الذي حجر على نفسه فيه ولا تجب في الضال والمغصوب إلا إذا عاد بجميع نمائه فيجب زكاة ما مضى عند عوده ولو كان عليه دين يستغرق ماله فلا زكاة عليه فإنه ليس غنيا به إذ الغنى ما يفضل عن الحاجة الخامس كمال النصاب أما الإبل فلا شيء فيها حتى تبلغ خمسا ففيها جذعة من الضأن والجذعة هي التي تكون في السنة الثانية أو ثنية من المعز وهي التي تكون في السنة الثالثة وفي عشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض وهي التي في السنة الثانية فإن لم يكن في ماله بنت مخاض فابن لبون ذكر وهو الذي في السنة الثالثة يؤخذ إن كان قادرا على شرائها وفي ست وثلاثين ابنة لبون ثم إذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة وهي التي في السنة الرابعة فإذا صارت إحدى وستين ففيها جذعة وهي التي في السنة الخامسة فإذا صارت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون فإذا صارت إحدى وتسعين ففيها حقتان فإذا صارت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون فإذا صارت مائة وثلاثين فقد استقر الحساب ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبونوأما البقر فلا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين ففيها تبيع وهو الذي في السنة الثانية ثم في أربعين مسنة وهي التي في السنة الثالثة ثم في ستين تبيعان واستقر الحساب بعد ذلك ففي كل أربعين مسنة وفي كل ثلاثين تبيع وأما الغنم فلا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين ففيها شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز ثم لا شيء فيها حتى تبلغ مائة وعشرين وواحدة ففيها شاتان إلى مائتي شاة وواحدة فيها ثلاث شياه إلى أربعمائة ففيها أربع شياه ثم استقر الحساب في كل مائة شاة وصدقة الخليطين كصدقة المالك الواحد في النصاب فإذا كان بين رجلين أربعون من الغنم ففيها شاة وإن كان بين ثلاثة نفر مائة شاة وعشرون ففيها شاة واحدة على جميعهم وخلطة الجوار كخلطة الشيوع ولكن يشترط أن يريحا معا ويسقيا معا ويحلبا معا ويسرحا معا ويكون المرعى معا ويكون إنزاء الفحل معا وأن يكونا جميعا من أهل الزكاة ولا حكم للخلطة مع الذمي والمكاتب ومهما نزل في واجب الإبل عن سن إلى سن فهو جائز ما لم يجاوز بنت مخاض في النزول ولكن تضم إليه جبران السن لسنة واحدة شاتين أو عشرين درهما ولسنتين أربع شياه أو اربعين درهما وله أن يصعد في السن ما لم يجاوز الجذعة في الصعود ويأخذ الجبران من الساعين من بيت المال ولا تؤخذ في الزكاة مريضة إذا كان بعض المال صحيحا ولو واحدة ويؤخذ من الكرائم كريمة ومن اللئام لئيمة ولا يؤخذ من المال الأكولة ولا الماخض ولا الربا ولا الفحل ولا غراء المال النوع الثاني زكاة المعشرات فيجب العشر في كل مستنبت مقتات بلغ ثمانمائة من ولا شيء فيما دونها ولا في الفواكه والقطن ولكن في الحبوب التي تقتات وفي التمر والزبيب ويعتبر أن تكون ثمانمائة من تمرا أو زبيبا لا رطبا وعنبا ويخرج ذلك بعد التجفيف ويكمل مال أحد الخليطين بمال الآخر في خلطة الشيوع كالبستان المشترك بين ورثة لجميعهم ثمانمائة من من زبيب فيجب على جميعهم ثمانون منا من زبيب بقدر حصصهم ولا يعتبر خلطة الجوار فيه ولا يكمل نصاب الحنطة بالشعير ويكمل نصاب الشعير بالسلت فإنه نوع منه هذا قدر الواجب إن كان يسقى بسيح أو قناة فإن كان يسقى بنضح أو دالية فيجب نصف العشر فإن اجتمعا فالأغلب يعتبر وأما صفة الواجب فالتمر والزبيب اليابس والحب اليابس بعد التنقية ولا يؤخذ عنب ولا رطب إلا إذا حلت بالأشجار آفة وكانت المصلحة في قطعها قبل تمام الإدراك فيؤخذ الرطب فيكال تسعة للمالك وواحد للفقير ولا يمنع من هذه القسمة قولنا إن القسمة بيع بل يرخص في مثل هذا للحاجة ووقت الوجوب أن يبدو الصلاح في الثمار وأن يشتد الحب ووقت الأداء بعد الجفاف النوع الثالث زكاة النقدين فإذا تم الحول على وزن مائتي درهم بوزن مكة نقرة خالصة ففيها خمسة دراهم وهو ربع العشر وما زاد فبحسابه ولو درهما ونصاب الذهب عشرون مثقالا خالصا بوزن مكة ففيها ربع العشر وما زاد فبحسابه وإن نقص من النصاب حبة فلا زكاة وتجب على من معه دراهم مغشوشة إذا كان فيها هذا المقدار من النقرة الخالصة وتجب الزكاة في التبر وفي الحلي المحظور كأواني الذهب والفضة ومراكب الذهب للرجال ولا تجب في الحلي المباح وتجب في الدين الذي هو على مليء ولكن تجب عند الاستيفاء وإن كان مؤجلا فلا تجب إلا عند حلول الأجل النوع الرابع زكاة التجارة وهي كزكاة النقدين وإنما ينعقد الحول من وقت ملك النقد الذي به اشترى البضاعة إن كان النقد نصابا فإن كان ناقصا أو اشترى بعرض على نية التجارة فالحول من وقت الشراء وتؤدى الزكاة من نقد البلد وبه يقوم فإن كان ما به الشراء نقدا وكان نصابا كاملا كان التقويم به أولى من نقد البلد ومن نوى التجارة من مال قنية فلا ينعقد الحول بمجرد نيته حتى يشتري به شيئا ومهما قطع نية التجارة قبل تمام الحول سقطت الزكاة والأولى أن تؤدى زكاة تلك السنة وما كان من ربح في السلعة في آخر الحول وجبت الزكاة فيه بحول رأس المال ولم يستأنف له حولا كما في النتاج وأموال الصيارفة لا ينقطع حولها بالمبادلة الجارية بينهم كسائر التجارات وزكاة ربح مال القراض على العامل وإن كان قبل القسمة هذا هو الأقيس النوع الخامس الركاز والمعدن والركاز مال دفن في الجاهلية ووجد في أرض لم يجر عليها في الإسلام ملك فعلى واجده في الذهب والفضة منه الخمس والحول غير معتبر والأولى أن لا يعتبر النصاب أيضا لأن إيجاب الخمس يؤكد شبهه بالغنيمة واعتباره أيضا ليس ببعيد لأن مصرف الزكاة ولذلك يخصص على الصحيح بالنقدين وأما المعادن فلا زكاة فيما استخرج منها سوى الذهب والفضة ففيها بعد الطحن والتخليص ربع العشر على أصح القولين وعلى هذا يعتبر النصاب وفي الحول قولان وفي قول يجب الخمس فعلى هذا لا يعتبر وفي النصاب قولان والأشبه والعلم عند الله تعالى أن يلحق في قدر الواجب بزكاة التجارة فإنه نوع اكتساب وفي الحول بالمعشرات فلا يعتبر لأنه عين الرفق ويعتبر النصاب كالمعشرات والاحتياط أن يخرج الخمس من القليل والكثير ومن عين النقدين أيضا خروجا عن شبهة هذه الاختلافات فإنها ظنون قريبة من التعارض وجزم الفتوى فيها خطر لتعارض الاشتباه النوع السادس في صدقة الفطر وهي واجبة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل مسلم فضل عن قوته وقوت من يقوته يوم الفطر وليلته صاع مما يقتات حديث وجوب صدقة الفطر على كل مسلم أخرجاه من حديث ابن عمر قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان الحديث بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منوان وثلثا من يخرجه من جنس قوته أو من أفضل منه فإن اقتات بالحنطة لم يجز الشعير وإن اقتات حبوبا مختلفة اختار خيرها ومن أيها أخرج أجزأه وقسمتها كقسمة زكاة الأموال فيجب فيها استيعاب الأصناف ولا يجوز إخراج الدقيق والسويق ويجب على الرجل المسلم فطرة زوجته ومماليكه وأولاده وكل قريب هو في نفقته أعني من تجب عليه نفقته من الآباء والأمهات والأولاد قال صلى الله عليه وسلم أدوا صدقة الفطر عمن تمونون حديث أدوا زكاة الفطر عمن تمونون أخرجه الدار قطني والبيهقي من حديث ابن عمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون قال البيهقي إسناده غير قوي وتجب صدقة العبد المشترك على الشريكين ولا تجب صدقة العبد الكافر وإن تبرعت الزوجة بالإخراج عن نفسها أجزأها وللزوج الإخراج عنها دون إذنها وإن فضل عنه ما يؤدي عن بعضهم أدى عن بعضهم وأولاهم بالتقديم من كانت نفقته آكد وقدقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة الولد على نفقة الزوجة ونفقتها على نفقة الخادم حديث قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة الولد على نفقة الزوجة ونفقتها على نفقة الخادم أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة بسند صحيح وابن حبان والحاكم وصححه ورواه النسائي وابن حبان بتقديم الزوجة على الولد وسيأتي فهذه أحكام فقهية لا بد للغني من معرفتها وقد تعرض له وقائع نادرة خارجة عن هذا فله أن يتكل فيها على الاستفتاء عند نزول الواقعة بعد إحاطته بهذا المقدار الفصل الثاني في الأداء وشروطه الباطنة والظاهرة اعلم أنه يجب على مؤدي الزكاة خمسة أمور الأول النية وهو أن ينوي بقلبه زكاة الفرض ويسن عليه تعيين الأموال فإن كان له مال غائب فقال هذا عن مالي الغائب إن كان سالما وإلا فهو نافلة جاز لأنه إن لم يصرح به فكذلك يكون عند إطلاقه ونية الولي تقوم مقام نية المجنون والصبي ونية السلطان تقوم مقام نية المالك الممتنع عن الزكاة ولكن في ظاهر حكم الدنيا أعني في قطع المطالبة عنه أما في الآخرة فلا بل تبقى ذمته مشغولة إلى أن يستأنف الزكاة وإذا وكل بأداء الزكاة ونوى عند التوكيل أو وكل الوكيل بالنية كفاه لأن توكيله بالنية نية الثاني البدار عقيب الحول وفي زكاة الفطر لا يؤخرها عن يوم الفطر ويدخل وقت وجوبها بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان ووقت تعجيلها شهر رمضان كله ومن أخر زكاة ماله مع التمكن عصى ولم يسقط عنه بتلف ماله وتمكنه بمصادقة المستحق وإن أخر لعدم المستحق فتلف ماله سقطت الزكاة عنه وتعجيل الزكاة جائز بشرط أن يقع بعد كمال النصاب وانعقاد الحول ويجوز تعجيل زكاة حولين ومهما عجل فمات المسكين قبل الحول أو ارتد أو صار غنيا بغير ما عجل إليه أو تلف مال المالك أو مات فالمدفوع ليس بزكاة واسترجاعه غير ممكن إلا إذا قيد الدفع بالاسترجاع فليكن المعجل مراقبا آخر الأمور وسلامة العاقبة الثالث أن لا يخرج بدلا باعتبار القيمة بل يخرج المنصوص عليه فلا يجزىء ورق عن ذهب ولا ذهب عن ورق وإن زاد عليه في القيمة ولعل بعض من لا يدرك غرض الشافعي رضي الله عنه يتساهل في ذلك ويلاحظ المقصود من سد الخلة وما أبعده عن التحصيل فإن سد الخلة مقصود وليس هو كل المقصود بل واجبات الشرع ثلاثة أقسام قسم هو تعبد محض لا مدخل للحظوظ والأغراض فيه وذلك كرمي الجمرات مثلا إذ لا حظ للجمرة في وصول الحصى إليها فمقصود الشرع فيه الابتلاء بالعمل ليظهر العبد رقه وعبودته بفعل ما لا يعقل له معنى لأن ما يعقل معناه فقد يساعده الطبع عليه ويدعوه إليه فلا يظهر به خلوص الرق والعبودية إذ العبودية تظهر بأن تكون الحركة لحق أمر المعبود فقط لا لمعنى آخر وأكثر أعمال الحج كذلك ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في إحرامه لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا حديث لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا أخرجه البزار والدار قطني في العلل من حديث أنس تنبيها على أن ذلك إظهار للعبودية بالانقياد لمجرد الأمر وامتثاله كما أمر من غير استئناس العقل منه بما يميل إليه ويحث عليه القسم الثاني من واجبات الشرع ما المقصود منه حظ معقول وليس يقصد منه التعبد كقضاء دين الآدميين ورد المغصوب فلا جرم لا يعتبر فيه فعله ونيته ومهما وصل الحق إلى مستحقه بأخذ المستحق أو ببدل عنه عند رضاه تأدى الوجوب وسقط خطاب الشرع فهذان قسمان لا تركيب فيهما يشترك في دركهما جميع الناس والقسم الثالث هو المركب الذي يقصد منه الأمران جميعا وهو حظ العباد وامتحان المكلف بالاستعباد فيجتمع فيه تعبد رمي الجمار وحظ رد الحقوق فهذا قسم في نفسه معقول فإن ورد الشرع به وجب الجمع بين المعنيين ولا ينبغي أنينسى أدق المعنيين وهو التعبد والاسترقاق بسبب أجلاهما ولعل الأدق هو الأهم والزكاة من هذا القبيل ولم ينتبه له غير الشافعي رضي الله عنه فحظ الفقير مقصود في سد الخلة وهو جلي سابق إلى الأفهام وحق التعبد في اتباع التفاصيل مقصود للشرع وباعتباره صارت الزكاة قرينة للصلاة والحج في كونها من مباني الإسلام ولا شك في أن على المكلف تعبا في تمييز أجناس ماله وإخراج حصة كل مال من نوعه وجنسه وصفته ثم توزيعه على الأصناف الثمانية كما سيأتي والتساهل فيه غير قادح في حظ الفقير لكنه قادح في التعبد ويدل على أن التعبد مقصود بتعيين الأنواع أمور ذكرناها في كتب الخلاف من الفقهيات ومن أوضحها أن الشرع أوجب في خمس من الإبل شاة فعدل من الإبل إلى الشاة ولم يعدل إلى النقدين والتقويم وإن قدر أن ذلك لقلة النقود في أيدي العرب بطل بذكره عشرين درهما في الجبران مع الشاتين فلم يذكر في الجبران قدر النقصان من القيمة ولمقدر بعشرين درهما وشاتين وإن كانت الثياب والأمتعة كلها في معناها فهذا وأمثاله من التخصيصات يدل على أن الزكاة لم تترك خالية عن التعبدات كما في الحج ولكن جمع بين المعنيين والأذهان الضعيفة تقصر عن درك المركبات فهذا شأن الغلط فيه الرابع أن لا ينقل الصدقة إلى بلد آخر فإن أعين المساكين في كل بلدة تمتد إلى أموالها وفي النقل تخييب للظنون فإن فعل ذلك أجزأه في قول ولكن الخروج عن شبهة الخلاف أولى فليخرج زكاة كل مال في تلك البلدة ثم لا بأس أن يصرف إلى الغرباء في تلك البلدة الخامس أن يقسم ماله بعدد الأصناف الموجودين في بلده فإن استيعاب الأصناف واجب وعليه يدل ظاهر قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية فإنه يشبه قول المريض إنما ثلث مال للفقراء والمساكين وذلك يقتضي التشريك في التمليك والعبادات ينبغي أن يتوقى عن الهجوم فيها على الظواهر وقد عدم من الثمانية صنفان في أكثر البلاد وهم المؤلفة قلوبهم والعاملون على الزكاة ويوجد في جميع البلاد أربعة أصناف الفقراء والمساكين والغارمون والمسافرون أعني أبناء السبيل وصنفان يوجدان في بعض البلاد دون البعض وهم الغزاة والمكاتبون فإن وجد خمسة أصناف مثلا قسم بينهم زكاة ماله بخمسة أقسام متساوية أو متقاربة وعين لكل صنف قسم ثم قسم كل قسم ثلاثة أسهم فما فوقه إما متساوية أو متفاوتة وليس عليه التسوية بين آحاد الصنف فإن له أن يقسمه على عشرة وعشرين فينقص نصيب كل واحد وأما الأصناف فلا تقبل الزيادة والنقصان فلاينبغي أن ينقص في كل صنف عن ثلاثة إن وجد ثم لو لم يجب إلا صاع للفطرة ووجد خمسة أصناف فعليه أن يوصله إلى خمسة عشر نفرا ولو نقص منهم واحد مع الإمكان غرم نصيب ذلك الواحد فإن عسر عليه ذلك لقلة الواجب فليتشارك جماعة ممن عليهم الزكاة وليخلط مال نفسه بمالهم وليجمع المستحقين وليسلم إليهم حتى يتساهموا فيه فإن ذلك لا بد منه بيان دقائق الآداب الباطنة في الزكاة اعلم أن على مريد طريق الآخرة بزكاته وظائف الوظيفة الأولى فهم وجوب الزكاة ومعناها ووجه الامتحان فيها وأنها لم جعلت من مباني الإسلام مع أنها تصرف مالي وليست من عبادة الأبدان وفيه ثلاث معان الأول أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد وشهادة بإفراد المعبود وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد فإن المحبة لا تقبل الشركة والتوحيد باللسان قليل الجدوى وإنما يمتحن به درجة المحب بمفارقة المحبوب والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت مع أن فيه لقاء المحبوب فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم ولذلك قالالله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وذلك بالجهاد وهو مسامحة بالمهجة شوقا إلى لقاء الله عز وجل والمسامحة بالمال أهون ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم فلم يدخروا دينارا ولا درهما فأبوا أن يتعرضوا لوجوب الزكاة عليهم حتى قيل لبعضهم كم يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال أما على العوام بحكم الشرع فخمسة دراهم وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع ولهذا تصدق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله وعمر رضي الله عنه بشطر ماله فقال صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك فقال مثله وقال لأبي بكر رضي الله عنه ما أبقيت لأهلك قال الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم بينكما ما بين كلمتيكما حديث جاء أبو بكر بجميع ماله وعمر بشطر ماله الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه من حديث ابن عمر وليس فيه قوله بينكما ما بين كلمتيكما فالصديق وفى بتمام الصدق فلم يمسك سوى المحبوب عنده وهو الله ورسوله القسم الثاني درجتهم دون درجة هذا وهم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقا سوى الزكاة كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد قال الشعبي بعد أن قيل له هل في المال حق سوى الزكاة قال نعم أما سمعت قوله عز وجل وآتى المال على حبه ذوي القربى الآية واستدلوا بقوله عز وجل ومما رزقناهم ينفقون وبقوله تعالى وأنفقوا مما رزقناكم وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة بل هو داخل في حق المسلم على المسلم ومعناه أنه يجب على الموسر مهما وجد محتاجا أن يزيل حاجته فضلا عن مال الزكاة والذي يصح في الفقه من هذا الباب أنه مهما أرهقته حاجته كانت إزالتها فرض كفاية إذ لا يجوز تضييع مسلم ولكن يحتمل أن يقال ليس على الموسر إلا تسليم ما يزيل الحاجة فرضا ولا يلزمه بذله بعد أن أسقط الزكاة عن نفسه ويحتمل أن يقال يلزمه بذله في الحال ولا يجوز له الاقتراض أي لا يجوز له تكليف الفقير قبول القرض وهذا مختلف فيه والاقتراض نزول إلى الدرجة الأخيرة من درجات العوام وهي درجة القسم الثالث الذين يقتصرون على أداء الواجب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون عنه وهي أقل الرتب وقد اقتصر جميع العوام عليه لبخلهم بالمال وميلهم إليه وضعف حبهم للآخرة قال الله تعالى إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا يحفكم أي يستقص عليكم فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة وبين عبد لا يستقصى عليه لبخله فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عبادة ببذل الأموال المعنى الثاني التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات قال صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه حديث ثلاث مهلكاتالحديث تقدم وقال تعالى ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وسيأتي في ربع المهلكات وجه كونه مهلكا وكيفية التقصي منه وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير ذلك اعتيادا فالزكاة بهذا المعنى طهرة أي تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك وإنما طهارته بقدر بذله وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى المعنى الثالث شكر النعمة فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن والمالية شكر لنعمة المال وما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من مالهالوظيفة الثانية في وقت الأداء ومن آداب ذوي الدين التعجيل عن وقت الوجوب إظهارا للرغبة في الامتثال بإيصال السرور إلى قلوب الفقراء ومبادرة لعوائق الزمان أن تعوقه عن الخيرات وعلما بأن في التأخير آفات مع ما يتعرض العبد له من العصيان لو أخر عن وقت الوجوب ومهما ظهرت داعية الخير من الباطن فينبغي أن يغتنم فإن ذلك لمة الملك وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فما أسرع تقلبه والشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر وله لمة عقيب لمة الملك فليغتنم الفرصة فيه وليعين لزكاتها إن كان يؤديها جميعا شهرا معلوما وليجتهد أن يكون من أفضل الأوقات ليكون ذلك سببا لنماء قريته وتضاعف زكاته وذلك كشهر المحرم فإنه أول السنة وهو من الأشهر الحرم أو رمضان فقد كان صلى الله عليه وسلم أجود الخلق وكان في رمضان كالريح المرسلة لا يمسك فيه شيئا حديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الخلق وأجود ما يكون في رمضان الحديث أخرجاه من حديث ابن عباس ولرمضان فضيلة ليلة القدر وأنه أنزل فيه القرآن وكان مجاهد يقول لا تقولوا رمضان فإنه اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان وذو الحجة أيضا من الشهور الكثيرة الفضل فإنه شهر حرام وفيه الحج الأكبر وفيه الأيام المعلومات وهي العشر الأول والأيام المعدودات وهي أيام التشريق وأفضل أيام شهر رمضان العشر الأواخر وأفضل أيام ذي الحجة العشر الأول الوظيفة الثالثة الإسرار فإن ذلك أبعد عن الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر حديث أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث أبي ذر ولأبي داود من حديث أبي هريرة أي الصدقة أفضل قال جهد المقل وقال بعض العلماء ثلاث من كنوز البر منها إخفاء الصدقة حديث ثلاث من كنوز البر فذكر منها إخفاء الصدقة أخرجه أبو نعيم في كتاب الإيجاز وجوامع الكلم من حديث ابن عباس بسند ضعيف وقد روي أيضا مسندا وقال صلى الله عليه وسلم إن العبد ليعمل عملا في السر فيكتبه الله له سرا فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب رياء حديث إن العبد ليعمل عملا في السر فيكتبه الله له سرا فإن أظهره نقل من السر الحديث أخرج الخطيب في التاريخ من حديث أنس نحوه بإسناد ضعيف وفي الحديث المشهور سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطت يمينه حديث سبعة يظلهم الله في ظله الحديث أخرجاه من حديث أبي هريرة وفي الخبر صدقة السر تطفىء غضب الرب حديث صدقة السر تطفىء غضب الرب أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة ورواه أبو الشيخ في كتاب الثواب والبيهقي في الشعب من حديث أبي سعيد كلاهما ضعيف والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة إن الصدقة لتطفىء غضب الرب ولابن حبان نحوه من حديث أنس وهو ضعيف أيضا وقال تعالى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وفائدة الإخفاء الخلاص من آفات الرياء والسمعة فقد قال صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان والمتحدث بصدقته يطلب السمعة والمعطى في ملأ من الناس يبغي الرياء والإخفاء والسكوت هو المخلص منه حديث لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان لم أظفر به هكذا وقد بالغ في فضل الإخفاء جماعة حتى اجتهدوا أن لا يعرف القابض المعطى فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى وبعضهم يلقيه في طريق الفقير وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطى وبعضهم كان يصره في ثوب الفقير وهو نائم وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره بحيث لا يعرف المعطي وكان يستكتم المتوسط شأنه ويوصيه بأن لا يفشيه كل ذلك توصلا إلى إطفاء غضب الرب سبحانه واحترازا من الرياء والسمعة ومهما لم يتمكن إلا بأن يعرفه شخص واحد فتسليمه إلى وكيل ليسلم إلى المسكين والمسكين لا يعرف أولى إذ في معرفة المسكين الرياء والمنة جميعا وليس في معرفة المتوسط إلا الرياء ومهما كانت الشهرة مقصودة لهحبط عمله لأن الزكاة إزالة للبخل وتضعيف لحب المال وحب الجاه أشد استيلاء على النفس من حب المال وكل واحد منهما مهلك في الآخرة ولكن صفة البخل تنقلب في القبر في حكم المثال عقربا لادغا وصفة الرياء تقلب في القبر أفعى من الأفاعي وهو مأمور بتضعيفها أو قتلهما لدفع أذاهما أو تخفيف أذاهما فمهما قصد الرياء والسمعة فكأنه جعل بعض أطراف العقرب مقويا للحية فبقدر ما ضعف من العقرب زاد في قوة الحية ولو ترك الأمر كما كان لكان الأمر أهون عليه وقوة هذه الصفات التي بها قوتها العمل بمقتضاها وضعفت هذه الصفات بمجاهدتها ومخالفتها والعمل بخلاف مقتضاها فأي فائدة في أن يخالف دواعي البخل ويجيب دواعي الرياء فيضعف الأدنى ويقوي الأقوى وستأتي أسرار هذه المعاني في ربع المهلكات الوظيفة الرابعة أن يظهر حيث يعلم أن في إظهاره ترغيبا للناس في الاقتداء ويحرس سره من داعية الرياء بالطريق الذي سنذكره في معالجة الرياء في كتاب الرياء فقد قال الله عز وجل إن تبدوا الصدقات فنعما هي وذلك حيث يقتضي الحال الإبداء إما للاقتداء وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس فلا ينبغي أن يترك التصدق خيفة من الرياء في الإظهار بل ينبغي أن يتصدق ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان وهذا لأن في الإظهار محذورا ثالثا سوى المن والرياء وهو هتك ستر الفقير فإنه ربما يتأذى بأن يرى في صورة المحتاج فمن أظهر السؤال فهو الذي هتك ستر نفسه فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره وهو كإظهار الفسق على من تستر به فإنه محظور والتجسس فيه والاعتياد بذكره منهي عنه فأما من أظهره فإقامة الحد عليه إشاعة ولكن هو السبب فيها وبمثل هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له حديث من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له أخرجه ابن عدي وابن حبان في الضعفاء من حديث أنس بسند ضعيف وقد قال الله تعالى وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ندب إلى العلانية أيضا لما فيها من فائدة الترغيب فليكن العبد دقيق التأمل في وزن هذه الفائدة بالمحذور الذي فيه فإن ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص فقد يكون الإعلان في بعض الأحوال لبعض الأشخاص أفضل ومن عرف الفوائد والغوائل ولم ينظر بعين الشهوة اتضح له الأولى والأليق بكل حال الوظيفة الخامسة أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى قال الله تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى واختلفوا في حقيقة المن والأذى فقيل المن أن يذكرها والأذى أن يظهرها وقال سفيان من من فسدت صدقته فقيل له كيف المن فقال أن يذكره ويتحدث به وقيل المن أن يستخدمه بالعطاء والأذى أن يعيره بالفقر وقيل المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه والأذى أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صدقة منان حديث لا يقبل الله صدقة منان هو كالذي قبله بحديث لم أجده وعندي أن المن له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح فأصله أن يرى نفسه محسنا إليه ومنعما عليه وحقه أن يرى الفقير محسنا إليه بقبول حق الله عز وجل منه الذي هو طهرته ونجاته من النار وأنه لو يقبله لبقي مرتهنا به فحقه أن يتقلد منه الفقير إذ جعل كفه نائبا عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل حديث إن الصدقة تقع بيد الله قبل أن تقع في يد السائل أخرجه الدار قطني في الأفراد من حديث ابن عباس وقال غريب من حديث عكرمة عنه ورواه البيهقي في الشعب بسند ضعيف فليتحقق أنه مسلم إلى الله عز وجل حقه والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقهلكان اعتقاد مؤدى الدين كون القابض تحت منته سفها وجهلا فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه فهو ساع في حق نفسه فلم يمن به على غيره ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها في فهم وجوب الزكاة أو أحدها لم ير نفسه محسنا إلا إلى نفسه إما ببذل ماله إظهارا لحب الله تعالى أو تطهيرا لنفسه عن رذيلة البخل أو شكرا على نعمة المال طلبا للمزيد وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسنا إليه تفرع منه على ظاهره ما ذكر في معنى المن وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير والتعظيم والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس والمتابعة في الأمور فهذه كلها ثمرات المنة ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعيير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار وفنون الاستخفاف وباطنه وهو منبعه أمران أحدهما كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة والثاني رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه وكلاهما منشؤه الجهل أما كراهية تسليم المال فهو حمق لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يساوي ألفا فهو شديد الحمق ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل والثواب في الدار الآخرة وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل أو شكرا لطلب المزيد وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها وأما الثاني فهو أيضا جهل لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم هم الأخسرون ورب الكعبة فقال أبو ذر من هم قال هم الأكثرون أموالا الحديث ثم كيف يستحقر الفقير وقد جعله الله تعالى متجرة له إذ يكتسب المال بجهدك ويستكثر منه ويجتهد في حفظه بمقدار الحاجة وقد ألزم أن يسلم إلى الفقير قدر حاجته ويكف عنه الفاضل الذي يضره لو سلم إليه فالغني مستخدم للسعي في رزق الفقير ويتميز عليه بتقليد المظالم والتزام المشاق وحراسة الفضلات إلى أن يموت فيأكله أعداؤه فإن مهما انتقلت الكراهية وتبدلت بالسرور والفرح بتوفيق الله تعالى له أداء الواجب وتفضيله الفقير حتى يخلصه عن عهدته بقبوله منه انتفى الأذى والتوبيخ وتقطيب الوجه وتبدل بالاستبشار والثناء وقبول المنة فهذا منشأ المن والأذى فإن قلت فرؤيته نفسه في درجة المحسن أمر غامض فهل من علامة يمتحن بها قلبه فيعرف بها أنه لم ير نفسه محسنا فاعلم أن له علامة دقيقة واضحة وهو أن يقدر أن الفقير لو جنى عليه جناية أو مالا عدوا له عليه مثلا هل كان يزيد في استنكاره واستبعاده له على استنكاره قبل التصدق فإن زاد لم تخل صدقته عن شائبة المنة لأنه توقع بسببه ما لم يكن يتوقع قبل ذلك فإن قلت فهذا أمر غامض ولا ينفك قلب أحد عنه فما دواؤه فاعلم أن له دواء باطنا ودواء ظاهرا أما الباطن فالمعرفة بالحقائق التي ذكرناها في فهم الوجوب وأن الفقير هو المحسن إليه في تطهيره بالقبول وأما الظاهر فالأعمال التي يتعاطاها متقلد المنة فإن الأفعال التي تصدر عن الأخلاق تصبغ القلب بالأخلاق كما سيأتي أسراره في الشطر الأخير من الكتاب ولهذا كان بعضهم يضع الصدقة بين يدي الفقير ويتمثل قائما بين يديه حتى يسأله قبولها حتى يكون هو في صورة السائلين وهو يستشعر مع ذلك كراهية لو رده وكان بعضهم يبسط كفه ليأخذ الفقير من كفه وتكون يد الفقير هي العليا وكانت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما إذا أرسلتا معروفا إلى فقير قالتا للرسول احفظ ما يدعو به ثم كانتا تردان عليه مثل قوله وتقولان هذا بذاك حتى تخلص لنا صدقتنا فكانوا لا يتوقعون الدعاء لأنه شبه المكافأة وكانوا يقابلون الدعاء بمثله وهكذا فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما وهكذا كان أرباب القلوب يداوون قلوبهم ولا دواء من حيث الظاهر إلا هذه الأعمال الدالة على التذلل والتواضع وقبول المنة ومن حيث الباطن المعارف التي ذكرناها هذا من حيث العمل وذلك من حيث العلم ولا يعالج القلب إلا بمعجون العلم والعمل وهذه الشريطة من الزكوات تجري مجرى الخشوع من الصلاة وثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها حديث ليس للمؤمن من صلاته إلا ما عقل منها تقدم في الصلاة وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم لا يتقبل الله صدقة منان وكقوله عز وجل لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى وأما فتوى الفقيه بوقوعها موقعها وبراءة ذمته عنها دون هذا الشرط فحديث آخر وقد أشرنا إلى معناه في كتاب الصلاة الوظيفة السادسة أن يستصغر العطية فإنه إن استعظمها أعجب بها والعجب من المهلكات وهو محبط للأعمال قال تعالى ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ويقال إن الطاعة كلما استصغرت عظمت عند الله عز وجل والمعصية كلما استعظمت صغرت عند الله عز وجل وقيل لا يتم المعروف إلا بثلاثة أمور تصغيره وتعجيله وستره وليس الاستعظام هو المن والأذى فإنه لو صرف ماله إلى عمارة مسجد أو رباط أمكن فيه الاستعظام ولا يمكن فيه المن والأذى بل العجب والاستعظام يجري في جميع العبادات ودواؤه علم وعمل امام العلم فهو أن يعلم أن العشر أو ربع العشر قليل من كثير وأنه قد قنع لنفسه بأخس درجات البذل كما ذكرنا في فهم الوجوب فهو جدير بأن يستحيي منه فكيف يستعظمه وإن ارتقى إلى الدرجة العليا فبذل كل ماله أو أكثره فليتأمل أنه من أين له المال وإلى ماذا يصرفه فالمال لله عز وجل وله المنة عليه إذ أعطاه ووفقه لبذله فلم يستعظم في حق الله تعالى ما هو عين حق الله سبحانه وإن كان مقامه يقتضي أن ينظر إلى الآخرة وأنه يبذله للثواب فلم يستعظم بذل ما ينتظر عليه أضعافه وأما العمل فهو أن يعطيه عطاء الخجل من بخل بإمساك بقية ماله عن الله عز وجل فتكون هيئته الانكسار والحياء كهيئة من يطالب برد وديعة فيمسك بعضها ويرد البعض لأن المال كله لله عز وجل وبذل جميعه هو الأحب عند الله سبحانه وإنما لم يأمر به عبده لأنه يشق عليه بسبب بخله كما قال الله عز وجل فيحفكم تبخلوا الوظيفة السابعة أن ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وأجله وأطيبه فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإذا كان المخرج من شبهة فربما لا يكون ملكا له مطلقا فلا يقع الموقع وفي حديث أبان عن أنس بن مالك طوبى لعبد أنفق من مال اكتسبه من غير معصية حديث أنس طوبى لعبد أنفق من مال اكتسبه من غير معصية أخرجه ابن عدي والبزار وإذا لم يكن المخرج من جيد المال فهو من سوء الأدب إذ قد يمسك الجيد لنفسه أو لعبده أو لأهله فيكون قد آثر على الله عز وجل غيره ولو فعل هذا بضيفه وقدم إليه أردأ طعام في بيته لأوغر بذلك صدره هذا إن كان نظره إلى الله عز وجل وإن كان نظره إلى نفسه وثوابه في الآخرة فليس بعاقل من يؤثر غيره على نفسه وليس له من ماله إلا ما تصدق به فأبقى أو أكل فأفنى والذي يأكله قضاء وطر في الحال فليس من العقل قصر النظر على العاجلة وترك الادخار وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه أي لا تأخذوه إلا مع كراهية وحياء وهو معنى الإغماض فلا تؤثروا به ربكم وفي الخبر سبق درهم مائة ألف درهم حديث سبق درهم مائة ألف أخرجه النسائي وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرةوذلك بأن يخرجه الإنسان وهو من أحل ماله وأجوده فيصدر ذلك عن الرضا والفرح بالبذل وقد يخرج مائة ألف درهم مما يكره من ماله فيدل ذلك على أنه ليس يؤثر الله عز وجل بشيء مما يحبه وبذلك ذم الله تعالى قوما جعلوا لله ما يكرهون فقال تعالى ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا وقف بعض القراء على النفي تكذيبا لهم ثم ابتدأ وقال جرم أن لهم النار أي كسب لهم جعلهم لله ما يكرهون النار الوظيفة الثامنة أن يطلب لصدقته من تزكو به الصدقة ولا يكتفي بأن يكون من عموم الأصناف الثمانية فإن في عمومهم خصوص صفات فليراع خصوص تلك الصفات وهي ستة الأولى أن يطلب الأتقياء المعرضين عن الدينا المتجردين لتجارة الآخرة قال صلى الله عليه وسلم لا تأكل إلا طعام تقي ولا يأكل طعامك إلا تقي حديث لا تأكل إلا طعام تقي ولا يأكل طعاعته إلا تقي أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد بلفظ لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي وهذا لأن التقي يستعين به على التقوى فتكون شريكا في طاعته بإعانتك إياه وقال صلى الله عليه وسلم أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين حديث أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين أخرجه ابن المبارك في البر والصلة من حديث أبي سعيد الخدري قال ابن طاهر غريب فيه مجهول وفي لفظ آخر أضف بطعامك من تحبه في الله تعالى حديث أضف بطعامك من يحبه الله أخرجه ابن المبارك أنبأنا جويبر عن الضحاك مرسلا وكان بعض العلماء يؤثر بالطعام فقراء الصوفية دون غيرهم فقيل له لو عممت بمعروفك جميع الفقراء لكان أفضل فقال لا هؤلاء قوم همهم لله سبحانه فإذا طرقتهما فاقة تشتت هم أحدهم فلأن أرد همة واحد إلى الله عز وجل أحب إلي من أن أعطى ألفا ممن همته الدنيا فذكر هذا الكلام للجنيد فاستحسنه وقال هذا ولي من أولياء الله تعالى وقال ما سمعت منذ زمان كلاما أحسن من هذا ثم حكى أن هذا الرجل اختل حاله وهم بترك الحانوت فبعث إليه الجنيد مالا وقال اجعله بضاعتك ولا تترك الحانوت فإن التجارة لا تضر مثلك وكان هذا الرجل بقالا لا يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه الصفة الثانية أن يكون من أهل العلم خاصة فإن ذلك إعانة له على العلم والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم فقيل له لو عممت فقال إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم فتفريغهم للعلم أفضل الصفة الثالثة أن يكون صادقا في تقواه وعلمه بالتوحيد وتوحيده أنه إذا أخذ العطاء حمد الله عز وجل وشكره ورأى أن النعمة منه ولم ينظر إلى واسطة فهذا هو أشكر العباد لله سبحانه وهو أن يرى أن النعمة كلها منه وفي وصية لقمان لابنه لا تجعل بينك وبين الله منعما واعدد نعمة غيره عليك مغرما ومن شكر غير الله سبحانه فكأنه لم يعرف المنعم ولم يتيقن أن الواسطة مقهور مسخر بتسخير الله عز وجل إذ سلط الله تعالى عليه دواعي الفعل ويسر له الأسباب فأعطى وهو مقهور ولو أراد تركه لم يقدر عليه بعد أن ألقى الله عز وجل في قلبه أن صلاح دينه ودنياه في فعله فمهما قوي الباعث أوجب ذلك جزم الإرادة وانتهاض القدرة ولم يستطع العبد مخالفة الباعث القوي الذي لا تردد فيه والله عز وجل خالق للبواعث ومهيجها ومزيل للضعف والتردد عنها ومسخر القدرة للانتهاض بمقتضى البواعث فمن تيقن هذا لم يكن له نظر إلا إلى مسبب الأسباب وتيقن مثل هذا العبد أنفع للمعطى من ثناء غيره وشكره فذلك حركة لسان يقل في الأكثر جدواه وإعانة مثل هذا العبد الموحد لا تضيع وأما الذي يمدح بالعطاء ويدعو بالخير فسيذم بالمنع ويدعو بالشر عند الإيذاء وأحواله متفاوتة وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث معروفا إلى بعض الفقراء وقال للرسول احفظ ما يقول فلما أخذ قال الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يضيع من شكره ثم قال اللهم إنك لم تنس فلانا يعني نفسه فاجعل فلانا لا ينساك يعني بفلان نفسه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلكفسر وقال صلى الله عليه وسلم علمت أنه يقول ذلك حديث بعث معروفا إلى بعض الفقراء وقال للرسول احفظ ما يقول فلما أخذه قال الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره الحديث لم أجد له أصلا إلا في حديث ضعيف من حديث ابن عمر وروى ابن منده في الصحابة أوله ولم يسق هذه القطعة التي أوردها المصنف وسمى الرجل حديرا فقد رويا من طريق البيهقي أنه وصل لحدير من أبي الدرداء شيء فقال اللهم إنك لم تنس حديرا فاجعل حديرا لا ينساك وقيل إن هذا آخر لا صحبة له يكنى أبا جريرة وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين فانظر كيف قصر التفاته على الله وحده وقال صلى الله عليه وسلم لرجل تب فقال أتوب إلى الله وحده ولا أتوب إلى محمد فقال صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله حديث قال لرجل تب فقال أتوب إلى الله ولا اتوب إلى محمد الحديث أخرجه أحمد والطبراني من حديث الأسود ابن سريع بسند ضعيف ولما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قال أبو بكر رضي الله عنه قومي فقبلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله لا أفعل ولا أحمد إلا الله فقال صلى الله عليه وسلم دعها يا أبا بكر حديث لما نزلت براءة عائشة قال أبو بكر قومي فقبلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث أخرجه أبو داود من حديث عائشة بلفظ فقال أبواي قومي فقبلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أحمد الله لا إياكما وللبخاري تعليقا فقال أبواي قومي إليه فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمدكما ولكن أحمد الله وله ولمسلم فقالت لي أمي قومي إليه فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله وللطبراني فقالت بحمد الله لا بحمد صاحبك وله من حديث ابن عباس فقالت لا بحمدك ولا بحمد صاحبك وله من حديث ابن عمر فقال أبو بكر قومي فاحتضني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا والله لا أدنو منه الحديث وفيه أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم بحمد الله لا بحمدك وفي لفظ آخر أنها رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد صاحبك فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ذلك مع أن الوحي وصل إليها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤية الأشياء من غير الله سبحانه وصف الكافرين قال الله تعالى وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ومن لم يصف باطنه عن رؤية الوسائط إلا من حيث إنهم وسائط فكأنه لم ينفك عن الشرك الخفي سره فليتق الله سبحانه في تصفية توحيده عن كدورات الشرك وشوائبه الصفة الرابعة أن يكون مستترا مخفيا حاجته لا يكثر البث والشكوى أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته فهو يتعيش في جلباب التجمل قال الله تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا أي لا يلحون في السؤال لأنهم أغنياء بيقينهم أعزة بصبرهم وهذا ينبغي أن يطلب بالتفحص عن أهل الدين في كل محلة ويستكشف عن بواطن أحول أهل الخير والتجمل فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال الصفة الخامسة أن يكون معيلا أو محبوسا بمرض أو بسبب من الأسباب فيوجد فيه معنى قوله عز وجل للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله أي حبسوا في طريق الآخرة بعيلة أو ضيق معيشة أو إصلاح قلب لا يستطيعون ضربا في الأرض لأنهم مقصوصوا الجناح مقيدوا الأطراف فبهذه الأسباب كان عمر رضي الله عنه يعطي أهل البيت القطيع من الغنم العشرة فما فوقها وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العطاء على مقدار العيلة حديث كان يعطي العطاء على مقدار العيلة لم أر له أصلا ولأبي داود من حديث عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الفيء قسمه في يومه وأعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظا وسأل عمر رضي الله عنه عن جهد البلاء فقال كثرة العيال وقلة المال الصفة السادسة أن يكون من الأقارب وذوي الأرحام فتكون صدقة وصلة رحم وفي صلة الرحم من الثواب ما لا يحصى قال علي رضي الله عنه لأن أصل أخا من إخواني بدرهم أحب إلي من أن أتصدق بعشرين درهما ولأن أصله بعشرين درهما أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم ولأن أصله بمائة درهم أحب إلي من أن أعتق رقبة والأصدقاء وإخوان الخير أيضايقدمون على المعارف كما يتقدم الأقارب على الأجانب فليراع هذه الدقائق فهذه هي الصفات المطلوبة وفي كل صفة درجات فينبغي أن يطلب أعلاها فإن وجد من جمع جملة من هذه الصفات فهي الذخيرة الكبرى والغنيمة العظمى ومهما اجتهد في ذلك وأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد فإن أحد أجريه في الحال تطهيره نفسه عن صفة البخل وتأكيد حب الله عز وجل في قلبه واجتهاده في طاعته وهذه الصفات هي التي تقوى في قلبه فتشوقه إلى لقاء الله عز وجل والأجر الثاني ما يعود إليه من فائدة دعوة الآخذ وهمته فإن قلوب الأبرار لها آثار في الحال والمآل فإن أصاب حصل الأجران وإن أخطأ حصل الأول دون الثاني فبهذا يضاعف أجر المصيب في الاجتهاد ههنا وفي سائر المواضع والله أعلم الفصل الثالث في القابض وأسباب استحقاقه ووظائف قبضه بيان أسباب الاستحقاق اعلم أنه لا يستحق الزكاة إلا حر مسلم ليس بهاشمي ولا مطلبي اتصف بصفة من صفات الأصناف الثمانية المذكورين في كتاب الله عز وجل ولا تصرف زكاة إلى كافر ولا إلى عبد ولا إلى هاشمي ولا إلى مطلبي أما الصبي والمجنون فيجوز الصرف إليهما إذا قبض وليهما فلنذكر صفات الأصناف الثمانية الصنف الأول الفقراء والفقير هو الذي ليس له مال ولا قدرة له على الكسب فإن كان معه قوت يومه وكسوة حاله فليس بفقير ولكنه مسكين وإن كان معه نصف قوت يومه فهو فقير وإن كان معه قميص وليس معه منديل ولا خف ولا سراويل ولم تكن قيمة القميص بحيث تفي بجميع ذلك كما يليق بالفقراء فهو فقير لأنه في الحال قد عدم ما هو محتاج إليه وما هو عاجز عنه فلا ينبغي أن يشترط في الفقير أن لا يكون له كسوة سوى ساتر العورة فإن هذا غلو والغالب أنه لا يوجد مثله ولا يخرجه عن الفقر كونه معتادا للسؤال فلا يجعل السؤال كسبا بخلاف ما لو قدر على كسب فإن ذلك يخرجه عن الفقر فإن قدر على الكسب بآلة فهو فقير ويجوز أن يشتري له آلة وإن قدر على كسب لا يليق بمروءة وبحال مثله فهو فقير وإن كان متفقها ويمنعه الاشتغال بالكسب عن التفقه فهو فقير ولا تعتبر قدرته وإن كان متعبدا يمنعه الكسب من وظائف العبادات وأوراد الأوقات فليكتسب لأن الكسب أولى من ذلك قال صلى الله عليه وسلم طلب الحلال فريضة بعد الفريضة حديث طلب الحلال فريضة بعد الفريضة أخرجه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن مسعود بسند ضعيف وأراد به السعي في الاكتساب وقال عمر رضي الله عنه كسب في شبهة خير من مسألة وإن كان مكتفيا بنفقة أبيه أو من تجب عليه نفقته فهذا أهون من الكسب فليس بفقير الصنف الثاني المساكين والمسكين هو الذي لا يفي دخله بخرجه فقد يملك ألف درهم وهو مسكين وقد لا يملك إلا فأسا وحبلا وهو غني والدويرة التي يسكنها والثوب الذي يستره على قدر حاله لا يسلبه اسم المسكين وكذا أثاث البيت أعني ما يحتاج إليه وذلك ما يليق به وكذا كتب الفقه لا تخرجه عن المسكنة وإذا لم يملك إلا الكتب فلا تلزمه صدقة الفطر وحكم الكتاب حكم الثوب وأثاث البيت فإنه محتاج إليه ولكن ينبغي أن يحتاط في قطع الحاجة بالكتاب فالكتاب محتاج إليه لثلاثة أغراض التعليم والاستفادة والتفرج بالمطالعة أما حاجة التفرج فلا تعتبر كاقتناء كتب الأشعار وتواريخ الأخبار وأمثال ذلك مما لا ينفع في الآخرة ولا يجري في الدنيا إلا مجرى التفرج والاستئناس فهذا يباع في الكفارة وزكاة الفطر وتمنع اسم المسكنة وأما حاجة التعليم إن كان لأجل الكسب كالمؤدب والمعلم والمدرس بأجره فهذه آلته فلا تباع في الفطرة كأدوات الخياط وسائر المحترفين وإن كان يدرس للقيام بفرضالكفاية فلا تباع ولا يسلبه ذلك اسم المسكين لأنها حاجة مهمة وأما حاجة الاستفادة والتعلم من الكتاب كادخاره كتب طب ليعالج بها نفسه أو كتاب وعظ ليطالع فيه ويتعظ به فإن كان في البلد طبيب وواعظ فهذا مستغنى عنه وإن لم يكن فهو محتاج إليه ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعة الكتاب إلا بعد مدة فينبغي أن يضبط مدة الحاجة والأقرب أن يقال ما لا يحتاج إليه في السنة فهو مستغنى عنه فإن من فضل من قوت يومه شيء لزمته الفطرة فإذا قدرنا القوت باليوم فحاجة أثاث البيت وثياب البدن ينبغي أن تقدر بالسنة فلا تباع ثياب الصيف في الشتاء والكتب بالثياب والأثاث أشبه وقد يكون له من كتاب نسختان فلا حاجة إلى إحداهما فإن قال إحداهما أصح والأخرى أحسن فأنا محتاج إليهما قلنا اكتف بالأصح وبع الأحسن ودع التفرج والترفه وإن كان نسختان من علم واحد إحداهما بسيطة والأخرى وجيزة فإن كان مقصوده الاستفادة فليكتف بالبسيطة وإن كان قصده التدريس فيحتاج إليهما إذ في كل واحدة فائدة ليست في الأخرى وأمثال هذه الصور لا تنحصر ولم يتعرض له في فن الفقه وإنما أوردناه لعموم البلوى والتنبيه بحسن هذا النظر على غيره فإن استقصاء هذه الصور غير ممكن إذ يتعدى مثل هذا النظر في أثاث البيت في مقدارها وعددها ونوعها وفي ثياب البدن وفي الدار وسعتها وضيقها وليس لهذه الأمور حدود محدودة ولكن الفقيه يجتهد فيها برأيه ويقرب في التحديدات بما يراه ويقتحم فيه خطر الشبهات والمتورع يأخذ فيه بالأحوط ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه والدرجات المتوسطة المشكلة بين الأطراف المتقابلة الجلية كثيرة ولا ينجي منها إلا الاحتياط والله أعلم الصنف الثالث العاملون وهم السعاة الذين يجمعون الزكوات سوى الخليفة والقاضي ويدخل فيه العريف والكاتب والمستوفي والحافظ والنقال ولا يزاد واحد منهم على أجرة المثل فإن فضل شيء من الثمن عن أجر مثلهم رد على بقية الأصناف وإن نقص كمل من مال المصالح الصنف الرابع المؤلفة قلوبهم على الإسلام وهم الأشراف الذين أسلموا وهم مطاعون في قومهم وفي إعطائهم تقريرهم على الإسلام وترغيب نظائرهم وأتباعهم الصنف الخامس المكاتبون فيدفع إلى السيد سهم المكاتب وإن دفع إلى المكاتب جاز ولا يدفع السيد زكاته الىمكاتب نفسه لأنه يعد عبدا له الصنف السادس الغارمون والغارم هو الذي استقرض في طاعة أو مباح وهو فقير فإن استقرض في معصية فلا يعطى إلا إذا تاب وإن كان غنيا لم يقض دينه إلا إذا كان قد استقرض لمصلحة أو إطفاء فتنة الصنف السابع الغزاة الذين ليس لهم مرسوم في ديوان المرتزقة فيصرف إليهم سهم وإن كانوا أغنياء إعانة لهم على الغزو الصنف الثامن ابن السبيل وهو الذي شخص من بلده ليسافر في غير معصية أو اجتاز بها فيعطى إن كان فقيرا وإن كان له مال ببلد آخر أعطى بقدر بلغته فإن قلت فبم تعرف هذه الصفات قلنا أما الفقر والمسكنة فبقول الآخذ ولا يطالب ببينة ولا يحلف بل يجوز اعتماد قوله إذا لم يعلم كذبه وأما الغزو والسفر فهو أمر مستقبل فيعطى بقوله إني غاز فإن لم يف به استرد وأما بقية الأصناف فلا بد فيها من البينة فهذه شروط الاستحقاق وأما مقدار ما يصرف إلى كل واحد فسيأتي بيان وظائف القابض وهي خمسة الأولى أن يعلم أن الله عز وجل أوجب صرف الزكاة إليه ليكفي همه ويجعل همومه هما واحدا فقد تعبد الله عز وجل الخلق بأن يكون همهم واحدا وهو الله سبحانه واليوم الآخر وهو المعني بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولكن لما اقتضت الحكمة أن يسلط على العبد الشهوات والحاجات وهي تفرق همهاقتضى الكرم إفاضة نعمة تكفي الحاجات فأكثر الأموال وصبها في أيدي عباده لتكون آلة لهم في دفع حاجاتهم ووسيلة لتفرغهم لطاعاتهم فمنهم من أكثر ماله فتنة وبلية فأقحمه في الخطر ومنهم من أحبه فحماه عن الدنيا كما يحمى المشفق مريضه فزوى عنه فضولها وساق إليه قدر حاجته على يد الأغنياء ليكون سهل الكسب والتعب في الجمع والحفظ عليهم وفائدته تنصب إلى الفقراء فيتجردون لعبادة الله والاستعداد لما بعد الموت فلا تصرفهم عنها فضول الدنيا ولا تشغلهم عن التأهب الفاقة وهذا منتهى النعمة فحق الفقير أن يعرف قدر نعمة الفقر ويتحقق أن فضل الله عليه فيما زواه عنه أكثر من فضله فيما أعطاه كما سيأتي في كتاب الفقر تحقيقه وبيانه إن شاء الله تعالى فليأخذ ما يأخذه من الله سبحانه رزقا له وعونا له على الطاعة ولتكن نيته فيه أن يتقوى به على طاعة الله فإن لم يقدر عليه فليصرفه إلى ما أباحه الله عز وجل فإن استعان به على معصية الله كان كافرا لأنعم الله عز وجل مستحقا للبعد والمقت من الله سبحانه الثانية أن يشكر المعطى ويدعو له ويثني عليه ويكون شكره ودعاؤه بحيث لا يخرجه عن كونه واسطة ولكنه طريق وصول نعمة الله سبحانه إليه وللطريق حق من حيث جعله الله طريقا وواسطة وذلك لا ينافي رؤية النعمة من الله سبحانه فقد قال صلى الله عليه وسلم من لم يشكر الناس لم يشكر الله حديث من لم يشكر الناس لم يشكر الله أخرجه الترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد وله ولأبي داود وابن حبان نحوه من حديث أبي هريرة وقال حسن صحيح وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم وهو خالقها وفاطر القدرة عليها نحو قوله تعالى نعم العبد إنه أواب إلى غير ذلك وليقل القابض في دعائه طهر الله قلبك في قلوب الأبرار وزكى عملك في عمل الأخيار وصلى على روحك في أرواح الشهداء وقد قال صلى الله عليه وسلم من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه حديث من أسدى إليكم معروفا فكافئوه الحديث أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر بإسناد صحيح بلفظ من صنع ومن تمام الشكر أن يستر عيوب العطاء إن كان فيه عيب ولا يحقره ولا يذمه ولا يعيره بالمنع إذا منع ويفخم عند نفسه وعند الناس صنيعه فوظيفة المعطى الاستصغار ووظيفة القابض تقلد المنة والاستعظام وعلى كل عبد القيام بحقه وذلك لا تناقض فيه إذ موجبات التصغير والتعظيم تتعارض والنافع للمعطي ملاحظة أسباب التصغير ويضره خلافه والآخذ بالعكس منه وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمة من الله عز وجل فإن من لا يرى الواسطة واسطة فقد جهل وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلا الثالثة أن ينظر فيما يأخذه فإن لم يكن من حل تورع عنه ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ولن يعدم المتورع عن الحرام فتوحا من الحلال فلا يأخذ من أموال الأتراك والجنود وعمال السلاطين ومن أكثر كسبه من الحرام إلا إذا ضاق الأمر عليه وكان ما يسلم إليه لا يعرف له مالكا معينا فله أن يأخذ بقدر الحاجة فإن فتوى الشرع في مثل هذا أن يتصدق به على ما سيأتي بيانه في كتاب الحلال والحرام وذلك إذا عجز عن الحلال فإذا أخذ لم يكن أخذه أخذ زكاة إذ لا يقع زكاة عن مؤديه وهو حرام الرابعة أن يتوقى مواقع الريبة والاشتباه في مقدار ما يأخذه فلا يأخذ إلا المقدار المباح ولا يأخذ إلا إذا تحقق أنه موصوف بصفة الاستحققا فإن كان يأخذه بالكتابة والغرامة فلا يزيد على مقدار الدين وأن كان يأخذ بالعمل فلا يزيد على أجرة المثل وإن أعطى زيادة أبى وامتنع إذ ليس المال للمعطي حتى يتبرع به وإن كان مسافرا لم يزد على الزاد وكراء الدابة إلى مقصده وإن كان غازيا لم يأخذ إلا ما يحتاج إليه للغزو خاصة من خيل وسلاح ونفقة وتقدير ذلك بالاجتهاد وليس له حد وكذا زاد السفر والورع ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وإن أخذ بالمسكنة فلينظر أولاالى أثاث بيته وثيابهوكتبه هل فيها ما يستغنى عنه بعينه أو يستغنى عن نفاسته فيمكن أن يبدل بما يكفي ويفضل بعض قيمته وكل ذلك إلى اجتهاده وفيه طرف ظاهر يتحقق معه أنه مستحق وطرف آخر مقابل يتحقق معه أنه غير مستحق وبينهما أوساط مشتبهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه والاعتماد في هذا على قول الآخذ ظاهرا وللمحتاج في تقدير الحاجات مقامات في التضييق والتوسيع ولا تحصر مراتبه وميل الورع إلى التضييق وميل المتساهل إلى التوسيع حتى يرى نفسه محتاجا إلى فنون من التوسع وهو ممقوت في الشرع ثم إذا تحققت حاجته فلا يأخذن مالا كثيرا بل ما يتمم كفايته من وقت أخذه إلى سنة فهذا أقصى ما يرخص فيه من حيث أن السنة إذا تكررت تكررت أسباب الدخل ومن حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخر لعياله قوت سنة حديث ادخر لعياله قوت سنة أخرجاه من حديث عمر كان يعزل نفقة أهله سنة وللطبراني في الأوسط من حديث أنس كان إذا ادخر لأهله قوت سنة تصدق بما بقي قال الذهبي حديث منكر فهذا أقرب ما يحد به حد الفقير والمسكين ولو اقتصر على حاجة شهره أو حاجة يومه فهو أقرب للتقوى ومذاهب العلماء في قدر المأخوذ بحكم الزكاة والصدقة مختلفة فمن مبالغ في التقليل إلى حد أوجب الاقتصار على قدر قوت يومه وليلته وتمسكوا بما روى سهل بن الحنظلية أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن السؤال مع الغنى فسئل عن غناه فقال صلى الله عليه وسلم غداؤه وعشاؤه حديث سهل بن الحنظلية في النهي عن السؤال مع الغنى فيسأل ما يغنيه فقال غداؤه وعشاؤه أخرجه أبو داود وابن حبان بلفظ من سأل وله ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم الحديث وقال آخرون يأخذ إلى حد الغنى حد الغنى نصاب الزكاة إذ لم يوجب الله تعالى الزكاة إلا على الأغنياء فقالوا له أن يأخذ بنفسه ولكل واحد من عياله نصاب زكاة وقال آخرون حد الغنى خمسون درهما أو قيمتها من الذهب لما روى ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال من سأل وله مال يغنيه جاء يوم القيامة وفي وجهه خموش فسئل وما غناه قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب حديث ابن مسعود من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة وفي وجهه خموش الحديث أخرجه أصحاب السنن وحسنه الترمذي وضعفه النسائي والخطابي وقيل راويه ليس بقوي وقال قوم أربعون لما رواه عطاء بن يسار منقطعا أنه صلى الله عليه وسلم قال من سأل وله أوقية فقد ألحف في السؤال حديث عطاء بن يسار منقطعا من سأل وله أوقية فقد ألحف في السؤال أخرجه أبو داود والنسائي من رواية عطاء عن رجل من بني أسد متصلا وليس بمنقطع كما ذكر المصنف لأن الرجل صحابي فلا يضر عدم تسميته وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث أبي سعيد وبالغ آخرون في التوسيع فقالوا له أن يأخذ مقدار ما يشتري به ضيعة فيستغني به طول عمره أو يهيىء بضاعة ليتجر بها ويستغني بها طول عمره لأن هذا هو الغنى وقد قال عمر رضي الله عنه إذا أعطيتم فأغنوا حتى ذهب قوم إلى أن من افتقر فله أن يأخذ بقدر ما يعود به إلى مثل حاله ولو عشرة آلاف درهم إلا إذا خرج عن حد الاعتدال ولما شغل أبو طلحة ببستانه عن الصلاة قال جعلته صدقه فقال صلى الله عليه وسلم اجعله في قرابتك فهو خير لك حديث لما شغل أبا طلحة بستانه عن الصلاة قال جعلته صدقة تقدم في الصلاة فأعطاه حسان وأبا قتادة فحائط من نخل لرجلين كثير مغن وأعطى عمر رضي الله عنه أعرابيا ناقة معها ظئر لها فهذا ما حكى فيه فأما التقليل إلى قوت اليوم أو الأوقية فذلك ورد في كراهية السؤال والتردد على الأبواب وذلك مستنكر وله حكم آخر بل التجويز إلى أن يشتري ضيعة فيستغني بها أقرب إلى الاحتمال وهو أيضا مائل إلى الإسراف والأقرب إلى الاعتدال كفاية سنة فما وراءه فيه خطر وفيما دونه تضييق وهذه الأمور إذا لم يكن فيها تقدير جزم بالتوقيف فليس للمجتهد إلا الحكم بما يقع له ثم يقال للورع استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك حديث استفت قلبك وإن أفتوك تقدم في العلم كما قاله صلى الله عليه وسلم إذ الإثم حزاز القلوب فإذا وجد القابض في نفسه شيئا مما يأخذه فليتق الله فيه ولا يترخص تعللا بالفتوى منعلماء الظاهر فإن لفتواهم قيودا ومطلقات من الضرورات وفيها تخمينات واقتحام شبهات والتوقي من الشبهات من شيم ذوي الدين وعادات السالكين لطريق الآخرة الخامسة أن يسأل صاحب المال عن قدر الواجب عليه فإن كان ما يعطيه فوق الثمن فلا يأخذه منه فإنه لا يستحق مع شريكه إلا الثمن فلينقص من الثمن مقدار ما يصرف إلى اثنين من صنفه وهذا السؤال واجب على أكثر الخلق فإنهم لا يراعون هذه القسمة إما لجهل وإما لتساهل وإنما يجوز ترك السؤل عن مثل هذه الأمور إذا لم يغلب على الظن احتمال التحريم وسيأتي ذكر مظان السؤال ودرجة الاحتمال في كتاب الحلال والحرام إن شاء الله تعالى الفصل الرابع في صدقة التطوع وفضلها وآداب أخذها وإعطائها بيان فضيلة الصدقة من الأخبار قوله صلى الله عليه وسلم تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسد من الجائع وتطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار حديث تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسد من الجائع وتطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار أخرجه ابن المبارك في الزهد من حديث عكرمة مرسلا ولأحمد من حديث عائشة بسند حسن استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تسد من الجائع مسدها من الشيعان ولأبي يعلى والبزار من حديث أبي بكر اتقوا النار ولو بشق تمرة فإنها تقوم العوج وتدفع ميتة السوء وتقع من الجائع موقعها من الشبعان وإسناده ضعيف وللترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه في حديث معاذ والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار وقال صلى الله عليه وسلم اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة حديث اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة أخرجاه من حديث عدي بن حاتم وقال صلى الله عليه وسلم ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا إلا كان الله آخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تبلغ التمرة مثل أحد حديث ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا الحديث أخرجه البخاري تعليقا ومسلم والترمذي والنسائي في الكبرى واللفظ لابن ماجه من حديث أبي هريرة وقال صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه بمعروف حديث قال لأبي الدرداء إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها الحديث أخرجه من حديث أبي ذر أنه قال ذلك له وما ذكره المصنف أنه قال لأبي الدرداء وهم وقال صلى الله عليه وسلم ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله عز وجل الخلافة على تركته حديث ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على تركته أخرجه ابن المبارك في الزهد من حديث ابن شهاب مرسلا بإسناد صحيح وأسنده الخطيب فيمن روى عن مالك من حديث ابن عمر وضعفه وقال صلى الله عليه وسلم كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس حديث كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس أخرجه ابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم من حديث عقبة بن عامر وقال صلى الله عليه وسلم الصدقة تسد سبعين بابا من الشر حديث الصدقة تسد سبعين بابا من الشر أخرجه ابن المبارك في البر من حديث أنس بسند ضعيف إن الله ليدرأ بالصدقة سبعين بابا من ميتة السوء وقال صلى الله عليه وسلم صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي أعطى من سعة بأفضل أجرا من الذي يقبل من حاجة حديث ما المعطي من سعة بأفضل أجرا من الذي يقبل من حاجة أخرجه ابن حبان في الضعفاء والطبراني في الأوسط من حديث أنس ورواه في الكبير من حديث ابن عمر بسند ضعيف ولعل المراد به الذي يقصد من دفع حاجته التفرغ للدين فيكون مساويا للمعطي الذي يقصد بإعطائه عمارة دينه وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل قال أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفاقة ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان حديث سئل أي الصدقة أفضل قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح الحديث أخرجاه من حديث أبي هريرة وقد قال صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه تصدقوا فقال رجل إن عندي دينارا فقال أنفقه على نفسك فقال إن عندي آخر قال أنفقهعلى زوجتك قال إن عندي آخر قال أنفقه على ولدك قال إن عندي آخر قال أنفقه على خادمك قال إن عندي آخر قال صلى الله عليه وسلم أنت أبصربه حديث قال يوما لأصحابه تصدقوا فقال رجل إن عندي دينارا فقال أنفقه على نفسك الحديث أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ له وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة وقد تقدم قبل بيسير وقال صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لآل محمد إنما هي أوساخ الناس حديث لا تحل الصدقة لآل محمد الحديث أخرجه مسلم من حديث المطلب بن ربيعة وقال ردوا مذمة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام حديث ردوا مذمة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام أخرجه العقيلي في الضعفاء من حديث عائشة وقال صلى الله عليه وسلم لو صدق السائل ما أفلح من رده حديث لو صدق السائل ما أفلح من رده أخرجه العقيلي في الضعفاء وابن عبد البر في التمهيد من حديث عائشة قال العقيلي لا يصح في هذا الباب شيء وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة بسند ضعيف وقال عيسى عليه السلام من رد سائلا خائبا من بيته لم تغش الملائكة ذلك البيت سبعة أيام وكان نبينا صلى الله عليه وسلم لا يكل خصلتين إلى غيره كان يضع طهوره بالليل ويخمره وكان يناول المسكين بيده حديث كان لا يكل خصلتين إلى غيره الحديث أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس بسند ضعيف ورواه ابن المبارك في البر مرسلا وقال صلى الله عليه وسلم ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافا حديث ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان الحديث متفق عليه من حديث عائشة وقال صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يكسو مسلما إلا كان في حفظ الله عز وجل ما دامت عليه منه رقعه حديث ما من مسلم يكسو مسلما إلا كان في حفظ الله الحديث أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن عباس وفيه خالد بن طهمان ضعيف الآثار قال عروة بن الزبير لقد تصدقت عائشة رضي الله عنها بخمسين ألفا وإن درعها لمرقع وقال مجاهد في قول الله عز وجل ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا فقال وهم يشتهونه وكان عمر رضي الله عنه يقول اللهم اجعل الفضل عند خيارنا لعلهم يعودون به على ذوي الحاجة منا وقال عمر عبد العزيز الصلاة تبلغك نصف الطريق والصوم يبلغك باب الملك والصدقة تدخلك عليه وقال ابن أبي الجعد إن الصدقة لتدفع سبعين بابا من السوء وفضل سرها على علانيتها بسبعين ضعفا وإنها لتفك لحيي سبعين شيطانا وقال ابن مسعود إن رجلا عبد الله سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط عمله ثم مر بمسكين فتصدق عليه برغيف فغفر الله له ذنبه ورد عليه عمل السبعين سنة وقال لقمان لابنه إذا أخطأت خطيئة فأعط الصدقة وقال يحيى بن معاذ ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة وقال عبد العزيز بن أبي رواد كان يقال ثلاثة من كنوز الجنة كتمان المرض وكتمان الصدقة وكتمان المصائب وروى مسندا وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة أنا أفضلكن وكان عبد الله بن عمر يتصدق بالسكر ويقول سمعت الله يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون والله يعلم أني أحب السكر وقال النخعي إذا كان الشيء لله عز وجل لا يسرني أن يكون فيه عيب وقال عبيد بن عمير يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط وأعطش ما كانووا قط وأعرى ما كانوا قط فمن أطعم لله عز وجل أشبعه الله ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ومن كسا لله عز وجل كساه الله وقال الحسن لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم ولكنه ابتلى بعضكم ببعض وقال الشعبي من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه وقال مالك لا نرى بأسا بشرب المؤمن من الماء الذي يتصدق به ويسقي في المسجد لأنه إنما جعل للعطشان من كان ولم يرد به أهل الحاجة والمسكنة على الخصوص ويقال إن الحسن مر به نخاسومعه جارية فقال للنخاس أترضى في ثمنها الدرهم والدرهمين قال لا قال فاذهب فإن الله عز وجل رضي في الحور العين بالفلس واللقمة بيان إخفاء الصدقة وإظهارها قد اختلف طريق طلاب الإخلاص في ذلك فمال قوم إلى أن الإخفاء أفضل ومال قوم إلى أن الإظهار أفضل ونحن نشير إلى ما في كل واحد من المعاني والآفات ثم نكشف الغطاء عن الحق فيه أما الإخفاء ففيه خمسة معان الأول أنه أبقى للستر على الآخذ فإن أخذه ظاهرا هتك لستر المروءة وكشف عن الحاجة وخروج عن هيئة التعفف والتصون المحبوب الذي يحسب الجاهل أهله أغنياء من التعفف الثاني أنه أسلم لقلوب الناس وألسنتهم فإنهم ربما يحسدون أو ينكرون عليه أخذه ويظنون أنه آخذ مع الاستغناء أو ينسبونه إلى أخذ زيادة والحسد وسوء الظن والغيبة من الذنوب الكبائر وصيانتهم عن هذه الجرائم أولى وقال أبو أيوب السختياني إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيران حسدا وقال بعض الزهاد ربما تركت استعمال الشيء لأجل إخواني يقولون من أين له هذا وعن إبراهيم التيمي أنه رؤي عليه قميص جديد فقال بعض إخوانه من أين لك هذا فقال كسانيه أخي خيثمة ولو علمت أن أهله علموا به ما قبلته الثالث إعانة المعطي على إسرار العمل فإن فضل السر على الجهر في الإعطاء أكثر والإعانة على إتمام المعروف معروف والكتمان لا يتم إلا باثنين فمهما أظهر هذا انكشف أمر المعطي ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئا ظاهرا فرده إليه ودفع إليه آخر شيئا في السر فقبله فقيل له في ذلك فقال إن هذا عمل الأدب في إخفاء معروفه فقبلته وذاك أساء أدبه في عمله فرددته عليه وأعطى رجل لبعض الصوفية شيئا في الملأ فرده فقال له لم ترد على الله عز وجل ما أعطاك فقال إنك أشركت غير الله سبحانه فيما كان لله تعالى ولم تقنع بالله عز وجل فرددت عليك شركك وقبل بعض العارفين في السر شيئا كان رده في العلانية فقيل له في ذلك فقال عصيت الله بالجهر فلم أك عونا لك على المعصية وأطعته بالإخفاء فأعنتك على برك وقال الثوري لو علمت أن أحدكم لا يذكر صدقته ولا يتحدث بها لقبلت صدقته الرابع أن في إظهار الأخذ ذلا وامتهانا وليس للمؤمن أن يذل نفسه كان بعض العلماء يأخذ في السر ولا يأخذ في العلانية ويقول إن في إظهاره إذلالا للعلم وامتهانا لأهله فما كنت بالذي أرفع شيئا من الدنيا بوضع العلم وإذلال أهله الخامس الاحتراز عن شبهة الشركة قال صلى الله عليه وسلم من أهدى له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها حديث من أهدى له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها أخرجه العقيلي وابن حبان في الضعفاء والطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث ابن عباس قال العقيلي لا يصح في هذا المتن حديث وبأن يكون ورقا أو ذهبا لا يخرج عن كونه هدية قال صلى الله عليه وسلم أفضل ما يهدي الرجل إلى أخيه ورقا أو يطعمه خبزا حديث أفضل ما يهدي الرجل إلى أخيه ورقا أو يعطيه خبزا أخرجه ابن عدي وضعفه من حديث ابن عمر أفضل العمل عند الله أن يقضي عن مسلم دينه أو يدخل عليه سرورا أو يطعمه خبزا ولأحمد والترمذي وصححه من حديث البراء من منح منحة ورق أو منحة لبن أو أهدى رقاقا فهو كعتاق نسمة فجعل الورق هدية بانفراده فما يعطى في الملأ مكروه إلا برضا جميعهم ولا يخلو عن شبهة فإذا انفرد سلم من هذه الشبهة أما الإظهار والتحدث به ففيه معان أربعة الأول الإخلاص والصدق والسلامة عن تلبيس الحال والمراءاة والثاني إسقاط الجاه والمنزلة وإظهار العبودية والمسكنة والتبري عن الكبرياء ودعوى الاستغناء وإسقاط النفس من أعين الخلق قال بعض العارفين لتلميذه أظهر الأخذ على كل حال إن كنت آخذ فإنك لا تخلو عن أحد رجلينرجل تسقط من قلبه إذا فعلت ذلك فذلك هو المراد لأنه أسلم لدينك وأقل لآفات نفسك أو رجل تزداد في قلبه بإظهارك الصدق فذلك الذي يريده أخوك لأنه يزداد ثوابا بزيادة حبه لك وتعظيمه إياك فتؤجر أنت إذ كنت سبب مزيد ثوابه الثالث هو أن العارف لا نظر له إلا إلى الله عز وجل والسر والعلانية في حقه واحد فاختلاف الحال شرك في التوحيد قال بعضهم كنا لا نعبأ بدعاء من يأخذ في السر ويرد في العلانية والالتفات إلى الخلق حضروا أم غابوا نقصان في الحال بل ينبغي أن يكون النظر مقصور على الواحد الفرد حكي أن بعض الشيوخ كان كثير الميل إلى واحد من جملة المريدين فشق على الآخرين فأراد أن يظهر لهم فضيلة ذلك المريد فأعطى كل واحد منهم دجاجة وقال لينفرد كل واحد منكم بها وليذبحها حيث لا يراه أحد فانفرد كل واحد وذبح إلا ذلك المريد فإنه رد الدجاجة فسألهم فقالوا فعلنا ما أمرنا به الشيخ فقال الشيخ للمريد ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك فقال ذلك المريد لم أقدر على مكان لا يراني فيه أحد فإن الله يراني في كل موضع فقال الشيخ لهذا أميل إليه لأنه لا يلتفت لغير الله عز وجل الرابع أن الإظهار إقامة لسنة الشكر وقد قال تعالى وأما بنعمة ربك فحدث والكتمان كفران النعمة وقد ذم الله عز وجل من كتم ما آتاه الله عز وجل وقرنه بالبخل فقال تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وقال صلى الله عليه وسلم إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن ترى نعمته عليه حديث إذا أنعم الله تعالى على عبد نعمة أحب أن ترى عليه أخرجه أحمد من حديث عمران بن حصين بسند صحيح وحسنه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأعطى رجل بعض الصالحين شيئا في السر فرفع به يده وقال هذا من الدنيا والعلانية فيها أفضل والسر في أمور الآخرة أفضل ولذلك قال بعضهم إذا أعطيت في الملأ فخذ ثم اردد في السر والشكر فيه محثوث عليه قال صلى الله عليه وسلم من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل حديث من لم يشكر الناس لم يشكر الله تقدم والشكر قائم مقام المكافأة حتى قال صلى الله عليه وسلم من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تستطيعوا فأثنوا عليه به خيرا وادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ولما قال المهاجرين في الشكر يا رسول الله ما رأينا خيرا من قوم نزلنا عندهم قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله فقال صلى الله عليه وسلم كل ما شكرتم لهم وأثنيتم عليهم به فهو مكافإة حديث قالت المهاجرون يا رسول الله ما رأينا خيرا من قوم نزلنا عليهم الحديث أخرجه الترمذي وصححه من حديث أنس ورواه مختصرا أبو داود والنسائي في اليوم والليلة والحاكم وصححه ابن ماجه فالآن إذا عرفت هذه المعاني فاعلم أن ما نقل من اختلاف الناس فيه ليس اختلافا في المسئلة بل هو اختلاف حال فكشف الغطاء في هذا أنا لا نحكم حكما بتا بأن الإخفاء أفضل في كل حال أو الإظهار أفضل بل يختلف ذلك باختلاف النيات وتختلف النيات باختلاف الأحول والأشخاص فينبغي أن يكون المخلص مراقبا لنفسه حتى لا يتدلى بحبل الغرور ولا ينخدع بتلبيس الطبع ومكر الشيطان والمكر والخداع أغلب في معاني الإخفاء منه في الإظهار مع أن له دخلا في كل واحد منهما فأما مدخل الخداع في الإسرار فمن ميل الطبع إليه لما فيه من في خفض الجاه والمنزلة وسقوط القدر عن أعين الناس ونظر الخلق إليه بعين الازدراء وإلى المعطي بعين المنعم المحسن فهذا هو الداء الدفين ويستكن في النفس وللشيطان بواسطته يظهر معاني الخير حتى يتعلل بالمعاني الخمسة التي ذكرناها ومعيار كل ذلك ومحكه أمر واحد وهو أن يكون تألمه بانكشاف أخذه الصدقة كتألمه بانكشاف صدقة أخذها بعض نظرائه وأمثاله فإنه إن كان يبغي صيانة الناس عن الغيبة والحسد وسوء الظن أو يتقيانتهاك الستر أو إعانة المعطي على الإسرار أو صيانة العلم عن الابتذال فكل ذلك مما يحصل بانكشاف صدقة أخيه فإن كان انكشاف أمره أثقل عليه من انكشاف أمر غيره فتقديره الحذر من هذه المعاني أغاليظ وأباطيل من مكر الشيطان وخدعه فإن إذلال العلم محذور من حيث إنه علم لا من حيث إنه علم زيد أو علم عمرو والغيبة محذورة من حيث إنها تعرض لعرض مصون لا من حيث إنها تعرض لعرض زيد على الخصوص ومن أحسن من ملاحظة مثل هذا ربما يعجز الشيطان عنه وإلا فلا يزال كثير العمل قليل الحظ وأما جانب الإظهار فميل الطبع إليه من حيث إنه تطييب لقلب المعطي واستحثاث له على مثله وإظهاره عند غيره أنه من المبالغين في الشكر حتى يرغبوا في إكرامه وتفقده وهذا داء دفين في الباطن والشيطان لا يقدر على المتدين إلا بأن يروج عليه هذا الخبث في معرض السنة ويقول له الشكر من السنة والإخفاء من الرياء ويورد عليه المعاني التي ذكرناها ليحمله على الإظهار وقصده الباطن ما ذكرناه ومعيار ذلك ومحكه أن ينظر إلى ميل نفسه إلى الشكر حيث لا ينتهي الخبر إلى المعطي ولا إلى من يرغب في عطائه وبين يدي جماعة يكرهون إظهار العطية ويرغبون في إخفائها وعادتهم أنهم لا يعطون إلا من يخفى ولا يشكر فإن استوت هذه الأحوال عنده فليعلم أن باعثه هو إقامة السنة في الشكر والتحدث بالنعمة وإلا فهو مغرور ثم إذا علم أن باعثه السنة في الشكر فلا ينبغي أن يغفل عن قضاء حق المعطي فينظر فإن كان هو ممن يحب الشكر والنشر فينبغي أن يخفى ولا يشكر لأن قضاء حقه أن لا ينصره على الظلم وطلبه الشكر ظلم وإذا علم من حاله أنه لا يحب الشكر ولايقصده فعند ذلك يشكره ويظهر صدقته ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي مدح بين يديه ضربتم عنقه لو سمعها ما أفلح حديث قال للرجل الذي مدح بين يديه ضربتم عنقه لو سمعها ما أفلح متفق عليه من حديث أبي بكرة بلفظ ويحك قطعت عنق صاحبك زاد الطبراني في رواية والله لو سمعها ما أفلح أبدا وفي سنده علي بن زيد بن جدعان متكلم فيه وابن ماجه نحوه من حديث أبي موسى مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يثني على قوم في وجوههم لثقته بيقينهم وعلمه بأن ذلك لا يضرهم بل يزيد في رغبتهم في الخير فقال لواحد إنه سيد أهل الوبر حديث إنه سيد الوبر أخرجه العنبري والطبراني وابن قانع في معاجمهم وابن حبان في الثقات من حديث قيس بن عاصم المقري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك وقال صلى الله عليه وسلم في آخر إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه حديث إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر ورواه أبو داود في المراسيل من حديث الشعبي مرسلا بسند صحيح وقال روى متصلا وهو ضعيف والحاكم نحوه من حديث معبد بن خالد الأنصاري عن أبيه وصحح إسناده وسمع كلام رجل فأعجبه فقال صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا حديث إن من البيان لسحرا أخرجه البخاري من حديث ابن عمر وقال صلى الله عليه وسلم إذا علم أحدكم من أخيه خيرا فليخبره فإنه يزداد رغبة في الخير حديث إذا علم أحدكم من أخيه خيرا فليخبره فإنه يزداد رغبة في الخير أخرجه الدار قطني في العلل من رواية ابن المسيب عن أبي هريرة وقال لايصح عن الزهري وروي عن ابن المسيب مرسلا وقال صلى الله عليه وسلم إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه حديث إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه أخرجه الطبراني من حديث أسامة بن زيد بسند ضعيف وقال الثوري من عرف نفسه لم يضره مدح الناس وقال أيضا ليوسف بن أسباط إذا أوليتك معروفا كنت أنا أسر به منك ورأيت ذلك نعمة من الله عز وجل علي فاشكر وإلا فلا تشكر ورقائق هذه المعاني ينبغي أن يلحظها من يراعى قلبه فإن أعمال الجوارح مع إهمال هذه الدقائق ضحكة للشيطان وشماته له لكثرة التعب وقلة النفع ومثل هذا العلم هو الذي يقال فيه إن تعلم مسألة واحدة منه أفضل من عبادة سنة إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمل وبالجهل به تموت عبادة العمل كله وتتعطل وعلى الجملة فالأخذ في الملأ والرد في السر أحسن المسالك وأسلمها فلا ينبغي أن يدفع بالتزويقات إلا أن تكمل المعرفةبحيث يستوي السر والعلانية وذلك هو الكبريت الأحمر الذي يتحدث به ولا يرى نسأل الله الكريم حسن العون والتوفيق بيان الأفضل من أخذ الصدقة أو الزكاة كان إبراهيم الخواص والجنيد وجماعة يرون أن الأخذ من الصدقة أفضل فإن في أخذ الزكاة مزاحمة للمساكين وتضييقا عليهم ولأنه ربما لا يكمل في أخذه صفة الاستحقاق كما وصف في الكتاب العزيز وأما الصدقة فالأمر فيها أوسع وقال قائلون بأخذ الزكاة دون الصدقة لأنها إعانة على الواجب ولو ترك المساكين كلهم أخذ الزكاة لأثموا ولأن الزكاة لامنه فيها وإنما هو حق واجب لله سبحانه رزقا لعبادة المحتاجين ولأنه أخذ بالحاجة والإنسان يعلم حاجة نفسه قطعا وأخذ الصدقة أخذ بالدين فإن الغالب أن المتصدق يعطى من يعتقد فيه خيرا ولأن مرافقة المساكين أدخل في الذل والمسكنة وأبعد من التكبر إذ قد يأخذ الإنسان الصدقة في معرض الهدية فلا تتميز عنه وهذا تنصيص على ذل الأخذ وحاجته والقول الحق في هذا يختلف بأحوال الشخص وما يغلب عليه وما يحضره من النية فإن كان في شبهة من اتصافه بصفة الاستحقاق فلا ينبغي أن يأخذ الزكاة فإذا علم أنه مستحق قطعا إذا حصل عليه دين صرفه إلى خير وليس له وجه في قضائه فهو مستحق قطعا فإذا خير هذا بين الزكاة وبين الصدقة فإذا كان صاحب الصدقة لا يتصدق بذلك المال لو لم يأخذه هو فليأخذ الصدقة فإن الزكاة الواجبة يصرفها صاحبها إلى مستحقها ففي ذلك تكثير للخير وتوسيع على المساكين وإن كان المال معرضا للصدقة ولم يكن في أخذ الزكاة تضييق على المساكين فهو مخير والأمر فيهما يتفاوت وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس وإذلالها في أغلب الأحوال والله أعلم كمل كتاب أسرار الزكاة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ويتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أسرار الصوم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى الملائكة والمقربين من أهل السموات والأرضين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل.

كتاب أسرار الطهارة

 

كتاب أسرار الطهارة

وهو الكتاب الثالث من ربع العبادات

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله الذي تلطف بعباده فتعبدهم بالنظافة وأفاض على قلوبهم تزكية لسرائرهم أنواره وألطافه وأعد لظواهرهم تطهيرا لها الماء المخصوص بالرقة واللطافة وصلى الله على النبي محمد المستغرق بنور الهدى أطراف العالم وأكنافه وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاة تنجينا بركاتها يوم المخافة وتنتصب جنة بيننا وبين كل آفة أما بعد فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بني الدين على النظافة حديث بني الدين على النظافة لم أجده هكذا وفي الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة تنظفوا فإن الإسلام نظيف والطبراني في الأوسط بسند ضعيف جدا من حديث ابن مسعود النظافة تدعو إلى الإيمان وقال صلى الله عليه وسلم مفتاح الصلاة الطهور حديث مفتاح الصلاة الطهور أخرجه د ت م من حديث علي قال الترمذي هذا أصح شيء في هذا الباب وأحسن وقال الله تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين وقال النبي صلى الله عليه وسلم الطهور نصف الإيمان حديث الطهور نصف الإيمان أخرجه ت من حديث رجل من بني سليم وقال حسن ورواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري بلفظ شطر كما في الإحياء وقال الله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم فتفطن ذوو البصائر بهذه الظواهر أن أهم الأمور تطهير السرائر إذ يبعد أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم الطهور نصف الإيمان عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإلقائه وتخريب الباطن وإبقائه مشحونا بالأخباث والأقذار هيهاتهيهات والطهارة لها أربع مراتب المرتبة الأولى تطهير الظاهر عن الأحداث وعن الأخباث والفضلات المرتبة الثانية تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام المرتبة الثالثة تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة المرتبة الرابعة تطهير السر عما سوى الله تعالى وهي طهارة الأنبياء صلوات الله عليهم والصديقين والطهارة في كل رتبة نصف العمل الذي فيها فإن الغاية القصوى في عمل السر أن ينكشف له جلال الله تعالى وعظمته ولن تحل معرفة الله تعالى بالحقيقة في السر ما لم يرتحل ما سوى الله تعالى عنه ولذلك قال الله عز وجل قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون لأنهما لا يجتمعان في قلب وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وأما عمل القلب فالغاية القصوى عمارته بالأخلاق المحمودة والعقائد المشروعة ولن يتصف بها ما لم ينظف عن نقائضها من العقائد الفاسدة والرذائل الممقوتة فتطهيره أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني فكان الطهور شطر الإيمان بهذا المعنى وكذلك تطهير الجوارح عن المناهي أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني فتطهيره أحد الشطرين وهو الشطر الأول وعمارتها بالطاعات الشطر الثاني فهذه مقامات الإيمان ولكل مقام طبقة ولن ينال العبد الطبقة العالية إلا أن يجاوز الطبقة السافلة فلا يصل إلى طهارة السر عن الصفات المذمومة وعمارته بالمحمودة ما لم يفرغ من طهارة القلب عن الخلق المذموم وعمارته بالخلق المحمود ولن يصل إلى ذلك من لم يفرغ عن طهارة الجوارح عن المناهي وعمارتها بالطاعات وكلما عز المطلوب وشرف صعب مسلكه وطال طريقه وكثرت عقباته فلا تظن أن هذا الأمر يدرك وينال بالهوينى نعم من عميت بصيرته عن تفاوت هذه الطبقات لم يفهم من مراتب الطهارة إلا الدرجة الأخيرة التي هي كالقشرة الأخيرة الظاهرة بالإضافة إلى اللب المطلوب فصار يمعن فيها ويستقصي في مجاريها ويستوعب جميع أوقاته في الاستنجاء وغسل الثياب وتنظيف الظاهر وطلب المياه الجارية الكثيرة ظنا منه بحكم الوسوسة وتخيل العقل أن الطهارة المطلوبة الشريفة هي هذه فقط وجهالة بسيرة الأولين واستغراقهم جميع الهم والفكر في تطهير القلب وتساهلهم في أمر الظاهر حتى إن عمر رضي الله عنه مع علو منصبه توضأ من ماء في جرة نصرانية وحتى إنهم ما كانوا يغسلون اليد من الدسومات والأطعمة بل كانوا يمسحون أصابعهم بأخمص أقدامهم وعدوا الأشنان من البدع المحدثة ولقد كانوا يصلون على الأرض في المساجد ويمشون حفاة في الطرقات ومن كان لا يجعل بينه وبين الأرض حاجزا في مضجعه كان من أكابرهم وكانوا يقتصرون على الحجارة في الاستنجاء وقال أبو هريرة وغيره من أهل الصفة كنا نأكل الشواء فتقام الصلاة فندخل أصابعنا في الحصى ثم نفركها بالتراب ونكبر حديث كنا نأكل الشواء فتقام الصلاة فندخل أصابعنا في الحصباء الحديث أخرجه من حديث عبد الله بن الحارث ابن جزء ولم أره من حديث أبي هريرة وقال عمر رضي الله عنه ما كنا نعرف الأشنان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانت مناديلنا بطون أرجلنا حديث عمر ما كنا نعرف الأشنان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانت مناديلنا باطن أرجلنا الحديث لم أجده من حديث عمر ولابن ماجه نحوه مختصرا من حديث جابر كنا إذا أكلنا الغمر مسحنا بها ويقال أول ما ظهر من البدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع المناخل والأشنان والموائد والشبع فكانت عنايتهم كلها بنظافة الباطن حتى قال بعضهم الصلاة في النعلين أفضل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزع نعليه في صلاته بإخبار جبريل عليه السلام له أن بهما نجاسة وخلع الناس نعالهم قال صلى الله عليه وسلم لم خلعتم نعالكم حديث خلع نعليه في الصلاة إذ أخبره جبريل عليه الصلاة والسلام أن عليه نجاسة أخرجه د ك وصححه من حديث أبي سعيد الخدري وقال النخعي في الذين يخلعون نعالهم وددت لو أن محتاجا جاء إليها فأخذها منكرا لخلع النعال فهكذا كان تساهلهم في هذه الأمور بل كانوا يمشون في طين الشوارع حفاة ويجلسون عليها ويصلونفي المساجد على الأرض ويأكلون من دقيق البر والشعير وهو يداس بالدواب وتبول عليه ولا يحترزون من عرق الإبل والخيل مع كثرة تمرغها في النجاسات ولم ينقل قط عن أحد منهم سؤال في دقائق النجاسات فهكذا كان تساهلهم فيها وقد انتهت النوبة الآن إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة فيقولون هي مبنى الدين فأكثر أوقاتهم في تزيينهم الظواهر كفعل الماشطة بعروسها والباطن خراب مشحون بخبائث الكبر والعجب والجهل والرياء والنفاق ولا يستنكرون ذلك ولا يتعجبون منه ولو اقتصر مقتصر على الاستنجاء بالحجر أو مشى على الأرض حافيا أو صلى على الأرض أو على بواري المسجد من غيرسجادة مفروشة أو مشى على الفرش من غير غلاف للقدم من أدم أو توضأ من آنية عجوز أو رجل غير متقشف أقاموا عليه القيامة وشدوا عليه النكير ولقيوه بالقذر وأخرجوه من زمرتهم واستنكفوا عن مؤاكلته ومخالطته فسموا البذاذة التي هي من الإيمان قذارة والرعونة نظافة فانظر كيف صار المنكر معروفا والمعروف منكرا وكيف اندرس من الدين رسمه كما اندرس حقيقته وعلمه فإن قلت أفتقول إن هذه العادات التي أحدثها الصوفية في هيئاتهم ونظافتهم من المحظورات أو المنكرات فأقول حاش لله أن أطلق القول فيه من غير تفصيل ولكني أقول إن هذا التنظيف والتكلف وإعداد الأواني والآلات واستعمال غلاف القدم والإزار المقنع به لدفع الغبار وغير ذلك من هذه الأسباب إن وقع النظر إلى ذاتها على سبيل التجرد فهي من المباحات وقد يقترن بها أحوال ونيات تلحقها تارة بالمعروفات وتارة بالمنكرات فأما كونها مباحة في نفسها فلا يخفى أن صاحبها متصرف بها في ماله وبدنه وثيابه فيفعل بها ما يريد إذا لم يكن فيه إضاعة وإسراف وأما مصيرها منكرا فبأن يجعل ذلك أصل الدين ويفسر به قوله صلى الله عليه وسلم بني الدين على النظافة حتى ينكر به على من يتساهل فيه الأولين أو يكون القصد به تزيين الظاهر للخلق وتحسين موقع نظرهم فإن ذلك هو الرياء المحظور فيصير منكرا بهذين الاعتبارين أما كونه معروفا فبأن يكون القصد منه الخير دون التزين وأن لا ينكر على من ترك ذلك ولا يؤخر بسببه الصلاة عن أوائل الأوقات ولا يشتغل به عن عمل هو أفضل منه أو عن علم أو غيره فإذا لم يقترن به شيء من ذلك فهو مباح يمكن أن يجعل قربة بالنية ولكن لا يتيسر ذلك إلا للبطالين الذين لو لم يشتغلوا بصرف الأوقات فيه لاشتغلوا بنوم أو حديث فيما لا يعنى فيصير شغلهم به أولى لأن الاشتغال بالطهارات يجدد ذكر الله تعالى وذكر العبادات فلا بأس به إذا لم يخرج إلى منكر أو إسراف وأما أهل العلم والعمل فلا ينبغي أن يصرفوا من أوقاتهم إليه إلا قدر الحاجة فالزيادة عليه منكر في حقهم وتضييع العمر الذي هو أنفس الجواهر وأعزها في حق من قدر على الانتفاع به ولا يتعجب من ذلك فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولا ينبغي للبطال أن يترك النظافة وينكر على المتصوفة ويزعم أنه يتشبه بالصحابة إذ التشبه بهم في أن لا يتفرغ إلا لما هو أهم منه كما قيل لداود الطائي لم لا تسرح لحيتك قال إني إذن لفارغ فلهذا لا أرى للعالم ولا للمتعلم ولا للعامل أن يضيع وقته في غسل الثياب احترازا من أن يلبس الثياب المقصورة وتوهما بالقصار تقصيرا في الغسل فقد كانوا في العصر الأول يصلون في الفراء المدبوغة ولم يعلم منهم من فرق بين المقصورة والمدبوغة في الطهارة والنجاسة بل كانوا يجتنبون النجاسة إذا شاهدوها ولا يدققون نظرهم في استنباط الاحتمالات الدقيقة بل كانوا يتأملون في دقائق الرياء والظلم حتى قال سفيان الثوري لرفيق له كان يمشي معه فنظر إلى باب دار مرفوع معمور لا تفعل ذلك فإن الناس لو لم ينظروا إليه لكان صاحبه لا يتعاطى هذا الإسراف فالناظر إليه معين له على الإسراف فكانوا يعدون جمام الذهن لاستنباط مثل هذه الدقائق لا في احتمالات النجاسة فلو وجد العالم عاميايتعاطى له غسل الثياب محتاطا فهو أفضل فإنه بالإضافة إلى التساهل خير وذلك العامي ينتفع بتعاطيه إذ يشغل نفسه الأمارة بالسوء بعمل المباح في نفسه فيمتنع عليه المعاصي في تلك الحال والنفس إن لم تشغل بشيء شغلت صاحبها وإذا قصد به التقرب إلى العالم صار ذلك عنده من أفضل القربات فوقت العالم أشرف من أن يصرفه إلى مثله فيبقى محفوظا عليه وأشرف وقت العامي أن يشتغل بمثله فيتوفر الخير عليه من الجوانب كلها وليتفطن بهذا المثل لنظائره من الأعمال وترتيب فضائلها ووجه تقديم البعض منها على بعض فتدقيق الحساب في حفظ لحظات العمر بصرفها إلى الأفضل أهم من التدقيق في أمور الدنيا بحذافيرها وإذا عرفت هذه المقدمة واستبنت أن الطهارة لها أربع مراتب فاعلم أنا في هذا الكتاب لسنا نتكلم إلا في المرتبة الرابعة وهي نظافة الظاهر لأنا في الشطر الأول من الكتاب لا نتعرض قصدا إلا للظواهر فنقول طهارة الظاهر ثلاثة أقسام طهارة عن الخبث وطهارة عن الحدث وطهارة عن فضلات البدن وهي التي تحصل بالقلم والاستحداد واستعمال النورة والختان وغيره القسم الأول في طهارة الخبث والنظر فيه يتعلق بالمزال والمزال به والإزالة الطرف الأول في المزال وهي النجاسة والأعيان ثلاثة جمادات وحيوانات وأجزاء حيوانات أما الجمادات فطاهرة كلها إلا الخمر وكل منتبذ مسكر والحيوانات طاهرة كلها إلا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فإذا ماتت فكلها نجسة إلا خمسة الآدمي والسمك والجراد ودود التفاح وفي معناه كل ما يستحيل من الأطعمة وكل ما ليس له نفس سائلة كالذباب والخنفساء وغيرهما فلا ينجس الماء بوقوع شيء منها فيه وأما أجزاء الحيوانات فقسمان أحدهما ما يقطع منه وحكمه حكم الميت والشعر لا ينجس بالجز والموت والعظم ينجس الثاني الرطوبات الخارجة من باطنه فكل ما ليس مستحيلا ولا له مقر فهو طاهر كالدمع والعرق واللعاب والمخاط وما له مقر وهو مستحيل فنجس إلا ما هو مادة الحيوان كالمني والبيض والقيح والدم والروث والبول نجس من الحيوانات كلها ولا يعفى عن شيء من هذه النجاسات قليلها وكثيرها إلا عن خمسة الأول أثر النجو بعد الاستجمار بالأحجار يعفى عنه ما لم يعد المخرج والثاني طين الشوارع وغبار الروث في الطريق يعفى عنه مع تيقن النجاسة بقدر ما يتعذر الاحتراز عنه وهو الذي لا ينسب المتلطخ به إلى تفريط أو سقطة الثالث ما على أسفل الخف من نجاسة لا يخلو الطريق عنها فيعفى عنه بعد الدلك للحاجة الرابع دم البراغيث ما قل منه أو كثر إلا إذا جاوز حد العادة سواء كان في ثوبك أو في ثوب غيرك فلبسته الخامس دم البثرات وما ينفصل منها من قيح وصديد ودلك ابن عمر رضي الله عنه بثرة على وجهه فخرج منها الدم وصلى ولم يغتسل وفي معناه ما يترشح من لطخات الدماميل التي تدوم غالبا وكذلك أثر الفصد إلا ما يقع نادرا من خراج أو غيره فيلحق بدم الاستحاضة ولا يكون في معنى البثرات التي لا يخلو الإنسان عنها في أحواله ومسامحة الشرع في هذه النجاسات الخمس تعرفك أن أمر الطهارة على التساهل وما ابتدع فيها وسوسة لا أصل لها الطرف الثاني في المزال به وهو إما جامد وإما مائع أما الجامد فحجر الاستنجاء وهو مطهر تطهير تخفيف بشرط أن يكون صلبا طاهرا منشفا غير محترم وأما المائعات فلا تزال النجاسات بشيء منها إلا الماء ولا كل ماء بل الطاهر الذي لم يتفاحشتغيره بمخالطة ما يستغنى عنه ويخرج الماء عن الطهارة بأن يتغير بملاقاة النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه فإن لم يتغير وكان قريبا من مائتين وخمسين منا وهو خمسمائة رطل برطل العراق لم ينجس لقوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا حديث إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم وصححه من حديث ابن عمر وإن كان دونه صار نجسا عند الشافعي رضي الله عنه هذا في الماء الراكد وأما الماء الجاري إذا تغير بالنجاسة فالجرية المتغيرة نجسة دون ما فوقها وما تحتها لأن جريات الماء متفاصلات وكذا النجاسة الجارية إذا جرت بمجرى الماء فالنجس موقعها من الماء وما عن يمينها وشمالها إذا تقاصر عن قلتين وإن كان جرى الماء أقوى من جري النجاسة فما فوق النجاسة طاهر وما سفل عنها فنجس وإن تباعد وكثر إلا إذا اجتمع في حوض قدر قلتين وإذا اجتمع قلتان من ماء نجس طهر ولا يعود نجسا بالتفريق هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب مالك رضي الله عنه في أن الماء وإن قل لا ينجس إلا بالتغير إذ الحاجة ماسة إليه ومثار الوسواس اشترط القلتين ولأجله شق على الناس ذلك وهو لعمري سبب المشقة ويعرفه من يجربه ويتأمله ومما لا أشك فيه أن ذلك لو كان مشروطا لكان أولى المواضع بتعسر الطهارة مكة والمدينة إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة ومن أول عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصر أصحابه لم تنقل واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات وقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية وهذا كالصريح في أنه لم يعول إلا على عدم تغير الماء وإلا فنجاسة النصرانية وإنائها غالبة تعلم بظن قريب فإذا عسر القيام بهذا المذهب وعدم وقوع السؤال في تلك الأعصار دليل أول وفعل عمر رضي الله عنه دليل ثان والدليل الثالث إصغاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء للهرة حديث إصغاء الإناء للهرة أخرجه الطبراني في الأوسط والدار قطني من حديث عائشة وروى أصحاب السنن ذلك من فعل أبي قتادة وعدم تغطية الأواني منها بعد أن يرى أنها تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل الآبار والرابع أن الشافعي رضي الله عنه نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إن تغيرت وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن الورود لم يمنع مخالطة النجاسة وإن أحيل ذلك على الحاجة فالحاجة أيضا ماسة إلى هذا فلا فرق بين طرح الماء في إجانة فيها ثوب نجس أو طرح الثوب النجس في الإجانة وفيها ماء وكل ذلك معتاد في غسل الثياب والأواني والخامس أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة ولا خلاف في مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير أنه يجوز التوضؤ به وإن كان قليلا وأي فرق بين الجاري والراكد وليت شعري هل الحوالة على عدم التغير أولى أو على قوة الماء بسبب الجريان ثم ما حد تلك القوة أتجري في المياه الجارية في أنابيب الحمامات أم لا فإن لم تجر فما الفرق وإن جرت فما الفرق بين ما يقع فيها وبين ما يقع في مجرى الماء من الأواني على الأبدان وهي أيضا جارية ثم البول أشد اختلاطا بالماء الجاري من نجاسة جامدة ثابتة إذا قضى بأن ما يجري عليها وإن لم يتغير نجس أن يجتمع في مستنقع قلتان فأي فرق بين الجامد والمائع والماء واحد والاختلاط أشد من المجاورة والسادس أنه إذا وقع رطل من البول في قلتين ثم فرقتا فكل كوز يغترف منه طاهر ومعلوم أن البول منتشر فيه وهو قليل وليت شعري هل تعليل طهارته بعدم التغير أولى أو بقوة الماء بعد انقطاع الكثرة وزوالها معتحقق بقاء أجزاء النجاسة فيها والسابع أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ فيها المتقشفون ويغمسون الأيدي والأواني في تلك الحياض مع قلة الماء ومع العلم بأن الأيدي النجسة والطاهرة كانت تتوارد عليها فهذه الأمور مع الحاجة الشديدة تقوى في النفس أنهم كانوا ينظرون إلى عدم التغير معولين على قوله صلى الله عليه وسلم خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه حديث خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف وقد رواه بدون الاستثناء أبو داود والنسائي والترمذي من حديث أبي سعيد وصححه أبو داود وغيره وهذا فيه تحقيق وهو أن طبع كل مائع أن يقلب إلى صفة نفسه كل ما يقع فيه وكان مغلوبا من جهته فكما ترى الكلب يقع في المملحة فيستحيل ملحا ويحكم بطهارته بصيرورته ملحا وزوال صفة الكلبية عنه فكذلك الخل يقع في الماء وكذا اللبن يقع فيه وهو قليل فتبطل صفته ويتصور بصفة الماء وينطبع بطبعه إلا إذا كثر وغلب وتعرف غلبته بغلبة طعمه أو لونه أو ريحه فهذا المعيار وقد أشار الشرع إليه في الماء القوي على إزالة النجاسة وهو جدير بأن يعول عليه فيندفع به الحرج ويظهر به معنى كونه طهورا إذ يغلب عليه فيطهره كما صار كذلك فيما بعد القلتين وفي الغسالة وفي الماء الجاري وفي إصغاء الإناء للهرة ولا تظن ذلك عفوا إذ لو كان كذلك لكان كأثر الاستنجاء ودم البراغيث حتى يصير الماء الملاقى له نجسا ولا ينجس بالغسالة ولا بولوغ السنور في الماء القليل وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يحمل خبثا فهو في نفسه مبهم فإنه يحمل إذا تغير فإن قيل أراد به إذا لم يتغير فيمكن أن يقال إنه أراد به أنه في الغالب لا يتغير بالنجاسات المعتادة ثم هو تمسك بالمفهوم فيما إذا لم يبلغ قلتين وترك المفهوم بأقل من الأدلة التي ذكرناها ممكن وقوله لا يحمل خبثا ظاهره نفي الحمل أي يقلبه إلى صفة نفسه كما يقال للمملحة لا تحمل كلبا ولا غيره أي ينقلب وذلك لأن الناس قد يستنجون في المياه القليلة وفي الغدران ويغمسون الأواني النجسة فيها ثم يترددون في أنها تغيرت تغيرا مؤثر أم لا فتبين أنه إذا كان قلتين لا يتغير بهذه النجاسة المعتادة فإن قلت فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحمل خبثا ومهما كثرت حملها فهذا ينقلب عليك فإنها مهما كثرت حملها حكما كما حملها حسا فلا بد من التخصيص بالنجاسات المعتادة على المذهبين جميعا وعلى الجملة فميلي في أمور النجاسات المعتادة إلى التساهل فهما من سيرة الأولين وحسما لمادة الوسواس وبذلك أفتيت بالطهارة فيما وقع الخلاف فيه في مثل هذه المسائل الطرف الثالث في كيفية الإزالة والنجاسة إن كانت حكمية وهي التي ليس لها جرم محسوس فيكفي إجراء الماء على جميع مواردها وإن كانت عينية فلا بد من إزالة العين وبقاء الطعم يدل على بقاء العين وكذا بقاء اللون إلا فيما يلتصق به فهو معفو عنه بعد الحت والقرص أما الرائحة فبقاؤها يدل على بقاء العين ولا يعفى عنها إلا إذا كان الشيء له رائحة فائحة يعسر إزالتها فالدلك والعصر مرات متواليات يقوم مقام الحت والقرص في اللون والمزيل للوسواس أن يعلم أن الأشياء خلقت طاهرة بيقين فما لا يشاهد عليه نجاسة ولا يعلمها يقينا يصلى معه ولا ينبغي أن يتوصل بالاستنباط إلى تقدير النجاسات القسم الثاني طهارة الأحداث ومنها الوضوء والغسل والتيمم ويتقدمها الاستنجاء فلنورد كيفيتها على الترتيب مع آدابها وسننها مبتدئين بسبب الوضوء وآداب قضاء الحاجة إن شاء الله تعالى باب آداب قضاء الحاجة ينبغي أن يبعد عن أعين الناظرين في الصحراء وأن يستتر بشيء إن وجده وأن لا يكشف عورته قبل الانتهاءإلى موضع الجلوس وأن لا يستقبل الشمس والقمر وأن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها إلا إذا كان في بناء والعدول أيضا عنها في البناء أحب وإن استتر في الصحراء براحلته جاز وكذلك بذيله وأن يتقي الجلوس في متحدث الناس وأن لا يبول في الماء الراكد ولا تحت الشجرة المثمرة ولا في الجحر وأن يتقي الموضع الصلب ومهاب الرياح في البول استنزاها من رشاشه وأن يتكىء في جلوسه على الرجل اليسرى وإن كان في بنيان يقدم الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج ولا يبول قائما قالت عائشة رضي الله عنها من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا تصدقوه حديث عائشة من حديثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا تصدقوه أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه قال الترمذي هو أحسن شيء في هذا الباب وأصح وقال عمر رضي الله عنه رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما فقال يا عمر لا تبل قائما حديث عمر رآني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما فقال يا عمر لا تبل قائما أخرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف رواه ابن حبان من حديث ابن عمر ليس فيه ذكر لعمر قال عمر فما بلت قائما بعد وفيه رخصة إذ روى حذيفة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام بال قائما فأتيته بوضوء فتوضأ ومسح على خفيه حديث أنه عليه الصلاة والسلام بال قائما الحديث متفق عليه ولا يبول في المغتسل قال صلى الله عليه وسلم عامة الوسواس منه حديث قال في البول في المغتسل عامة الوسواس منه أخرجه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن مغفل قال الترمذي غريب قلت وإسناده صحيح وقال ابن المبارك قد وسع في البول في المغتسل إذا جرى الماء عليه ذكره الترمذي وقال عليه الصلاة والسلام لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه وقال ابن المبارك إن كان الماء جاريا فلا بأس به ولا يستصحب شيئا عليه اسم الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يدخل بيت الماء حاسر الرأس وأن يقول عند الدخول بسم الله أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم وعند الخروج الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى علي ما ينفعني ويكون ذلك خارجا عن بيت الماء وأن يعد النبل قبل الجلوس وأن لا يستنجي بالماء في موضع الحاجة وأن يستبرىء من البول بالتنحنح والنثر ثلاثا وإمرار اليد على أسفل القضيب ولا يكثر التفكر في الاستبراء فيتوسوس ويشق عليه الأمر وما يحس به من بلل فليقدر أنه بقية الماء فإن كان يؤذيه ذلك فليرش عليه الماء حتى يقوى في نفسه ذلك ولا يتسلط عليه الشيطان بالوسواس وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم فعله أعني رش الماء حديث رش الماء بعد الوضوء وهو الانتضاح أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن الحكم الثقفي أو الحكم بن سفيان وهو مضطرب كما قاله الترمذي وابن عبد البر وقد كان أخفهم استبراء أفقههم فتدل الوسوسة فيه على قلة الفقه وفي حديث سلمان رضي الله عنه علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة فأمرنا أن لا نستنجي بعظم ولاروث ونهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول حديث سلمان علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة الحديث أخرجه مسلم وقد تقدم في قواعد العقائد وقال رجل لبعض الصحابة من الأعراب وقد خاصمه لا أحسبك تحسن الخراء قال بلى وأبيك إني لأحسنها وإني بها لحاذق أبعد الأثر وأعد المدر وأستقبل الشيح وأستدبر الريح وأقعى إقعاء الظبي وأجفل إجفال النعام الشيح نبت طيب الرائحة بالبادية والإقعاء ههنا أن يستوفز على صدور قدميه والإجفال أن يرفع عجزه ومن الرخصة أن يبول الإنسان قريبا من صاحبه مستترا عنه حديث البول قريبا من صاحبه متفق عليه من حديث حذيفة فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدة حيائه ليبين للناس ذلككيفية الاستنجاء ثم يستنجي لمقعدته بثلاثة أحجار فإن أنقى وإلا استعمل رابعا فإن أنقى وإلا استعمل خامسا لأن الإنقاء واجب والإيتار مستحب قال صلى الله عليه وسلم من استجمر فليوتر حديث من استجمر فليوتر متفق عليه من حديث أبي هريرة ويأخذ الحجر بيساره ويضعه على مقدم المقعدة قبل موضع النجاسة ويمره بالمسح والإدارة إلى المؤخر ويأخذ الثاني ويضعه على المؤخر كذلك ويمره إلى المقدمة ويأخذ الثالث فيديره حول المسربة إدارة فإن عسرت الإدارة ومسح من المقدمة إلى المؤخرةأجزأه ثم يأخذ حجرا كبيرا بيمينه والقضيب بيساره ويمسح الحجر بقضيبه ويحرك اليسار فيمسح ثلاثا في ثلاثة مواضع أوفى ثلاثة أحجار أو في ثلاثة مواضع من جدار إلى أن لا يرى الرطوبة في محل المسح فإن حصل ذلك بمرتين أتى بالثالثة ووجب ذلك إن أراد الاقتصار على الحجر وإن حصل بالرابعة استحب الخامسة للإيتار ثم ينتقل من ذلك الموضع إلى موضع آخر ويستنجي بالماء بأن يفيضه باليمنى على محل النجو ويدلك باليسرى حتى لا يبقى أثر يدركه الكف بحس اللمس ويدرك الاستقصاء فيه بالتعرض للباطن فإن ذلك منبع الوسواس وليعلم أن كل ما لا يصل إليه الماء فهو باطن ولا يثبت حكم النجاسة للفضلات الباطنة ما لم تظهر وكل ما هو ظاهر وثبت له حكم النجاسة فحد ظهوره أن يصل الماء إليه فيزيله ولا معنى للوسواس ويقول عند الفراغ من الاستنجاء اللهم طهر قلبي من النفاق وحصن فرجي من الفواحش ويدلك يده بحائط أو بالأرض إزالة للرائحة إن بقيت والجمع بين الماء والحجر مستحب فقد روى أنه لما نزل قوله تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء ما هذه الطهارة التي أثنى الله بها عليكم قالوا كنا نجمع بين الماء والحجر حديث لما نزل قوله تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا الحديث في أهل قباء وجمعهم بين الحجر والماء أخرجه البزار من حديث ابن عباس بسند ضعيف ورواه ابن ماجه والحاكم وصححه من حديث أبي أيوب وجابر وأنس في الاستنجاء بالماء ليس فيه ذكر الحجر وقول النووي تبعا لابن الصلاح إن الجمع بين الماء والحجر في أهل قباء لا يعرف مردود بما تقدم كيفية الوضوء إذا فرغ من الاستنجاء اشتغل بالوضوء فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم قط خارجا من الغائط إلا توضأ ويبتدىء بالسواك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك حديث إن أفواهكم طرق القرآن أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث علي ورواه ابن ماجه موقوفا على علي وكلاهما ضعيف فينبغي أن ينوي عند السواك تطهير فمه لقراءة القرآن وذكر الله تعالى في الصلاة وقال صلى الله عليه وسلم صلاة على أثر سواك أفضل من خمس وسبعين صلاة بغير سواك حديث صلاة على أثر سواك أفضل من خمس وسبعين صلاة بغير سواك رواه أبو نعيم في كتاب السواك من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف ورواه أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي وضعفه من حديث عائشة وضعفه بلفظ من سبعين صلاة وقال صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة حديث لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة متفق عليه من حديث أبي هريرة وقال صلى الله عليه وسلم ما لي أراكم تدخلون علي قلحا استاكوا حديث ما لي أراكم تدخلون علي قلحا استاكوا أخرجه البزار والبيهقي من حديث العباس بن عبد المطلب وأبو داود والبغوي من حديث تمام بن العباس والبيهقي من حديث عبد الله بن عباس وهو مضطرب أي صفر الأسنان وكان صلى الله عليه وسلم يستاك في الليلة مرارا حديث كان يستاك من الليل مرارا أخرجه مسلم من حديث ابن عباس وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لم يزل صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالسواك حتى ظننا أنه سينزل عليه فيه شيء حديث ابن عباس لم يزل يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواك حتى ظننا أنه سينزل عليه فيه شيء رواه أحمد وقال عليه السلام عليكم بالسواك فإنهمطهرة للفم ومرضاة للرب حديث عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب أخرجه البخاري تعليقا مجزوما من حديث عائشة والنسائي وابن خزيمة موصولا قلت وصل المصنف هذا الحديث بحديث ابن عباس الذي قبله وقد رواه من حديث ابن عباس الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه السواك يزيد في الحفظ ويذهب البلغم حديث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يروحون والسواك على آذانهم أخرجه الخطيب في كتاب أسماء من روى عن مالك وعند أبي داود والترمذي وصححه أن زيد بن خالد كان يشهد الصلوات وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يروحون والسواك على آذانهم وكيفيته أن يستاك بخشب الأراك أو غيره من قضبان الأشجار مما يخشن ويزيل القلح ويستاك عرضا وطولا وإن اقتصر فعرضا ويستحب السواك عند كل صلاة وعند كل وضوء وإن لم يصل عقيبه وعند تغير النكهة بالنوم أو طول الأزم أو كل ما تكره رائحته ثم عند الفراغ من السواك يجلس للوضوء مستقبل القبلة ويقول بسم الله الرحمن الرحيم قال صلى الله عليه وسلم لا وضوء لمن لم يسم الله تعالى حديث لا وضوء لمن لم يسم الله أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد أحد العشرة ونقل الترمذي من البخاري أنه أحسن شيء في هذا الباب أي لا وضوء كامل ويقول عند ذلك أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ثم يغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلهما الإناء ويقول اللهم إني أسألك اليمن والبركة وأعوذ بك من الشؤم والهلكة ثم ينوي رفع الحدث أو استباحة الصلاة ويستديم النية إلى غسل الوجه فإن نسيها عند الوجه لم يجزه ثم يأخذ غرفة لفيه بيمينه فيتمضمض بها ثلاثا ويغرغر بأن يرد الماء إلى الغلصمة إلا أن يكون صائما فيرفق ويقول اللهم أعني على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك ثم يأخذ غرفة لأنفه ويستنشق ثلاثا ويصعد الماء بالنفس إلى خياشيمه ويستنثر ما فيها ويقول في الاستنشاق اللهم أوجد لي رائحة الجنة وأنت عني راض وفي الاستنثار اللهم إني أعوذ بك من روائح النار ومن سوء الدار لأن الاستنشاق إيصال والاستنثار إزالة ثم يغرف غرفة لوجهه فيغسله من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن في الطول ومن الأذن إلى الأذن في العرض ولا يدخل في حد الوجه النزعتان اللتان على طرفي الجبينين فهما من الرأس ويوصل الماء إلى موضع التحذيف وهو ما يعتاد النساء تنحية الشعر عنه وهو القدر الذي يقع في جانب الوجه مهما وضع طرف الخيط على رأس الأذن والطرف الثاني على زاوية الجبين ويوصل الماء إلى منابت الشعور الأربعة الحاجبان والشاربان والعذاران والأهداب لأنها خفيفة في الغالب والعذاران هما ما يوازيان الأذنين من مبدأ اللحية ويجب إيصال الماء إلى منابت اللحية الخفيفة أعني ما يقبل من الوجه وأما الكثيفة فلا وحكم العنفقة حكم اللحية في الكثافة والخفة ثم يفعل ذلك ثلاثا ويفيض الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية ويدخل الأصابع في محاجر العينين وموضع الرمص ومجتمع الكحل وينقيهما فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك حديث إدخاله الأصبع في محاجر العينين وموضع الرمص ومجتمع الكحل أخرجه أحمد من حديث أبي أمامة كان يتعاهد المنافقين ورواه الدارقطني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف أشربوا الماء أعينكم ويأمل عند ذلك خروج الخطايا من عينيه وكذلك عند كل عضو ويقول عنده اللهم بيض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه أوليائك ولا تسود وجهي بظلماتك يوم تسود وجوه أعدائك ويخلل اللحية الكثيفة عند غسل الوجه فإنه مستحب ثم يغسل يديه إلى مرفقيه ثلاثا ويحرك الخاتم ويطيل الغرة ويرفع الماء إلى أعلى العضد فإنهم يحشرون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء كذلك ورد الخبر قال صلى الله عليه وسلم من استطاع أنيطيل غرته فليفعل حديث من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل أخرجاه من حديث أبي هريرة وروى أن الحلية تبلغ مواضع الوضوء حديث تبلغ الحلية من المؤمن ما يبلغ ماء الوضوء أخرجاه من حديثه ويبدأ باليمنى ويقول اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حسابا يسيرا ويقول عند غسل الشمال اللهم إني أعوذ بك أن تعطيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري ثم يستوعب رأسه بالمسح بأن يبل يديه ويلصق رءوس أصابع يديه اليمنى باليسرى ويضعهما على مقدمة الرأس ويمدهما إلى القفا ثم يردهما إلى المقدمة وهذه مسحة واحدة يفعل ذلك ثلاثا ويقول اللهم اغشني برحمتك وأنزل علي من بركاتك وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء جديد بأن يدخل مسبحتيه في صماخي أذنيه ويدير إبهاميه على ظاهر أذنيه ثم يضع الكف على الأذنين استظهارا ويكرره ثلاثا ويقول اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اللهم أسمعني منادي الجنة مع الأبرار ثم يمسح رقبته بماء جديد لقوله صلى الله عليه وسلم مسح الرقبة أمان من الغل يوم القيامة حديث مسح الرقبة أمان من الغل أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث عمر وهو ضعيف ويقول اللهم فك رقبتي من النار وأعوذ بك من السلاسل والأغلال ثم يغسل رجله اليمنى ثلاثا ويخلل باليد اليسرى من أسفل أصابع الرجل اليمنى ويبدأ بالخنصر من الرجل اليمنى ويختم بالخنصر من الرجل اليسرى ويقول اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم يوم تزل الأقدام في النار ويقول عند غسل اليسرى أعوذ بك أن تزل قدمي عن الصراط يوم تزل فيه أقدام المنافقين ويرفع الماء إلى أنصاف الساقين فإذا فرغ رفع رأسه إلى السماء وقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي أستغفرك اللهم وأتوب إليك فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين واجعلني من عبادك الصالحين واجعلني عبدا صبورا شكورا واجعلني أذكرك كثيرا وأسبحك بكرة وأصيلا يقال إن من قال هذا بعد الوضوء ختم على وضوئه بخاتم ورفع له تحت العرش فلم يزل يسبح الله تعالى ويقدسه ويكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة ويكره في الوضوء أمور منها أن يزيد على الثلاث فمن زاد فقد ظلم وأن يسرف في الماء توضأ عليه السلام ثلاثا وقال من زاد فقد ظلم وأساء حديث توضأ ثلاثا ثلاثا وقال من زاد فقد أساء وظلم أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ له وابن ماجه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال سيكون قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور حديث سيكون قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن مغفل ويقال من وهن علم الرجل ولوعه بالماء في الطهور حديث من وهن علم الرجل ولوعه في الماء في التطهير لم أجد له أصلا وقال إبراهيم بن أدهم يقال إن أول ما يبتدىء الوسواس من قبل الطهور وقال الحسن إن شيطانا يضحك بالناس في الوضوء يقال له الولهان ويكره أن ينفض اليد فيرش الماء وأن يتكلم في أثناء الوضوء وأن يلطم وجهه بالماءلطما وكره قوم التنشيف وقالوا الوضوء يوزن قاله سعيد بن المسيب والزهري لكن روى معاذ رضي الله عنه أنه عليه السلام مسح وجهه بطرف ثوبه حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح وجهه بطرف ثوبه أخرجه الترمذي وقال غريب وإسناده ضعيف وروت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كانت له منشفة حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له منشفة أخرجه الترمذي وقال ليس بالقائم قال ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء ولكن طعن في هذه الرواية عن عائشة ويكره أن يتوضأ من إناء صفر وأن يتوضأ بالماء المشمس وذلك من جهة الطب وقد روي عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما كراهية إناء الصفر وقال بعضهم أخرجت لشعبة ماء في إناء صفر فأبى أن يتوضأ منه ونقل كراهيةذلك عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما ومهما فرغ من وضوئه وأقبل على الصلاة فينبغي أن يخطر بباله أنه طهر ظاهره وهو موضع نظر الخلق أن يستحي من مناجاة الله تعالى من غير تطهير قلبه وهو موضع نظر الرب سبحانه وليحقق طهارة القلب بالتوبة والخلو عن الأخلاق المذمومة والتخلق بالأخلاق الحميدة أولى وأن من يقتصر على طهارة الظاهر كمن يدعو ملكا إلى بيته فتركه مشحونا بالقاذورات واشتغل بتجصيص ظاهر الباب البراني من الدار وما أجدر مثل هذا الرجل بالتعرض للمقت والبوار والله سبحانه وتعالى أعلم فضيلة الوضوء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه حديث من توضأ وأسبغ الوضوء وصلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وفي لفظ آخر لم يسه فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه أخرجه ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق باللفظين معا وهو متفق عليه من حديث عثمان بن عفان دون قوله بشيء من الدنيا ودون قوله لم يسه فيهما وأخرجه أبو داود من حديث زيد بن خالد ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما الحديث وفي لفظ آخر ولم يسه فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه وقال صلى الله عليه وسلم أيضا ألا أنبئكم بما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره ونقل الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاث مرات حديث ألا أنبئكم بما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة وتوضأ صلى الله عليه وسلم مرة مرة وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به وتوضأ مرتين مرتين وقال من توضأ مرتين مرتين أتاه الله أجره مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا وقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حديث توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف وقال صلى الله عليه وسلم من ذكر الله عند وضوئه طهر الله جسده كله ومن لم يذكر الله لم يطهر منه إلا ما أصاب الماء حديث من ذكر الله عند وضوئه طهر الله جسده كله الحديث رواه الدار قطني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف وقال صلى الله عليه وسلم من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات حديث من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف وقال صلى الله عليه وسلم الوضوء على الوضوء نور على نور حديث الوضوء على الوضوء نور على نور لم أجد له أصلا وهذا كله حث على تجديد الوضوء وقال عليه السلام إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفاره فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه وإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له حديث إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث الصنابحي إسناده صحيح ولكن اختلف في صحته وعند مسلم من حديث أبي هريرة وعمرو بن عنبسة نحوه مختصرا ويروى إن الطاهر كالصائم حديث الطاهر النائم كالصائم أخرجه أبو منصور الديلمي من حديث عمرو بن حريث الطاهر النائم كالصائم القائم وسنده ضعيف قال صلى الله عليه وسلم من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع طرفه إلى السماء فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء حديث من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع طرفه إلى السماء فقال أشهد أن لا إله إلا الله الحديث أخرجه أبو داود من حديث عقبة بن عامر وهو عند مسلم دون قوله ثم رفع هكذا عزاه المزي في الأطراف وقد رواه النسائي في اليوم والليلة من رواية عقبة بن عامر وكذا رواه الدارمي في مسنده وقال عمر رضي الله عنهإن الوضوء الصالح يطرد عنك الشيطان وقال مجاهد من استطاع أن لا يبيت إلا طاهرا ذاكرا مستغفرا فليفعل فإن الأرواح تبعث على ما قبضت عليه كيفية الغسل وهو أن يضع الإناء عن يمينه ثم يسمي الله تعالى ويغسل يديه ثلاثا ثم يستنجي كما وصفت لك ويزيل ما على بدنه من نجاسة إن كانت ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كما وصفنا إلا غسل القدمين فإنه يؤخرهما فإن غسلهما ثم وضعهما على الأرض كان إضاعة للماء ثم يصب الماء على رأسه ثلاثا ثم على شقه الأيمن ثلاثا ثم على شقه الأيسر ثلاثا ثم يدلك ما أقبل من بدنه ويخلل شعر الرأس واللحية ويوصل الماء إلى منابت ما كثف منه أو خف وليس على المرأة نقض الضفائر إلا إذا علمت أن الماء لا يصل إلى خلال الشعر ويتعهد معاطف البدن وليتق أن يمس ذكره في أثناء ذلك فإن فعل ذلك فليعد الوضوء وإن توضأ قبل الغسل فلا يعيده بعد الغسل فهذه سنن الوضوء والغسل ذكرنا منها ما لا بد لسالك طريق الآخرة من علمه وعمله وما عداه من المسائل التي يحتاج إليها في عوارض الأحوال فليرجع فيها إلى كتب الفقه والواجب من جملة ما ذكرناه في الغسل أمران النية واستيعاب البدن بالغسل وفروض الوضوء النية وغسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين ومسح ما ينطلق عليه الاسم من الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين والترتيب وأما الموالاة فليست بواجبة والغسل الواجب بأربعة بخروج المني والتقاء الختانين والحيض والنفاس وما عداه من الأغسال سنة كغسل العيدين والجمعة والأعياد والإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة ولدخول مكة وثلاثة أغسال أيام التشريق ولطواف الوداع على قول والكافر إذا أسلم غير جنب والمجنون إذا أفاق ولمن غسل ميتا فكل ذلك مستحب كيفية التيمم من تعذر عليه استعمال الماء لفقده بعد الطلب أو بمانع له عن الوصول إليه من سبع أو حابس أو كان الماء الحاضر يحتاج إليه لعطشه أو لعطش رفيقه أو كان ملكا لغيره ولم يبعه إلا بأكثر من ثمن المثل أو كان به جراحة أو مرض وخاف من استعماله فساد العضو أو شدة الضنا فينبغي أن يصبر حتى يدخل عليه وقت الفريضة ثم يقصد صعيدا طيبا عليه تراب طاهر خالص لين بحيث يثور منه غبار ويضرب عليه كفيه ضاما بين أصابعه ويمسح بهما جميع وجهه مرة واحدة وينوي عند ذلك استباحة الصلاة ولا يكلف إيصال الغبار إلى ما تحت الشعور خفت أو كثفت ويجتهد أن يستوعب بشرة وجهه بالغبار ويحصل ذلك بالضربة الواحدة فإن عرض الوجه لا يزيد على عرض الكفين ويكفي في الاستيعاب غالب الظن ثم ينزع خاتمه ويضرب ضربة ثانية يفرج فيها بين أصابعه ثم يلصق ظهور يده اليمنى ببطون أصابع يده اليسرى بحيث لا يجاوز أطراف الأنامل من إحدى الجهتين عرض المسبحة من الأخرى ثم يمر يده اليسرى من حيث وضعها على ظاهر ساعده الأيمن إلى المرفق ثم يقلب بطن كفه اليسرى على باطن ساعده الأيمن ويمرها إلى الكوع ويمر بطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى ثم يفعل باليسرى كذلك ثم يمسح كفيه ويخلل بين أصابعه وغرض هذا التكليف تحصيل الأستيعاب إلى المرفقين بضربة واحدة فإن عسر عليه ذلك فلا بأس بأن يستوعب بضربتين وزيادة وإذا صلى به الفرض فله أن يتنفل كيف شاء فإن جمع بين فريضتين فينبغي أن يعيد التيمم للثانية وهكذا يفرد كل فريضة بتيمم والله أعلمالقسم الثالث من النظافة التنظيف عن الفضلات الظاهرة وهي نوعان أوساخ وأجزاء النوع الأول الأوساخ والرطوبات المترشحة وهي ثمانية الأول ما يجتمع في شعر الرأس من الدرن والقمل فالتنظيف عنه مستحب بالغسل والترجيل والتدهين إزالة للشعث عنه وكان صلى الله عليه وسلم يدهن الشعر ويرجله غبا ويأمر به حديث كان يدهن الشعر ويرجله أخرجه الترمذي في الشمائل بإسناد ضعيف من حديث أنس كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته وفي الشمائل أيضا بإسناد حسن من حديث صحابي لم يسم أنه كان صلى الله عليه وسلم يترجل غبا ويقول صلى الله عليه وسلم ادهنوا غبا حديث ادهنوا غبا قال ابن الصلاح لم أجد له أصلا وقال النووي غير معروف وعند أبي داود والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل النهي عن الترجل إلا غبا بإسناد صحيح وقال صلى الله عليه وسلم من كان له شعرة فليكرمها حديث من كانت له شعرة فليكرمها من حديث أبي هريرة وقال به شعر فليكرمه وليس إسناده بالقوي أي ليصنها عن الأوساخ ودخل عليه رجل ثائر الرأس أشعث اللحية فقال أما كان لهذا دهن يسكن به شعره ثم قال يدخل أحدكم كأنه شيطان حديث دخل عليه رجل ثائر الرأس أشعث اللحية فقال أما كان لهذا دهن يسكن به شعره الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان من حديث جابر بإسناد جيد الثاني ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن والمسح يزيل ما يظهر منه وما يجتمع في قعر الصماخ فينبغي أن ينظف برفق عند الخروج من الحمام فإن كثرة ذلك ربما تضر بالسمع الثالث ما يجتمع في داخل الأنف من الرطوبات المنعقدة الملتصقة بجوانبه ويزيلها بالاستنشاق والاستنثار الرابع ما يجتمع على الأسنان وطرف اللسان من القلح فيزيله السواك والمضمضة وقد ذكرناهما الخامس ما يجتمع في اللحية من الوسخ والقمل إذا لم يتعهد ويستحب إزالة ذلك بالغسل والتسريح بالمشط وفي الخبر المشهور أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يفارقه المشط والمدرى والمرآة في سفر ولا حضر حديث كان لا يفارقه المشط والمدرى في سفر ولا حضر أخرجه ابن طاهر في كتاب صفة التصوف من حديث أبي سعيد كان لايفارق مصلاه سواكه ومشطه ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة وإسنادهما ضعيف وسيأتي في آداب السفر مطولا وهي سنة العرب وفي خبر غريب أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرح لحيته في اليوم مرتين حديث كان يسرح لحيته كل يوم مرتين تقدم حديث أنس كان يكثر تسريح لحيته وللخطيب في الجامع من حديث الحكم مرسلا كان يسرح لحيته بالمشط وكان صلى الله عليه وسلم كث اللحية حديث كان كث اللحية أخرجه الترمذي في الشمائل من حديث هند ابن أبي هالة وأبو نعيم في دلائل النبوة من حديث علي وأصله عند الترمذي وكذلك كان أبو بكر وكان عثمان طويل اللحية رقيقها وكان علي عريض اللحية قد ملأت ما بين منكبيه وفي حديث أغرب منه قالت عائشة رضي الله عنها اجتمع قوم بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فرأيته يطلع في الحب يسوي من رأسه ولحيته حديث عائشة اجتمع قوم بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فرأيته يطلع في الحب يسوي من رأسه ولحيته أخرجه ابن عدي وقال حديث منكر فقلت أوتفعل ذلك يا رسول الله فقال نعم إن الله يحب من عبده أن يتجمل لإخوانه إذا خرج إليهم والجاهل ربما يظن أن ذلك من حب التزين للناس قياسا على أخلاق غيره وتشبيها للملائكة بالحدادين وهيهات فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا بالدعوة وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم كيلا تزدريه نفوسهم ويحسن صورته في أعينهم كيلا تستصغره أعينهم فينفرهم ذلك ويتعلق المنافقون بذلك في تنفيرهم وهذا القصد واجب على كل عالم تصدى لدعوة الخلق إلى الله عز وجل وهو أن يراعى من ظاهره ما لا يوجب نفرة الناس عنه والاعتماد في مثل هذه الأمور على النية فإنها أعمال في أنفسها تكتسب الأوصاف من المقصود فالتزينعلى هذا القصد محبوب وترك الشعث في اللحية إظهارا للزهد وقلة المبالاة بالنفس محذور وتركه شغلا بما هو أهم منه محبوب وهذه أحوال باطنة بين العبد وبين الله عز وجل والناقد بصير والتلبيس غير رائج عليه بحال وكم من جاهل يتعاطى هذه الأمور التفاتا إلى الخلق وهو يلبس على نفسه وعلى غيره ويزعم أن قصده الخير فترى جماعة من العلماء يلبسون الثياب الفاخرة ويزعمون أن قصدهم إرغام المبتدعة والمجادلين والتقرب إلى الله تعالى به وهذا أمر ينكشف يوم تبلى السرائر ويوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور فعند ذلك تتميز السبيكة الخالصة من البهرجة فنعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر السادس وسخ البراجم وهي معاطف ظهور الأنامل كانت العرب لا تكثر غسل ذلك لتركها غسل اليد عقيب الطعام فيجتمع في تلك الغضون وسخ فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل البراجم حديث الأمر بغسل البراجم أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر من حديث عبد الله ابن بسر نقوا براجمكم ولابن عدي في حديث لأنس وأن يتعاهد البراجم إذا توضأ ولمسلم من حديث عائشة عشر من الفطرة وفيه وغسل البراجم السابع تنظيف الرواجب الأمر بتنظيف الرواجب أخرجه أحمد من حديث ابن عباس أنه قيل له يا رسول الله لقد أبطأ عنك جبريل فقيل ولم لا يبطىء وأنتم لا تستنون ولا تقلمون أظافركم ولا تقصون شواربكم ولا تنقون رواجبكم وفيه إسماعيل بن عياش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العرب بتنظيفها وهي رءوس الأنامل وما تحت الأظفار من الوسخ لأنها كانت لا يحضرها المقراض في كل وقت فتجتمع فيها أوساخ فوقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أربعين يوما حديث التوقيت في قلم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أربعين يوما أخرجه مسلم من حديث أنس لكنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنظيف ما تحت الأظفار حديث الأمر بتنظيف ما تحت الأظافر أخرجه الطبراني من حديث وابصة بن سعيد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كل شيء حتى سألته عن الوسخ الذي يكون بين الأظافر فقال دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وجاء في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم استبطأ الوحي فلما هبط عليه جبريل عليه السلام قال له كيف ننزل عليكم وأنتم لا تغسلون براجمكم ولا تنظفون رواجبكم حديث استبطاء الوحي فلما هبط عليه جبريل قال له كيف ننزل عليكم وأنتم لا تغسلون براجمكم ولا تنظفون رواجبكم تقدم قبل هذا بحديثين وقلحا لا تستاكون مر أمتك بذلك وإلاف وسخ الظفر والتف وسخ الأذن وقوله عز وجل فلا تقل لهما أف تعبهما أي بما تحت الظفر من الوسخ وقيل لا تتأذ بهما كما تتأذى بما تحت الظفر الثامن الدرن الذي يجتمع على جميع البدن برشح العرق وغبار الطريق وذلك يزيله الحمام ولا بأس بدخول الحمام دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمامات الشام وقال بعضهم نعم البيت بيت الحمام يطهر البدن ويذكر النار روى ذلك عن أبي الدرداء وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما وقال بعضهم بئس البيت بيت الحمام يبدي العورة ويذهب الحياء فهذا تعرض لآفته وذاك تعرض لفائدته ولا بأس بطلب فائدته عند الاحتراز من آفته ولكن على داخل الحمام وظائف من السنن والواجبات فعليه واجبان في عورته وواجبان في عورة غيره أما الواجبان في عورته فهو أن يصونها عن نظر الغير ويصونها عن مس الغير فلا يتعاطى أمرها وإزالة وسخها إلا بيده ويمنع الدلاك من مس الفخذ وما بين السرة إلى العانة وفي إباحة مس ما ليس بسوءة لإزالة الوسخ احتمال ولكن الأقيس التحريم إذألحق مس السوأتين في التحريم بالنظر فكذلك ينبغي أن تكون بقية العورة أعني الفخذين والواجبان في عورة الغير أن يغض بصر نفسه عنها وأن ينهى عن كشفها لأن النهي عن المنكر واجب وعليه ذكر ذلك وليس عليه القبول ولا يسقط عنه وجوب الذكر إلا لخوف ضرب أو شتم أو ما يجري عليه مما هو حرام في نفسه فليس عليه أن ينكر حراما يرهق المنكر عليه إلى مباشرة حرام آخر فأما قوله أعلم أن ذلك لا يفيد ولا يعمل به فهذالا يكون عذرا بل لا بد من الذكر فلا يخلو قلب عن التأثر من سماع الإنكار واستشعار الاحتراز عند التعبير بالمعاصي وذلك يؤثر في تقبيح الأمر في عينه وتنفير نفسه فلا يجوز تركه ولمثل هذا صار الحزم ترك دخول الحمام في هذه الأوقات إذ لا تخلو عن عورات مكشوفة لا سيما ما تحت السرة إلى ما فوق العانة إذ الناس لا يعدونها عورة وقد ألحقها الشرع بالعورة وجعلها كالحريم لها ولهذا يستحب تخلية الحمام وقال بشر بن الحرث ما أعنف رجلا لا يملك إلا درهما دفعه ليخلى له الحمام ورؤي ابن عمر رضي الله عنهما في الحمام ووجهه إلى الحائط وقد عصب عينيه بعصابة وقال بعضهم لا بأس بدخول الحمام ولكن بإزارين إزار للعورة وإزار للرأس يتقنع به ويحفظ عينيه وأما السنن فعشرة فالأول النية وهو أن لا يدخل لعاجل دنيا ولا عابثا لأجل هوى بل يقصد به التنظف المحبوب تزينا للصلاة ثم يعطى الحمامي الأجرة قبل الدخول فإن ما يستوفيه مجهول وكذا ما ينتظره الحمامي فتسليم الأجرة قبل الدخول دفع للجهالة من أحد العوضين وتطييب لنفسه ثم يقدم رجله اليسرى عند الدخول ويقول بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ثم يدخل وقت الخلوة أو يتكلف تخلية الحمام فإنه إن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين والمحتاطين للعورات فالنظر إلى الأبدان مكشوفة فيه شائبة من قلة الحياء وهو مذكر للنظر في العورات ثم لا يخلو الإنسان في الحركات عن انكشاف العورات بانعطاف في أطراف الإزار فيقع البصر على العورة من حيث لا يدرى ولأجله عصب ابن عمر رضي الله عنهما عينيه ويغسل الجناحين عند الدخول ولا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول وأن لا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فإنه المأذون فيه بقرينة الحال والزيادة عليه لو علمه الحمامي لكرهه لا سيما الماء الحار فله مئونة وفيه تعب وأن يتذكر حر النار بحرارة الحمام ويقدر نفسه محبوسا في البيت الحار ساعة ويقيسه إلى جهنم فإنه أشبه بيت بجهنم النار من تحت والظلام من فوق نعوذ بالله من ذلك بل العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة في لحظة فإنها مصيره ومستقره فيكون له في كل ما يراه من ماء أو نار أو غيرهما عبرة وموعظة فإن المرء ينظر بحسب همته فإذا دخل بزاز ونجار وبناء وحائك دارا معمورة مفروشة فإذا تفقدتهم رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها والحائك ينظر إلى الثياب يتأمل نسجها والنجار ينظر إلى السقف يتأمل كيفية تركيبها والبناء ينظر إلى الحيطان يتأمل كيفية إحكامها واستقامتها فكذلك سالك طريق الآخرة لا يرى من الأشياء شيئا إلا ويكون له موعظة وذكرى للآخرة بل لا ينظر إلى شيء إلا ويفتح الله عز وجل له طريق عبرة فإن نظر إلى سواد تذكر ظلمة اللحد وإن نظر إلى حية تذكر أفاعي جهنم وإن نظر إلى صورة قبيحة شنيعة تذكر منكرا ونكيرا والزبانية وإن سمع صوتا هائلا تذكر نفخة الصور وإن رأى شيئا حسنا تذكر نعيم الجنة وإن سمع كلمة رد أو قبول في سوق أو دار تذكر ما ينكشف من آخر أمره بعد الحساب من الرد والقبول وما أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل إلا لا يصرفه عنه إلا مهمات الدنيا فإذا نسب مدة المقام في الدنيا إلى مدة المقام في الآخرة استحقرها إن لم يكن ممن أغفل قلبه وأعميت بصيرته ومن السنن أن لا يسلم عند الدخول وإن سلم عليه لم يجب بلفظ السلام بل يسكت إن إجاب غيره وإن أحب قال عافاك الله ولا بأس بأن يصافح الداخل ويقول عافاك الله لابتداء الكلام ثم لا يكثر الكلام في الحمام ولا يقرأ القرآن إلا سرا ولا بأس بإظهار الاستعاذة من الشيطان ويكره دخول الحمام بين العشاءين وقريبا من الغروب فإن ذلك وقت انتشار الشياطين ولا بأس أن يدلكه غيره فقد نقل ذلك عن يوسف بن أسباط أوصى بأن يغسله إنسان لم يكن من أصحابه وقال إنه دلكني في الحمام مرة فأردت أن أكافئه بما يفرح به وإنهليفرح بذلك ويدل على جوازه ما روي بعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلا في بعض أسفاره فنام على بطنه وعبد أسود يغمز ظهره فقلت ما هذا يا رسول الله فقال إن الناقة تقحمت بي حديث نزل منزلا في بعض أسفاره فنام على بطنه وعبد أسود يغمز ظهره الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عمر بسند ضعيف ثم مهما فرغ من الحمام شكر الله عز وجل على هذه النعمة فقد قيل الماء الحار في الشتاء من النعيم الذي يسأل عنه وقال ابن عمر رضي الله عنهما الحمام من النعيم الذي أحدثوه هذا من جهة الشرع أما من جهة الطب فقد قيل الحمام بعد النورة أمان من الجذام وقيل النورة في كل شهر مرة تطفىء المرة الصفراء وتنقي اللون وتزيد في الجماع وقيل بولة في الحمام قائما في الشتاء أنفع من شربة دواء وقيل نومة في الصيف بعد الحمام تعدل شربة دواء وغسل القدمين بماء بارد بعد الخروج من الحمام أمان من النقرس ويكره صب الماء البارد على الرأس عند الخروج وكذا شربه هذا حكم الرجال وأما النساء فقد قال صلى الله عليه وسلم لا يحل للرجل أن يدخل حليلته الحمام حديث لا يحل لرجل أن يدخل حليلته الحمام الحديث يأتي في الذي يليه مع اختلاف وفي البيت مستحم والمشهور أنه حرام على الرجال دخول الحمام إلا بمئزر حديث حرام على الرجال دخول الحمام إلا بمئزر الحديث أخرجه النسائي والحاكم وصححه من حديث جابر من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام وللحاكم من حديث عائشة الحمام حرام على نساء أمتي قال صحيح الإسناد ولأبي داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر فلا يدخلها الرجال الإ بالإزار وامنعوها النساء إلا من مريضة أو نفساء وحرام على المرأة دخول الحمام إلا نفساء أو مريضة ودخلت عائشة رضي الله عنها حماما من سقم بها فإن دخلت لضرورة فلا تدخل إلا بمئزر سابغ ويكره للرجل أن يعطيها أجرة الحمام فيكون معينا لها على المكروه النوع الثاني فيما يحدث في البدن من الأجزاء وهي ثمانية الأول شعر الرأس ولا بأس بحلقه لمن أراد التنظيف ولا بأس بتركه لمن يدهنه ويرجله إلا إذا تركه قزعا أي قطعا وهو دأب أهل الشطارة أو أرسل الذوائب على هيئة أهل الشرف حيث صار ذلك شعارا لهم فإنه إذا لم يكن شريفا كان ذلك تلبيسا الثاني شعر الشارب وقد قال صلى الله عليه وسلم قصوا الشارب وفي لفظ آخر جزوا الشوارب وفي لفظ آخر حفوا الشوارب وأعفوا اللحى حديث قصوا وفي لفظ جزوا وفي لفظ احفواالشوارب واعفوا اللحى متفق عليه من حديث ابن عمر بلفظ احفوا ولمسلم من حديث أبي هريرة جزوا ولأحمد من حديثه قصوا أي اجعلوها حفاف الشفة أي حولها وحفاف الشيء حوله ومنه وترى الملائكة حافين من حول العرش وفي لفظ آخر احفوا وهذا يشعر بالاستئصال وقوله حفوا يدل على ما دون ذلك وقال الله عز وجل إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا أي يستقصي عليكم وأما الحلق فلم يرد والإحفاء القريب من الحلق نقل عن الصحابة نظر بعض التابعين إلى رجل أحفى شاربه فقال ذكرتني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال المغيرة بن شعبة نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طال شاربي فقال تعال فقصه لي على سواك حديث المغيرة بن شعبة نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طال شاربي فقال تعال فقصه لي على سواك أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب فعل ذلك عمر وغيره لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمر الطعام إذ لا يصل إليه وقوله صلى الله عليه وسلم اعفوا اللحى أي كثروها وفي الخبر إن اليهود يعفون شواربهمويقصون لحاهم فخالفوهم حديث إن اليهود يعفون شواربهم ويقصون لحاهم فخالفوهم أخرجه أحمد من حديث أبي أمامة قلنا يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم فقال قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب قلت والمشهور أن هذا فعل المجوس ففي صحيح ابن عمر في المجوس أنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم وكره بعض العلماء الحلق ورآه بدعة الثالث شعر الإبط ويستحب نتفه في كل أربعين يوما مرة وذلك سهل على من تعود نتفه في الابتداء فأما من تعود الحلق فيكفيه الحلق إذ في النتف تعذيب وإيلام والمقصود النظافة وأن لا يجتمع الوسخ في خللها ويحصل ذلك بالحلق الرابع شعر العانة ويستحب إزالة ذلك إما بالحلق أو بالنورة ولا ينبغي أن تتأخر عن أربعين يوما الخامس الأظفار وتقليمها مستحب لشناعة صورتها إذا طالت ولما يجتمع فيها من الوسخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة أقلم أظفارك فإن الشيطان يقعد على ما طال منها حديث يا أبا هريرة قلم ظفرك فإن الشيطان يقعد على ما طال منها أخرجه الخطيب في الجامع بإسناد ضعيف من حديث جابر قصوا أظافيركم فإن الشيطان يجري ما بين اللحم والظفر ولو كان تحت الظفر وسخ فلا يمنع ذلك صحة الوضوء لأنه لا يمنع وصول الماءولأنه يتساهل فيه للحاجة لا سيما في أظفار الرجل وفي الأوساخ التي تجتمع على البراجم وظهور الأرجل والأيدي من العرب وأهل السواد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالقلم وينكر عليهم ما يرى تحت أظفارهم من الأوساخ ولم يأمرهم بإعادة الصلاة ولو أمر به لكان فيه فائدة أخرى وهو التغليظ والزجر عن ذلك ولم أر في الكتب خبرا مرويا في ترتيب قلم الأظفار ولكن سمعت أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بمسبحته اليمنى وختم بإبهامه اليمنى وابتدأ في اليسرى بالخنصر إلى الإبهام حديث البداءة في قلم الأظافر بمسبحة اليمنى والختم بإبهامها وفي اليسرى بالخنصر إلى الإبهام لم أجد له أصلا وقد أنكره أبو عبد الله المازري في الرد على الغزالي وشنع عليه به ولما تأملت في هذا خطر لي من المعنى ما يدل على أن الرواية فيه صحيحة إذ مثل هذا المعنى لا ينكشف ابتداء إلا بنور النبوة وأما العالم ذو البصيرة فغايته أن يستنبطه من العقل بعد نقل الفعل إليه فالذي لاح لي فيه والعلم عند الله سبحانه أنه لا بد من قلم أظفار اليد والرجل واليد أشرف من الرجل فيبدأ بها ثم اليمنى أشرف من اليسرى فيبدأ بها ثم على اليمنى خمسة أصابع والمسبحة أشرفها إذ هي المشيرة في كلمتي الشهادة من جملة الأصابع ثم بعدها ينبغي أن يبتدىء بما على يمينها إذ الشرع يستحب إدارة الطهور وغيره على اليمين وإن وضعت ظهر الكف على الأرض فالإبهام هو اليمين وإن وضعت بطن الكف فالوسطى هي اليمنى واليد إذا تركت بطبعها كان الكف مائلا إلى جهة الأرض إذ جهة حركة اليمين إلى اليسار واستتمام الحركة إلى اليسار يجعل ظهر الكف عاليا فما يقتضيه الطبع أولى ثم إذا وضعت الكف على الكف صارت الأصابع في حكم حلقة دائرة فيقتضي ترتيب الدور الذهاب عن يمين المسبحة إلى أن يعود إلى المسبحة فتقع البداءة بخنصر اليسرى والختم بإبهامها ويبقى إبهام اليمنى فيختم به التقليم وإنما قدرت الكف موضوعة على الكف حتى تصير الأصابع كأشخاص في حلقة ليظهر ترتيبها وتقدير ذلك أولى من تقدير وضع الكف على ظهر الكف أو وضع ظهر الكف على ظهر الكف فإن ذلك لا يقتضيه الطبع وأما أصابع الرجل فالأولى عندي إن لم يثبت فيها نقل أن يبدأ بخنصر اليمنى ويختم بخنصر اليسرى كما في التخليل فإن المعاني التي ذكرها في اليد لا تتجه ههنا إذ لا مسبحة في الرجل وهذه الأصابع في حكم صف واحد ثابت على الأرض فيبدأ من جانب اليمنى فإن تقديرها حلقة بوضع الأخمص على الأخمص يأباه الطبع بخلاف اليدين وهذه الدقائق في الترتيب تنكشف بنور النبوة في لحظة واحدة وإنما يطول التعب علينا ثم لو سئلنا ابتداء عن الترتيب في ذلك ربما لم يخطر لنا وإذا ذكرنا فعله صلى الله عليه وسلموترتيبه ربما تيسر لنا مما عاينه صلى الله عليه وسلم بشهادة الحكم وتنبيهه على المعنى استنباط المعنى ولا تظنن أن أفعاله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاته كانت خارجة عن وزن وقانون وترتيب بل جميع الأمور الاختيارية التي ذكرناها يتردد فيها الفاعل بين قسمين أو أقسام كان لا يقدم على واحد معين بالاتفاق بل بمعنى يقتضي الإقدام والتقديم فإن الاسترسال مهملا كما يتفق سجية البهائم وضبط الحركات بموازين المعاني سجية أولياء الله تعالى وكلما كانت حركات الإنسان وخطراته إلى الضبط أقرب وعن الإهمال وتركه سدى أبعد كانت مرتبته إلى رتبة الأنبياء والأولياء أكثر وكان قربه من الله عز وجل أظهر إذ القريب من النبي صلى الله عليه وسلم هو القريب من الله عز وجل والقريب من الله لا بد أن يكون قريبا فالقريب من القريب قريب بالإضافة إلى غيره فنعوذ بالله أن يكون زمام حركاتنا وسكناتنا في يد الشيطان بواسطة الهوى واعتبر في ضبط الحركات باكتحاله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يكتحل في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى اثنين حديث كان يكتحل في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى اثنين أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف فيبدأ باليمنى لشرفها وتفاوته بين العينين لتكون الجملة وترا فإن للوتر فضلا عن الزوج فإن الله سبحانه وتر يحب الوتر فلا ينبغي أن يخلو فعل العبد من مناسبة لوصف من أوصاف الله تعالى ولذلك استحب الإيتار في الاستجمار وإنما لم يقتصر على الثلاث وهو وتر لأن اليسرى لا يخصها إلا واحدة والغالب أن الواحدة لا تستوعب أصول الأجفان بالكحل وإنما خصص اليمين بالثلاث لأن التفضيل لا بد منه للإيتار واليمين أفضل فهي بالزيادة أحق فإن قلت فلم اقتصر على اثنين لليسرى وهي زوج فالجواب أن ذلك ضرورة إذ لو جعل لكل واحدة وتر لكان المجموع زوجا إذ الوتر مع الوتر زوج ورعايته الإيتار في مجموع الفعل وهو في حكم الخصلة الواحدة أحب من رعايته في الآحاد ولذلك أيضا وجه وهو أن يكتحل في كل واحدة ثلاثا على قياس الوضوء حديث الاكتحال في كل عين ثلاثا قال الغزالي ونقل ذلك في الصحيح قلت هو عند الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس قال الترمذي حديث حسن وقد نقل ذلك في الصحيح وهو الأولى ولو ذهبت أستقصي دقائق ما راعاه صلى الله عليه وسلم في حركاته لطال الأمر فقس بما سمعته ما لم تسمعه واعلم أن العالم لا يكون وارثا للنبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا اطلع على جميع معاني الشريعة حتى لا يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا درجة واحدة وهي درجة النبوة وهي الدرجة الفارقة بين الوارث والموروث إذ الموروث هو الذي حصل المال له واشتغل بتحصيله واقتدر عليه والوارث هو الذي لم يحصل ولم يقدر عليه ولكن انتقل إليه وتلقاه منه بعد حصوله له فأمثال هذه المعاني مع سهولة أمرها بالإضافة إلى الأغوار والأسرار لا يستقل بدركها ابتداء إلا الأنبياء ولا يستقل باستنباطها تلقيا بعد تنبيه الأنبياء عليها إلا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء عليهم السلام السادس والسابع زيادة السرة وقلفة الحشفة أما السرة فتقطع في أول الولادة وأما التطهير بالختان فعادة اليهود في اليوم السابع من الولادة ومخالفتهم بالتأخير إلى أن يثغر الولد أحب وأبعد عن الخطر قال صلى الله عليه وسلم الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء حديث الختان سنة للرجال مكرمة للنساء أخرجه أحمد والبيهقي من رواية أبي المليح بن أسامة عن أبيه بإسناد ضعيف وينبغي أن لا يبالغ في خفض المرأة قال صلى الله عليه وسلم لأم عطية وكانت تخفض يا أم عطية أشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج حديث أم عطية أشمي ولا تنهكي الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث الضحاك بن قيس ولأبي داود نحوه من حديث أم عطية وكلاهما ضعيف أي أكثر لماء الوجه ودمه وأحسن في جماعها فانظر إلى جزالة لفظه صلى الله عليه وسلم في الكناية وإلى إشراق نور النبوة من مصالح الآخرة التي هي أهم مقاصد النبوة إلىمصالح الدنيا حتى انكشف له وهو أمي من هذا الأمر النازل قدره ما لو وقعت الغفلة عنه خيف ضرره فسبحان من أرسله رحمة للعالمين ليجمع لهم بيمن بعثته مصالح الدنيا والدين صلى الله عليه وسلم الثامنة ما طال من اللحية وإنما أخرناها لنلحق بها ما في اللحية من السنن والبدع إذ هذا أقرب موضع يليق به ذكرها وقد اختلفوا فيما طال منها فقيل إن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبضة فلا بأس فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين وكرهه الحسن وقتادة وقالا تركها عافية أحب لقوله صلى الله عليه وسلم اعفوا اللحى والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب فإن الطول المفرط قد يشوه الخلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنبذ إليه فلا بأس بالاحتراز عنه على هذه النية وقال النخعي عجبت لرجل عاقل طويل اللحية كيف لا يأخذ من لحيته ويجعلها بين لحيتين فإن التوسط في كل شيء حسن ولذلك قيل كلما طالت اللحية تشمر العقل فصل وفي اللحية عشر خصال مكروهة وبعضها أشد كراهة من بعض خضابها بالسواد وتبييضها بالكبريت ونتفها ونتف الشيب منها والنقصان منها والزيادة وتسريحها تصنعا لأجل الرياء وتركها شعثة إظهارا للزهد والنظر إلى سوادها عجبا بالشباب وإلى بياضها تكبرا بعلو السن وخضابها بالحمرة والصفرة من غير نية تشبها بالصالحين أما الأول وهو الخضاب بالسواد فهو منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم خير شبابكم من تشبه بشيوخكم وشر شيوخكم من تشبه بشبابكم حديث خير شبابكم من تشبه بكهولكم الحديث أخرجه الطبراني من حديث وائلة بإسناد ضعيف والمراد بالتشبه بالشيوخ في الوقار لا في تبييض الشعر و نهى عن الخضاب بالسواد حديث نهى عن الخضاب بالسواد أخرجه ابن سعد في الطبقات من حديث عمرو بن العاص بإسناد منقطع ولمسلم من حديث جابر وغيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد قاله حين رأى بياض شعر أبي قحافة وقال هو خضاب أهل النار حديث الخضاب بالسواد خضاب أهل النار وفي لفظ خضاب الكفار أخرجه الطبراني والحاكم من حديث ابن عمر بلفظ الكافر قال ابن أبي حاتم منكر وفي لفظ آخر الخضاب بالسواد خضاب الكفار وتزوج رجل على عهد عمر رضي الله عنه وكان يخضب بالسواد فنصل خضابه وظهرت شيبته فرفعه أهل المرأة إلى عمر رضي الله عنه فرد نكاحه وأوجعه ضربا وقال غررت القوم بالشباب ولبست عليهم شيبتك ويقال أول من خضب بالسواد فرعون لعنه الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة حديث يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد الحديث أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس بإسناد جيد الثاني الخضاب بالصفرة والحمرة وهو جائز تلبيسا للشيب على الكفار في الغزو والجهاد فإن لم يكن على هذه النية بل للتشبه بأهل الدين فهو مذموم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفرة خضاب المسلمين والحمرة خضاب المؤمنين حديث الصفرة خضاب المسلمين والحمرة خضاب المؤمنين أخرجه الطبراني والحاكم بلفظ الإفراد من حديث ابن عمر قال ابن أبي حاتم منكر وكانوا يخضبون بالحناء للحمرة وبالخلوق والكتم للصفرة وخضب بعض العلماء بالسواد لأجل الغزو وذلك لا بأس به إذا صحت النية ولم يكن فيه هوى وشهوة الثالث تبييضها بالكبريت استعجالا لإظهار علو السن توصلا إلى التوقير وقبول الشهادة والتصديق بالرواية عن الشيوخ وترفعا عن الشباب وإظهارا لكثرة العلم ظنا بأن كثرة الأيام تعطيه فضلا وهيهات فلا يزيد كبر السن للجاهل إلا جهلا فالعلم ثمرة العقل وهي غريزة ولا يؤثر الشيب فيها ومن كانت غريزته الحمق فطول المدة يؤكد حماقته وقد كان الشيوخ يقدمون الشباببالعلم كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم ابن عباس وهو حديث السن على أكابر الصحابة ويسأله دونهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما ما آتى الله عز وجل عبدا علما إلا شابا والخير كله في الشباب ثم تلا قوله عز وجل قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم وقوله تعالى إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وقوله تعالى وآتيناه الحكم صبيا وكان أنس رضي الله عنه يقول قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء فقيل له يا أبا حمزة فقد أسن فقال لم يشنه الله بالشيب فقيل أهو شين فقال كلكم يكرهه حديث قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء فقيل له يا أبا حمزة وقد أسن فقال لم يشبه الله بالشيب متفق عليه من حديث أنس دون قوله فقيل الخ ولمسلم من حديثه وسئل عن شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما شانه الله ببيضاء ويقال إن يحيى بن أكثم ولي القضاء وهو ابن إحدى وعشرين سنة فقال له رجل في مجلسه يريد أن يخجله بصغر سنه كم سن القاضي أيده الله فقال مثل سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة مكة وقضاءها فأفحمه حديث يحيى بن أكثم ولي القضاء وهو ابن إحدى وعشرين سنة فقيل له كم سن القاضي فقال مثل سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة مكة وقضاءها يوم الفتح وأنا أكبر من معاذ بن جبل حين وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا على أهل اليمن أخرجه الخطيب في التاريخ بإسناد فيه نظر وما ذكره ابن أكثم صحيح بالنسبة إلى عتاب بن أسيد فإنه كان حين الولاية ابن عشرين وأما بالنسبة إلى معاذ فإنما يتم له ذلك على قول يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك وابن أبي حاتم إنه كان حين مات ابن ثمان وعشرين سنة والمرجح أنه مات ابن ثلاث وثلاثين سنة في الطاعون سنة ثمانية عشر والله أعلم وروي عن مالك رحمه الله أنه قال قرأت في بعض الكتب لا تغرنكم اللحى فإن التيس له لحية وقال أبو عمرو بن العلاء إذا رأيت الرجل طويل القامة صغير الهامة عريض اللحية فاقض عليه بالحمق ولو كان أمية بن عبد شمس وقال أيوب السختياني أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبع الغلام يتعلم منه وقال علي بن الحسين من سبق فيه العلم قبلك فهو إمامك فيه وإن كان أصغر سنا منك وقيل لأبي عمرو بن العلاء أيحسن من الشيخ أن يتعلم من الصغير فقال إن كان الجهل يقبح به فالتعلم يحسن به وقال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي يا أبا عبد الله تركت حديث سفيان بعلوه وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه فقال له أحمد لو عرفت لكنت تمشي من الجانب الآخر إن علم سفيان إن فاتني بعلو أدركته بنزول وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم أدركه بعلو ولا نزول الرابع نتف بياضها استنكافا من الشيب وقد نهى عليه السلام عن نتف الشيب وقال هو نور المؤمن حديث نهى عن نتف الشيب وقال هو نور المؤمن أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي وابن ماجه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو في معنى الخضاب بالسواد وعلة الكراهية ما سبق والشيب نور الله تعالى والرغبة عنه رغبة عن النور الخامس نتفها أو نتف بعضها بحكم العبث والهوس وذلك مكروه ومشوه للخلقة ونتف الفنيكين بدعة وهما جانبا العنفقة شهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه فرد شهادته ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته وأما نتفها في أول النبات تشبها بالمرد فمن المنكرات الكبار فإن اللحية زينة الرجال فإن لله سبحانه ملائكة يقسمون والذي زين بني آدم باللحى وهو من تمام الخلق وبها يتميز الرجال عن النساء وقيل في غريب التأويل اللحية هي المراد بقوله تعالى يزيد في الخلق ما يشاء قال أصحاب الأحنف بن قيس وددنا أن نشتري للأحنف لحية ولو بعشرين ألفا وقال شريح القاضي وددت أن لي لحية ولو بعشرة آلاف وكيف تكره اللحية وفيها تعظيم الرجل والنظر إليه بعين العلم والوقار والرفع في المجالس وإقبال الوجوه إليه والتقديم على الجماعة ووقاية العرض فإن من يشتم يعرض باللحية إن كان للمشتوم لحية وقد قيل إن أهل الجنة مرد إلا هارون أخا موسى صلى الله عليهما وسلم فإن له لحية إلى سرته تخصيصا له وتفضيلا السادس تقصيصها كالتعبية طاقة على طاقةللتزين للنساء والتصنع قال كعب يكون في آخر الزمان أقوام يقصون لحاهم كذنب الحمامة ويعرقبون نعالهم كالمناجل أولئك لا خلاق لهم السابع الزيادة فيها وهو أن يزيد في شعر العارضين من الصدغين وهو من شعر الرأس حتى يجاوز عظم اللحى وينتهي إلى نصف الخد وذلك يباين هيئة أهل الصلاح الثامن تسريحها لأجل الناس قال بشر في اللحية شركان تسريحها لأجل الناس وتركها متفتلة لإظهار الزهد التاسع والعاشر النظر في سوادها أو في بياضها بعين العجب وذلك مذموم في جميع أجزاء البدن بل في جميع الأخلاق والأفعال على ما سيأتي بيانه فهذا ما أردنا أن نذكره من أنواع التزين والنظافة وقد حصل من ثلاثة أحاديث من سنن الجسد اثنتا عشرة خصلة خمس منها في الرأس وهي فرق شعر الرأس حديث فرق شعر الرأس الخ من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره إلى أن قال ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه والمضمضة والاستنشاق حديث عشر من الفطرة الحديث أخرجه مسلم من حديث عائشة ولفظه قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاقه الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء قال وكيع يعني الاستنجاء قال مصعب ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ضعفه النسائي ولأبي داود وابن ماجه من حيث عمار بن ياسر نحوه فذكر فيه المضمضة والاختتان والانتضاح ولم يذكر إعفاء اللحية وانتقاص الماء قال أبو داود روى نحوه عن ابن عباس قال خمس كلها في الرأس وذكر منها الفرق ولم يذكر إعفاء اللحية وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة الفطرة خمس الختان الحديث وقص الشارب والسواك وثلاثة في اليد والرجل وهي القلم وغسل البراجم وتنظيف الرواجب حديث تنظيف الرواجب تقدم وأربعة في الجسد وهي نتف الإبط والاستحداد والختان والاستنجاء بالماء فقد وردت الأخبار بمجموع ذلك وإذا كان غرض هذا الكتاب التعرض للطهارة الظاهرة دون الباطنة فلنتقصر على هذا وليتحقق أن فضلات الباطن وأوساخه التي يجب التنظيف منها أكثر من أن تحصى وسيأتي تفصيلها في ربع المهلكات مع تعريف الطرق في إزالتها وتطهير القلب منها إن شاء الله عز وجل تم كتاب أسرار الطهارة بحمد الله تعالى وعونه ويتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أسرار الصلاة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى.

كتاب قواعد العقائد

كتاب إحياء علوم الدين
تأليف
حجة الأسلام
ابو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي
تغمده الله برحمة

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب قواعد العقائد
وهو الكتاب الثاني من ربع العبادات

 

كتاب قواعد العقائد وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول في ترجمة عقيدة أهل السنة في كلمتي الشهادة التي هي أحد مباني الإسلام فنقول وبالله التوفيق الحمد لله المبدىء المعيد الفعال لما يريد ذي العرش المجيد والبطش الشديد الهادي صفوة العبيد إلى المنهج الرشيد والمسلك السديد المنعم عليهم بعد شهادة التوحيد بحراسة عقائدهم عن ظلمات التشكيك والترديد السالك بهم إلى اتباع رسوله المصطفى واقتفاء آثار صحبه الأكرمين المكرمين بالتأييد والتسديد المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن أوصافه التي لا يدركها إلا من ألقى السمع وهو شهيد المعرف إياهم أنه في ذاته واحد لا شريك له فرد لا مثيل له صمد لا ضد له منفرد لا ند له وأنه واحد قديم لا أول له أزلي لا بداية له مستمر الوجود لا آخر له أبدي لا نهاية له قيوم لا انقطاع له دائم لا انصرام له لم يزل ولا يزال موصوفا بنعوت الجلال لا يقضي عليه بالانقضاء والانفصال بتصرم الآباد وانقراض الآجال بن هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم التنزيه وأنه ليس بجسم مصور ولا جوهر محدود مقدر وأنه لا يماثل والأجسام ولا في التقدير ولا في قبول الانقسام وأنه ليس بجوهر ولا تحله الجواهر ولا بعرض ولا تحله الأعراض بل لا يماثل موجودا ولا يماثله موجود ليس كمثله شيء ولا هو مثل شيء وأنه لا يحده المقدار ولا تحويه الأقطار ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته وهو فوق العرش والسماء وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كل شيء شهيد إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام وأنه لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء تعالى عن أن يحويه مكان كما تقدس عن أن يحده زمان بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان وأنه بائن عن خلقه بصفاته ليس في ذاته سواه ولا في سواه ذاته وأنه مقدس عن التغير والانتقال لا تحله الحوادث ولا تعتريه العوارض بل لا يزال في نعوت جلاله منزها عن الزوال وفي صفات كماله مستغنيا عن زيادة الاستكمال وأنه في ذاته معلوم الوجود بالعقول مرئي الذات بالأبصار نعمة منه ولطفا بالأبرار في دار القرار وإتماما منه للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم الحياة والقدرة وأنه تعالى حي قادر جبار قاهر لا يعتريه قصور ولا عجز ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا يعارضه فناء ولا موت وأنه ذو الملك والملكوت والعزة والجبروت له السلطان والقهر والخلق والأمر والسموات مطويات بيمينه والخلائق مقهورون في قبضته وأنه المنفرد بالخلق والاختراع المتوحد بالإيجاد والإبداع خلق الخلق وأعمالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم لا يشذ عن قبضته مقدور ولا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور لا تحصى مقدوراته ولا تتباهى معلوماته العلم وأنه عالم بجميع المعلومات محيط بما يجري من تخوم الأرضين إلى أعلى السموات وأنه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويدرك حركة الذر في جو الهواء ويعلم السر وأخفى ويطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفا به في أزل الآزال لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والانتقال الإرادة وأنه تعالى مريد للكائنات مدبر للحادثات فلا يجري في الملك والملكوت قليل أو كثير صغير أو كبير خير أو شر نفع أو ضر إيمان أو كفر عرفان أو نكر فوز أو خسران زيادة أو نقصان طاعة أو عصيان إلا بقضائه وقدره وحكمته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا يخرج عن مشيئته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر بل هو المبدىء المعيد الفعال لما يريد لا راد لأمره ولا معقب لقضائه ولا مهرب لعبد عن معصيته إلا بتوفيقه ورحمته ولا قوة له على طاعته إلا بمشيئته وإرادته فلو اجتمع الإنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته لعجزوا عن ذلك وأن إرادته قائمة بذاته في جملة صفاته لم يزل كذلك موصوفا بها مريدا في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدرها فوجدت في أوقاتها كما أراده في أزله من غير تقدم ولا تأخر بل وقعت على وفق علمه وإرادته من غير تبدل ولا تغير دبر الأمور لا بترتيب أفكار ولا تربص زمان فلذلك لم يشغله شأن عن شأن السمع والبصر وأنه تعالى سميع بصير يسمع ويرى ولا يعرب عن سمعه مسموع وإن خفي ولا يغيب عن رؤيته مرئي وإن دق ولا يحجب سمعه بعد ولا يدفع رؤيته ظلام يرى من غير حدقة وأجفان ويسمع من غير أصمخة وآذان كما يعلم بغير قلب ويبطش بغير جارحة ويخلق بغير آلة إذ لا تشبه صفاته صفات الخلق كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق الكلام وأنه تعالى متكلم آمرناه واعد متوعد بكلام أزلي قديم قائم بذاته لا يشبه كلام الخلق فليس بصوت يحدث من انسلال هواه أو اصطكاك أجرام ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان وأن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور كتبه المنزلة على رسله عليهم السلام وأن القرآن مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب وأنه مع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق وأن موسى صلى الله عليه وسلم سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف كما يرى الأبرار ذات الله تعالى في الآخرة من غير جوهر ولا عرض وإذا كانت له هذه الصفات كان حيا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما بالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام لا بمجرد الذات الأفعال وأنه سبحانه وتعالى لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعله وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها وأعدلها وأنه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته لا يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره ولا يتصور الظلم من الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما فكل ما سواه من إنس وجن وملك وشيطان وسماء وأرض وحيوان ونبات وجماد وجوهر وعرض ومدرك ومحسوس حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعا وأنشأه إنشاء بعد أن لم يكن شيئا إذ كان موجودا وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلق بعد ذلك إظهارا لقدرته وتحقيقا لما سبق من إرادته ولما حق في الأزل من كلمته لا لافتقاره إليه وحاجته وأنه متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لا عن وجوب ومتطول بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم فله الفضل والإحسان والنعمة والامتنان إذ كان قادرا على أن يصب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب ولو فعل ذلك لكان منه عدلا ولم يكن منه قبيحا ولا ظلما وأنه عز وجل يثبت عباده المؤمنين على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم له إذ لا يجب عليه لأحد فعل ولا يتصور منه ظلم ولا يجب لأحد عليه حق وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه على ألسنة أنبيائه عليهم السلام لا بمجرد العقل ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة فبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به معنى الكلمة الثانية وهي الشهادة للرسل بالرسالة وأنه بعث النبي الأمي القرشي محمدا صلى الله عليه وسلم برسالته إلى كافة العرب والعجم والجن والإنس فنسخ بشريعته الشرائع إلا ما قرره منها وفضله على سائر الأنبياء وجعله سيد البشر ومنع كمال الإيمان بشهادة التوحيد وهو قول لا إله إلا الله ما لم تقترن بها شهادة الرسول وهو قولك محمد رسول الله وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر عنه من أمور الدنيا والآخرة وأنه لا يتقبل إيمان عبد حتى يؤمن بما أخبر به بعد الموت وأوله سؤال منكر ونكير وهما شخصان مهيبان هائلان يقعدان العبد في قبره سويا ذا روح وجسد فيسألانه عن التوحيد والرسالة ويقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك حديث سؤال منكر ونكير أخرجه الترمذي وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير وفي الصحيحين من حديث أنس إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وأنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه الحديث وهما فتانا القبر حديث إنهما فتانا القبر أخرجه أحمد وابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتاني القبر فقال عمر أترد علينا عقولنا الحديث وسؤالهما أول فتنة بعد الموت حديث إن سؤالهما أول فتنة بعد الموت لم أجده وأن يؤمن بعذاب القبر حديث عذاب القبر أخرجاه من حديث عائشة إنكم تفتنون أو تعذبون في قبوركم الحديث ولهما من حديث أبي هريرة وعائشة استعاذته صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر وأنه حق وحكمة عدل على الجسم والروح على ما يشاء وأن يؤمن بالميزان ذي الكفتين واللسان وصفته في العظم أنه مثل طبقات السموات والأرض توزن الأعمال بقدرة الله تعالى والصنج يومئذ مثاقيل الذر والخردل تحقيقا لتمام العدل وتوضح صحائف الحسنات في صورة حسنة في كفة النور فيثقل بها الميزان على قدر درجاتها عند الله بفضل الله وتطرح صحائف السيئات في صورة قبيحة في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل الله حديث الإيمان بالميزان ذي الكفتين واللسان وصفته في العظم أنه مثل طباق السموات والأرض أخرجه البيهقي في البعث من حديث عمر قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان الحديث وأصله عند مسلم ليس فيه ذكر الميزان ولأن داود من حديث عائشة أما في ثلاثة مواطن لا يذكر أحد أحدا عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل زاد ابن مردويه في تفسيره قالت عائشة أي حتى قد علمنا الموازين هي الكفتان فيوضع في هذه الشيء ويوضع في هذه الشيء فترجع إحداهما وتخف الأخرى والترمذي وحسنه من حديث أنس واطلبنني عند الميزان ومن حديث عبد الله بن عمر في حديث البطاقة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة الحديث وروى ابن شاهين في كتاب السنة عن ابن عباس كفة الميزان كأطباق الدنيا كلها وأن يؤمن بأن الصراط حق وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة تزل عليه أقدام الكافرين بحكم الله سبحانه فتهوى بهم إلى النار وتثبت عليه أقدام المؤمنين بفضل الله فيساقون إلى دار القرار حديث الإيمان بالصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعر أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم ولهما من حديث أبي سعيد ثم يضرب الجسر على جهنم زاد مسلم قال أبو سعيد إن الجسر أدق من الشعر وأحد من السيف ورفعه أحمد من حديث عائشة والبيهقي في الشعب والبعث من حديث أنس وضعفه وفي البعث من رواية عبد الله بن عمير مرسلا ومن قول ابن مسعود الصراط كحد السيف وفي آخر الحديث ما يدل على أنه مرفوع وأن يؤمن بالحوض المورود حوض محمد صلى الله عليه وسلم يشرب منه المؤمنون قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط حديث الإيمان بالحوض وأنه يشرب منه المؤمنون أخرجه مسلم من حديث أنس في نزول إنا أعطيناك الكوثر هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم ولهما من حديث ابن مسعود وعقبة بن عامر وجندب وسهل بن سعد أنا فرطكم على الحوض ومن حديث ابن عمر أمالكم حوض كما بين جرباء وأدرج وقال الطبراني كما بينكم وبين جرباء وأدرج وهو الصواب وذكر الحوض في الصحيح من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وعبد الله بن عمر وحذيفة وأبي ذر وحابس ابن سمرة وحارثة بن وهب وثوبان وعائشة وأم سلمة وأسماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا عرضه مسيرة شهر ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل حوله أباريق عددها بعدد نجوم السماء حديث من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا عرضه مسيرة شهر أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل حوله أباريق عدد نجوم السماء من حديث عبد الله بن عمرو ولهما من حديث أنس فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء وفي رواية لمسلم أكثر من عدد النجوم فيه ميزابان يصبان فيه من الكوثر حديث فيه ميزابان يصبان من الكوثر أخرجه مسلم من حديث ثوبان يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق وأن يؤمن بالحساب وتفاوت الناس فيه إلى مناقش في الحساب وإلى مسامح فيه وإلى من يدخل الجنة بغير حساب وهم المقربون فيسأل الله تعالى حديث الإيمان بالحساب وتفاوت الخلق فيه إلى مناقش في الحساب ومسامح فيه وإلى من يدخل الجنة بغير حساب أخرجه البيهقي في البعث من حديث عمر فقال يا رسول الله ما الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالموت والبعث من بعد الموت والحساب والجنة والنار والقدر كله الحديث وهو عند مسلم دون ذكر الحساب وللشيخين من حديث عائشة من نوقش الحساب عذب قالت قلت يقول الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا قال ذلك العرض ولهما من حديث ابن عباس عرضت علي الأمم فقيل هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ولمسلم من حديث أبي هريرة وعمران بن حصين يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب زاد البيهقي في البعث من حديث عمرو بن حزم وأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا زاد أحمد من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بعده هذه الزيادة فقال فهلا استزدته قال قد استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفا قال عمر فهلا استزدته قال قد استزدته فأعطاني هكذا وفرج عبد الرحمن بن أبي بكر بين يديه الحديث من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة ومن شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين حديث سؤال من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة ومن شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته الحديث ولابن ماجه يجيء النبي يوم القيامة الحديث وفيه فيقال هل بلغت قومك الحديث ويسأل المبتدعة عن السنة حديث سؤال المبتدعة عن السنة رواه ابن ماجه من حديث عائشة من تكلم بشيء من القدر سئل عنه يوم القيامة ومن حديث أبي هريرة ما من داع يدعو إلى شيء إلا وقف يوم القيامة لازما لدعوة ما دعا إليه وإن دعا رجل رجلا وإسنادهما ضعيف ويسأل المسلمين عن الأعمال حديث سؤال المسلمين عن الأعمال أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته الحديث وسيأتي في الصلاة وأن يؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد الانتقام حتى لا يبقى في جهنم موحد بفضل الله تعالى فلا يخلد في النار موحد حديث إخراج الموحدين من النار حتى لا يبقى فيها موحد بفضل الله سبحانه أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة في حديث طويل حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله الحديث وأن يؤمن بشفاعة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ثم سائر المؤمنين على حسب جاهه ومنزلته عند الله تعالى ومن بقي من المؤمنين ولم يكن له شفيع أخرج بفضل الله عز وجل فلا يخلد في النار مؤمن بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان حديث شفاعة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ثم سائر المؤمنين ومن بقي من المؤمنين ولم يكن لهم شفيع أخرج بفضل الله فلا يخلد في النار مؤمن بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان أخرجه ابن ماجه من حديث عثمان بن عفان يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء وقد تقدم في العلم وللشيخين من حديث أبي سعيد الخدري من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان فأخرجوه وفي رواية من خير وفيه فيقول الله تعالى شفعت الملائكة وشفعت النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط الحديث وأن يعتقد فضل الصحابة رضي الله عنهم وترتيبهم وأن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم حديث أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي أخرجه البخاري من حديث ابن عمر قال كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ولأبي داود كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم زاد الطبراني ويسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره وأن يحسن الظن بجميع الصحابة ويثني عليهم كما أثنى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين حديث إحسان الظن بجميع الصحابة والثناء عليهم أخرجه الترمذي من حديث عبد الله ابن مغفل الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي وللشيخين من حديث أبي سعيد لا تسبوا أصحابي وللطبراني من حديث ابن مسعود إذا ذكر أصحابي فأمسكوا فكل ذلك مما وردت به الأخبار وشهدت به الآثار فمن اعتقد جميع ذلك موقنا به كان من أهل الحق وعصابة السنة وفارق رهط الضلال وحزب البدعة فنسأل الله كمال اليقين وحسن الثبات في الدين لنا ولكافة المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى الفصل الثاني في وجه التدريج إلى الإرشاد وترتيب درجات الاعتقاد اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوه ليحفظه حفظا ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئا فشيئا فابتداؤه الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان فمن فضل الله سبحانه على قلب الإنسان أن شرحه في أول نشوه للإيمان من غير حاجة إلى حجة وبرهان وكيف ينكر ذلك وجميع عقائد العوام مباديها التلقين المجرد والتقليد المحض نعم يكون الاعتقاد الحاصل بمجرد التقليد غير خال عن نوع من الضعف في الابتداء على معنى أنه يقبل الإزالة بنقيضه لو ألقى إليه فلا بد من تقويته وإثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل وليس الطريق في تقويته وإثباته أن يعلم صنعة الجدل والكلام بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره وقراءة الحديث ومعانيه ويشتغل بوظائف العبادات فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخا بما يقرع سمعه من أدلة القرآن وحججه وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها وبما يسرى إليه من مشاهدة الصالحين ومجالستهم وسيماهم وسماعهم وهيآتهم في الخضوع لله عز وجل والخوف منه والاستكانة له فيكون أول التلقين كإلقاء بذر في الصدر وتكون هذه الأسباب كالسقى والتربية له حتى ينمو ذلك البذر يقوى ويرتفع شجرة طيبة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء وينبغي أن يحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة فإن ما يشوشه الجدل أكثر مما يمهده وما يفسده أكثر مما يصلحه بل تقويته بالجدل تضاهي ضرب الشجرة بالمدقة من الحديد رجاء تقويتها بأن تكثر أجزاؤها وربما يفتتها ذلك ويفسدها وهو الأغلب والمشاهدة تكفيك في هذا بيانا فناهيك بالعيان برهانا فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحركه الدواهي والصواعق وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقفه تقليدا كما تلقف نفس الاعتقاد تقليدا إذ لا فرق في التقليد بين تعليم الدليل أو تعلم المدلول فتلقين الدليل شيء والاستدلال بالنظر شيء آخر بعيد عنه ثم الصبي إذا وقع نشوه على هذه العقيدة إن اشتغل بكسب الدنيا لم ينفتح له غيرها ولكنه يسلم في الآخرة باعتقاد أهل الحق إذ لم يكلف الشرع أجلاف العرب أكثر من التصديق الجازم بظاهر هذه العقائد فأما البحث والتفتيش وتكلف نظم الأدلة فلم يكلفوه أصلا وإن أراد أن يكون من سالكي طريق الآخرة وساعده التوفيق حتى اشتغل بالعمل ولازم التقوى ونهى النفس عن الهوى واشتغل بالرياضة والمجاهدة انفتحت له أبواب من الهداية تكشف عن حقائق هذه العقيدة بنور إلهي يقذف في قلبه بسبب المجاهدة تحقيقا لوعده عز وجل إذ قال والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين وهو الجوهر النفيس الذي هو غاية إيمان الصديقين والمقربين وإليه الإشارة بالسر الذي وقر في صدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث فضل به الخلق وانكشاف ذلك السر بل تلك الأسرار له درجات بحسب درجات المجاهدة ودرجات الباطن في النظافة والطهارة عما سوى الله تعالى وفي الاستضاءة بنور اليقين وذلك كتفاوت الخلق في أسرار الطب والفقه وسائر العلوم إذ يختلف ذلك باختلاف الاجتهاد واختلاف الفطرة في الذكاء والفطنة وكما لا تنحصر تلك الدرجات فكذلك هذه مسألة فإن قلت تعلم الجدل والكلام مذموم كتعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه فاعلم أن للناس في هذا غلوا وإسرافا في أطراف فمن قائل إنه بدعة أو حرام وأن العبد إن لقي الله عز وجل بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام ومن قائل إنه واجب وفرض إما على الكفاية أو على الأعيان وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله تعالى وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف قال ابن عبد الأعلى رحمه الله سمعت الشافعي رضي الله عنه يوم ناظر حفصا الفرد وكان من متكلمي المعتزلة يقول لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشيء من علم الكلام ولقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه وقال أيضا قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام وحكى الكرابيسي أن الشافعي رضي الله عنه سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال سل عن هذا حفصا الفرد وأصحابه أخزاهم الله ولما مرض الشافعي رضي الله عنه دخل عليه حفص الفرد فقال له من أنا فقال حفص الفرد لا حفظك الله ولا رعاك حتى تتوب مما أنت فيه وقال أيضا لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد وقال أيضا إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له قال الزعفراني قال الشافعي حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال له ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث وقال أحمد رحمه الله علماء الكلام زنادقة وقال مالك رحمه الله أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد يعني أن أقوال المتجادلين تتفاوت وقال مالك رحمه الله أيضا لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء فقال بعض أصحابه في تأويله أنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا وقال أبو يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق وقال الحسن لا تجادلوا أهل الأهواء ولا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه وقالوا ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون حديث هلك المتنطعون أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود أي المتعمقون في البحث والاستقصاء واحتجوا أيضا بأن ذلك لو كان من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلم طريقه ويثني عليه وعلى أربابه فقد علمهم الاستنجاء حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم الاستنجاء أخرجه مسلم من حديث سلمان الفارسي وندبهم إلى علم الفرائض وأثنى عليهم حديث ندبهم إلى علم الفرائض وأثنى عليهم أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة تعلموا الفرائض وعلموها الناس الحديث وللترمذي من حديث أنس وأفرضهم زيد بن ثابت ونهاهم عن الكلام في القدر وقال أمسكوا حديث نهاهم عن الكلام في القدر وقال أمسكوا تقدم في العلم عن القدر وعلى هذا استمر الصحابة رضي الله عنهم فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة وأما الفرقة الأخرى فاحتجوا بأن قالوا إن المحذور من الكلام إن كان هو لفظ الجوهر والعرض وهذه الاصطلاحات الغريبة التي لم تعهدها الصحابة رضي الله عنهم فالأمر فيه قريب إذا ما من علم إلا وقد أحدث فيه اصطلاحات لأجل التفهيم كالحديث والتفسير والفقه ولو عرض عليهم عبارة النقض والكسر والتركيب والتعدية وفساد الوضع إلى جميع الأسئلة التي تورد على القياس لما كانوا يفقهونه فإحداث عبارة للدلالة بها على مقصود صحيح كإحداث آنية على هيئة جديدة لاستعمالها في مباح وإن كان المحذور هو المعنى فنحن لا نعني به إلا معرفة الدليل على حدوث العالم ووحدانية الخالق وصفاته كما جاء في الشرع فمن أين تحرم معرفة الله تعالى بالدليل وإن كان المحذور هو التشعب والتعصب والعداوة والبغضاء وما يفضي إليه الكلام فذلك محرم ويجب الاحتراز عنه كما أن الكبر والعجب والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه علم الحديث والتفسير والفقه وهو محرم يجب الاحتراز عنه ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه إليه وكيف يكون ذكر الحجة والمطالبة بها والبحث عنها محظورا وقد قال الله تعالى قل هاتوا برهانكم وقال عز وجل ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وقال تعالى هل عندكم من سلطان بهذا أي حجة وبرهان وقال تعالى قل فلله الحجة البالغة وقال تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إلى قوله فبهت الذي كفر إذ ذكر سبحانه احتجاج إبراهيم ومجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه وقال عز وجل وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه وقال تعالى قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا وقال تعالى في قصة فرعون وما رب العالمين إلى قوله أولوا جئتك بشيء مبين وعلى الجملة فالقرآن من أوله إلى آخره محاجة مع الكفار فعمده أدلة المتكلمين في التوحيد قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وفي النبوة وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وفي البعث قل يحييها الذي أنشأها أول مرة إلى غير ذلك من الآيات والأدلة ولم تزل الرسل صلوات الله عليهم يحاجون المنكرين ويجادلونهم قال تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن فالصحابة رضي الله عنهم أيضا كانوا يحاجون المنكرين ويجادلون ولكن عند الحاجة وكانت الحاجة إليه قليلة في زمانهم وأول من سن دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحق علي ابن أبي طالب رضي الله عنه إذ بعث ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج فكلمهم فقال ما تنقمون على إمامكم قالوا قاتل ولم يسب ولم يغنم فقال ذلك في قتال الكفار أرأيتم لو سببت عائشة رضي الله عنها في سهم أحدكم أكنتم تستحلون منها ما تستحلون من ملككم وهي أمكم في نص الكتاب فقالوا لا فرجع منهم إلى الطاعة بمجادلته ألفان وروى أن الحسن ناظر قدريا فرجع عن القدر وناظر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رجلا من القدرية وناظر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يزيد بن عميرة في الإيمان قال عبد الله لو قلت إني مؤمن لقلت إني في الجنة فقال له يزيد بن عميرة يا صاحب رسول الله هذه زلة منك وهل الإيمان إلا أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والميزان وتقيم الصلاة والصوم والزكاة ولنا ذنوب لو نعلم أنها تغفر لنا لعلمنا أننا من أهل الجنة فمن أجل ذلك نقول إنا مؤمنون ولا نقول إنا من أهل الجنة فقال ابن مسعود صدقت والله إنها مني زلة فينبغي أن يقال كان خوضهم فيه قليلا لا كثيرا وقصيرا لا طويلا وعند الحاجة لا بطريق التصنيف والتدريس واتخاذه صناعة فيقال أما قلة خوضهم فيه فإنه كان لقلة الحاجة إذا لم تكن البدعة تظهر في ذلك الزمان وأما القصر فقد كان الغاية إفحام الخصم واعترافه وانكشاف الحق وإزالة الشبهة فلو طال إشكال الخصم أو لجاجه لطال لا محالة إلزامهم وما كانوا يقدرون قدر الحاجة بميزان ولا مكيال بعد الشروع فيها وأما عدم تصديهم للتدريس والتصنيف فيه فهكذا كان دأبهم في الفقه والتفسير والحديث أيضا فإن جاز تصنيف الفقه ووضع الصور النادرة التي لا تتفق إلا على الندور إما إدخار اليوم وقوعها وإن كان نادرا أو تشحيذا للخواطر فنحن أيضا نرتب طرق المجادلة لتوقع وقوع الحاجة بثوران شبهة أو هيجان مبتدع أو لتشحيذ الخاطر أو لادخار الحجة حتى لا يعجز عنها عند الحاجة على البديهة والارتجال كمن يعد السلاح قبل القتال ليوم القتال فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين فإن قلت فما المختار عندك فيه فاعلم أن الحق فيه أن إطلاق القول بذمه في كل حال أو بحمده في كل حال خطأ بل لا بد فيه من تفصيل فاعلم أولا أن الشيء قد يحرم لذاته كالخمر والميتة وأعني بقولي لذاته أن علة تحريمه وصف في ذاته وهو الإسكار والموت وهذا إذا سئلنا عنه أطلقنا القول بأنه حرام ولا يلتفت إلى إباحة الميتة عند الاضطرار وإباحة تجرع الخمر إذا غص الإنسان بلقمة ولم يجد ما يسيغها سوى الخمر وإلى ما يحرم لغيره كالبيع على بيع أخيك المسلم في وقت الخيار والبيع وقت النداء وكأكل الطين فإنه يحرم لما فيه من الإضرار وهذا ينقسم إلى ما يضر قليله وكثيره فيطلق القول عليه بأنه حرام كالسم الذي يقتل قليله وكثيره وإلى ما يضر عند الكثرة فيطلق القول عليه بالإباحة كالعسل فإن كثيره يضر بالمحرور وكأكل الطين وكأن إطلاق التحريم على الطين والخمر والتحليل على العسل التفات إلى أغلب الأحوال فإن تصدى شيء تقابلت فيه الأحوال فالأولى والأبعد عن الالتباس أن يفصل فنعود إلى علم الكلام ونقول إن فيه منفعة وفيه مضرة فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب إليه أو واجب كما يقتضيه الحال وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام أما مضرته فإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم فذلك مما يحصل في الابتداء ورجوعها بالدليل مشكوك فيه ويختلف فيه الأشخاص فهذا ضرره في الاعتقاد الحق وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبدعة للبدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ولكن هذا الضرر بواسطة التعب الذي يثور من الجدل ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان إلا إذا كان نشؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره بل الهوى والتعصب وبغض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه ويمنعه من إدراك الحق حتى لو قيل له هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك لكره ذلك خيفة من أن يفرح به خصمه وهذا هو الداء العضال الذي استطار في البلاد والعباد وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب فهذا ضرره وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسدا ومعارضة الفاسد بالفاسد تدفعه والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها إذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم وأجمع السلف الصالح عليها والعلماء يتعبدون بحفظها على العوام من تلبيسات المبتدعة كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الظلمة والغصاب وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر إذ لا يضعه إلا في موضعه وذلك في وقت الحاجة وعلى قدر الحاجة وتفصيله أن العوام المشتغلين بالحرف والصناعات يجب أن يتركوا على سلامة عقائدهم التي اعتقدوها مهما تلقنوا الاعتقاد الحق الذي ذكرناه فإن تعليمهم الكلام ضرر محض في حقهم إذ ربما يثير لهم شكا ويزلزل عليهم الاعتقاد ولا يمكن القيام بعد ذلك بالإصلاح وأما العامى المعتقد للبدعة فينبغي أن يدعى إلى الحق بالتلطف لا بالتعصب وبالكلام اللطيف المقنع للنفس المؤثر في القلب القريب من سياق أدلة القرآن والحديث الممزوج بفن من الوعظ والتحذير فإن ذلك أنفع من الجدال الموضوع على شرط المتكلمين إذ العامي إذا سمع ذلك اعتقد أنه نوع صنعة من الجدل تعلمها المتكلم ليستدرج الناس إلى اعتقاده فإن عجز عن الجواب قدر أن المجادلين من أهل مذهبه أيضا يقدرون على دفعه فالجدل مع هذا ومع الأول حرام وكذلك مع من وقع في شك إذ يجب إزالته باللطف والوعظ والأدلة القريبة المقبولة البعيدة عن تعمق الكلام واستقصاء الجدل إنما ينفع في موضع واحد وهو أن يفرض عامي اعتقد البدعة بنوع جدل سمعه فيقابل ذلك الجدل بمثله فيعود إلى اعتقاد الحق وذلك فيمن ظهر له من الأنس بالمجادلة ما يمنعه عن القناعة بالمواعظ والتحذيرات العامية فقد انتهى هذا إلى حالة لا يشفيه منها إلا دواء الجدل فجاز أن يلقى إليه وأما في بلاد تقل فيها البدعة ولا تختلف فيها المذاهب فيقتصر فيها على ترجمة الاعتقاد الذي ذكرناه ولا يتعرض للأدلة ويتربص وقوع شبهة فإن وقعت ذكر بقدر الحاجة فإن كانت البدعة شائعة وكان يخاف على الصبيان أن يخدعوا فلا بأس أن يعلموا القدر الذي أودعناه كتاب الرسالة القدسية ليكون ذلك سببا لدفع تأثير مجادلات المبتدعة إن وقعت إليهم وهذا مقدار مختصر وقد أودعناه هذا الكتاب لاختصاره فإن كان فيه ذكاء وتنبه بذكائه لموضع سؤال أو ثارت في نفسه شبهة فقد بدت العلة المحذورة وظهر الداء فلا بأس أن يرقى منه إلى القدر الذي ذكرناه في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد وهو قدر خمسين ورقة وليس فيه خروج عن النظر في قواعد العقائد إلى غير ذلك من مباحث المتكلمين فإن أقنعه ذلك كف عنه وإن لم يقنعه ذلك فقد صارت العلة مزمنة والداء غالبا والمرض ساريا فليتلطف به الطبيب بقدر إمكانه وينتظر قضاء الله تعالى فيه إلى أن ينكشف له الحق بتنبيه من الله سبحانه أو يستمر على الشك والشبهة إلى ما قدر له فالقدر الذي يحويه ذلك الكتاب وجنسه من المصنفات هو الذي يرجى نفعه فأما الخارج منه فقسمان أحدهما بحث عن غير قواعد العقائد كالبحث عن الاعتمادات وعن الأكوان وعن الإدراكات وعن الخوض في الرؤية هل لها ضد يسمى المنع أو العمى وإن كان فذلك واحد هو منع عن جميع ما لا يرى أو ثبت لكل مرئي يمكن رؤيته منع بحسب عدده إلى غير ذلك من الترهات المضلات والقسم الثاني زيادة تقرير لتلك الأدلة في غير تلك القواعد وزيادة أسئلة وأجوبة وذلك أيضا استقصاء لا يزيد إلا ضلالا وجهلا في حق من لم يقنعه ذلك القدر فرب كلام يزيده الإطناب والتقرير غموضا ولو قال قائل البحث عن حكم الإدراكات والاعتمادات فيه فائدة تشحيذ الخواطر والخاطر آلة الدين كالسيف آلة الجهاد فلا بأس بتشحيذه كان كقوله لعب الشطرنج يشحذ الخاطر فهو من الدين أيضا وذلك هوس فإن الخاطر يتشحذ بسائر علوم الشرع ولا يخاف فيها مضرة فقد عرفت بهذا القدر المذموم والقدر المحمود من الكلام والحال التي يذم فيها والحال التي يحمد فيها والشخص الذي ينتفع به والشخص الذي لا ينتفع به فإن قلت مهما اعترفت بالحاجة إليه في دفع المبتدعة والآن قد ثارت البدع وعمت البلوى وأرهقت الحاجة فلا بد أن يصير القيام بهذا العلم من فروض الكفايات كالقيام بحراسة الأموال وسائر الحقوق كالقضاء والولاية وغيرهما وما لم يشتغل العلماء بنشر ذلك والتدريس فيه والبحث عنه لا يدوم ولو ترك بالكلية لاندرس وليس في مجرد الطباع كفاية لحل شبه المبتدعة ما لم يتعلم فينبغي أن يكون التدريس فيه والبحث عنه أيضا من فروض الكفايات بخلاف زمن الصحابة رضي الله عنهم فإن الحاجة ما كانت ماسة إليه فاعلم أن الحق أنه لا بد في كل بلد من قائم بهذا العلم مستقل يدفع شبه المبتدعة التي ثارت في تلك البلدة وذلك يدوم بالتعليم ولكن ليس من الصواب تدريسه على العموم كتدريس الفقه والتفسير فإن هذا مثل الدواء والفقه مثل الغذاء وضرر الغذاء لا يحذر وضرر الدواء محذور لما ذكرنا فيه من أنواع الضرر فالعالم الذي ينبغي أن يخصص بتعليم هذا العلم من فيه ثلاث خصال إحداها التجرد للعلم والحرص عليه فإن المحترف يمنعه الشغل عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا عرضت الثانية الذكاء والفطنة والفصاحة فإن البليد لا ينتفع بفهمه والفدم لا ينتفع بحجاجه فيخاف عليه من ضرر الكلام ولا يرجى فيه نفعه الثالثة أن يكون في طبعه الصلاح والديانة والتقوى ولا تكون الشهوات غالبة عليه فإن الفاسق بأدنى شبهة ينخلع عن الدين فإن ذلك يحل عنه الحجر ويرفع للسد الذي بينه وبين الملاذ فلا يحرص على إزالة الشبهة بل يغتنمها ليتخلص من أعباء التكليف فيكون ما يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه وإذا عرفت هذه الانقسامات اتضح لك أن هذه الحجة المحمودة في الكلام إنما هي من جنس حجج القرآن من الكلمات اللطيفة المؤثرة في القلوب المقنعة للنفوس دون التغلغل في التقسيمات والتدقيقات التي لا يفهمها أكثر الناس وإذا فهموها اعتقدوا أنها شعوذة وصناعة تعلمها صاحبها للتلبيس فإذا قابله مثله في الصنعة قاومه وعرفت أن الشافعي وكافة السلف إنما منعوا عن الخوض فيه والتجرد له لما فيه من الضرر الذي نبهنا عليه وأن ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما من مناظرة الخوارج وما نقل عن علي رضي الله عنه من المناظرة في القدر وغيره كان من الكلام الجلي الظاهر وفي محل الحاجة وذلك محمود في كل حال نعم قد تختلف الأعصار في كثرة الحاجة وقلتها فلا يبعد أن يختلف الحكم لذلك فهذا حكم العقيدة التي تعبد الخلق بها وحكم طريق النضال عنها وحفظها فأما إزالة الشبهة وكشف الحقائق ومعرفة الأشياء على ما هي عليه وإدراك الأسرار التي يترجمها ظاهر ألفاظ هذه العقيدة فلا مفتاح له إلا المجاهدة وقمع الشهوات والإقبال بالكلية على الله تعالى وملازمة الفكر الصافي عن شوائب المجادلات وهي رحمة من الله عز وجل تفيض على من يتعرض لنفحاتها بقدر الرزق وبحسب التعرض وبحسب قبول المحل وطهارة القلب وذلك البحر الذي لا يدرك غوره ولا يبلغ ساحله مسألة فإن قلت هذا الكلام يشير إلى أن هذه العلوم لها ظواهر وأسرار وبعضها جلي يبدو أولا وبعضها خفي يتضح بالمجاهدة والرياضة والطلب الحثيث والفكر الصافي والسر الخالي عن كل شيء من أشغال الدنيا سوى المطلوب وهذا يكاد يكون مخالفا للشرع إذ ليس للشرع ظاهر وباطن وسر وعلن بل الظاهر والباطن والسر والعلن واحد فيه فاعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة وإنما ينكرها القاصرون الذي تلقفوا في أوائل الصبا شيئا وجمدوا عليه فلم يكن لهم ترق إلى شأو العلاء ومقامات العلماء والأولياء وذلك ظاهر من أدلة الشرع قال صلى الله عليه وسلم إن للقرآن ظاهرا وباطنا وحدا ومطلعا حديث إن للقرآن ظاهرا وباطنا الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود بنحوه وقال علي رضي الله عنه وأشار إلى صدره إن ههنا علوما جمة لو وجدت لها حملة وقال صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم حديث نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم الحديث تقدم في العلم وقال صلى الله عليه وسلم ما حدث أحد قوما بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم حديث ما حدث أحد قوما بحديث لم تبلغه عقولهم الحديث تقدم في العلم وقال الله تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وقالصلى الله عليه وسلم إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العالمون بالله تعالى حديث إن من العلم كهيئة المكنون الحديث تقدم في العلم الحديث إلى آخره كما أوردناه في كتاب العلم وقال صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا حديث لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا أخرجاه من حديث عائشة وأنس فليت شعري إن لم يكن ذلك سرا منع من إفشائه لقصور الأفهام عن إدراكه أو لمعنى آخر فلم لم يذكره لهم ولا شك أنهم كانوا يصدقونه لو ذكره لهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لو ذكرت تفسيره لرجمتموني وفي لفظ آخر لقلتم إنه كافر وقال أبو هريرة رضي الله عنه حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين أما أحدهما فبثثته وأما الآخر لو بثثته لقطع هذا الحلقوم وقال صلى الله عليه وسلم ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بسر وقر في صدره حديث ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام الحديث تقدم في العلم رضي الله عنه ولا شك في أن ذلك السر كان متعلقا بقواعد الدين غير خارج منها وما كان من قواعد الدين لم يكن خافيا بظواهره على غيره وقال سهل التستري رضي الله عنه للعالم ثلاثة علوم علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله وعلم هو بينه وبين الله تعالى لا يظهره لأحد وقال بعض العارفين إفشاء سر الربوبية كفر وقال بعضهم للربوبية سر لو أظهر لبطلت النبوة وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم وللعلماء بالله سر لو أظهروه لبطلت الأحكام وهذا القائل إن لم يرد بذلك بطلان النبوة في حق الضعفاء لقصور فهمهم فما ذكره ليس بحق بل الصحيح أنه لا تناقص فيه وأن الكامل من لا يطفي نور معرفته نور ورعه وملاك الورع النبوة مسألة فإن قلت هذه الآيات والأخبار يتطرق إليها تأويلات فبين لنا كيفية اختلاف الظاهر والباطن فإن الباطن إن كان مناقضا للظاهر ففيه إبطال الشرع وهو قول من قال إن الحقيقة خلاف الشريعة وهو كفر لأن الشريعة عبارة عن الظاهر والحقيقة عبارة عن الباطن وإن كان لا يناقضه ولا يخالفه فهو هو فيزول به الانقسام ولا يكون للشرع سر لا يفشى بل يكون الخفي والجلي واحد فاعلم أن هذا السؤال يحرك خطبا عظيما وينجر إلى علوم المكاشفة ويخرج عن مقصود علم المعاملة وهو غرض هذه الكتب فإن العقائد التي ذكرناها من أعمال القلوب وقد تعبدنا بتلقينها بالقبول والتصديق بعقد القلب عليها لا بأن يتوصل إلى أن ينكشف لنا حقائقها فإن ذلك لم يكلف به كافة الخلق ولولا أنه من الأعمال لما أوردناه في هذا الكتاب ولولا أنه عمل ظاهر القلب لا عمل باطنه لما أوردناه في الشطر الأول من الكتاب وإنما الكشف الحقيقي هو صفة سر القلب وباطنه ولكن إذا انجر الكلام إلى تحريك خيال في مناقضة الظاهر للباطن فلا بد من كلام وجيز في حله فمن قال إن الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يناقض الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان بل الأسرار التي يختص بها المقربون بدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها ويمتنعون عن إفشائها إليهم ترجع إلى خمسة أقسام القسم الأول أن يكون الشيء في نفسه دقيقا تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك وإخفاء سر الروح وكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيانه حديث كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيان الروح أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود حين سأله اليهود عن الروح قال فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا الحديث من هذا القسم فإن حقيقته بما تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه ولا تظنن أن ذلك لم يكن مكشوفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن من لم يعرف الروح فكأنه لم يعرف نفسه ومن لم يعرف نفسهفكيف يعرف ربه سبحانه ولا يبعد أن يكون ذلك مكشوفا لبعض الأولياء والعلماء وإن لم يكونوا أنبياء ولكنهم يتأدبون بآداب الشرع فيسكتون عما سكت عنه بل في صفات الله عز وجل من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إلى علمهم وقدرتهم إذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علما وقدرة فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء لم يفهموه بل لذة الجماع إذا ذكرت للصبي أو العنين لم يفهمها إلا بمناسبة إلى لذة المطعوم الذي يدركه ولا يكون ذلك فهما على التحقيق والمخالفة بين علم الله تعالى وقدرته وعلم الخلق وقدرتهم أكثر من المخالفة بين لذة الجماع والأكل وبالجملة فلا يدرك الإنسان إلا نفسه وصفات نفسه مما هي حاضرة له في الحال أو مما كانت له من قبل ثم بالمقايسة إليه يفهم ذلك لغيره ثم قد يصدق بأن بينهما تفاوتا في الشرف والكمال فليس في قوة البشر إلا أن يثبت لله تعالى ما هو ثابت لنفسه من الفعل والعلم والقدرة وغيرها من الصفات مع التصديق بأن ذلك أكمل وأشرف فيكون معظم تحريمه على صفات نفسه لا على ما اختص الرب تعالى به من الجلال ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك حديث لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك أخرجه مسلم من حديث عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك في سجوده وليس المعنى أني أعجز عن التعبير عما أدركته بل هو اعتراف بالقصور عن إدراك كنه جلاله ولذلك قال بعضهم ما عرف الله بالحقيقة سوى الله عز وجل وقال الصديق رضي الله عنه الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط ولنرجع إلى الغرض وهو أن أحد الأقسام ما تكل الأفهام عن إدراكه ومن جملته الروح ومن جملته بعض صفات الله تعالى ولعل الإشارة إلى مثله في قوله صلى الله عليه وسلم إن لله سبحانه وتعالى سبعين حجابا من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره حديث إن لله سبعين حجابا من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب العظمة من حديث أبي هريرة بين الله وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور وإسناده ضعيف وفيه أيضا من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل هل ترى ربك قال إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور وفي الأكبر للطبراني من حديث سهل بن سعد دون الله تعالى ألف حجاب من نور وظلمة ولمسلم من حديث أبي موسى حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ولابن ماجه شيء أدركه بصره القسم الثاني من الخفيات التي تمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه لكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرا ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش وكما تضر رياح الورد بالجعل وكيف يبعد هذا وقولنا إن الكفر والزنا والمعاصي والشرور كله بقضاء الله تعالى وإرادته ومشيئته حق في نفسه وقد أضر سماعه بقوله إذ أوهم ذلك عندهم أنه دلالة على السفه ونقيض الحكمة والرضا بالقبيح والظلم وقد ألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك وكذلك سر القدر لو أفشى لأوهم عند أكثر الخلق عجزا إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل ذلك الوهم عنهم ولو قال قائل إن القيامة لو ذكر ميقاتها وأنها بعد ألف سنة أو أكثر أو أقل لكان مفهوما ولكن لم يذكر لمصلحة العباد وخوفا من الضرر فلعل المدة إليها بعيدة فيطول الأمد وإذا استبطأت النفوس وقت العقاب قل اكتراثها ولعلها كانت قريبة في علم الله سبحانه ولو ذكرت لعظم الخوف وأعرض الناس عن الأعمال وخربت الدنيا فهذا المعنى لو اتجه وصح فيكون مثالا لهذا القسمالقسم الثالث أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحا لفهم ولم يكن فيه ضرر ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب وله مصلحة في أن يعظم وقت ذلك الأمر في قلبه كما لو قال قائل رأيت فلانا يقلد الدر في أعناق الخنازير فكنى به عن إفشاء العلم وبث الحكمة إلى غير أهلها فالمستمع قد يسبق إلى فهمه ظاهر اللفظ والمحقق إذا نظر وعلم أن ذلك الإنسان لم يكن معه در ولا كان في موضعه خنزير تفطن لدرك السر والباطن فيتفاوت الناس في ذلك ومن هذا قال الشاعر رجلان خياط وآخر حائك متقابلان على السماك الأعزل لا زال ينسج ذاك خرقة مدبر ويخيط صاحبه ثياب المقبل فإنه عبر عن سبب سماوي في الإقبال والإدبار برجلين صانعين وهذا النوع يرجع إلى التعبير عن المعنى بالصورة التي تتضمن عين المعنى أو مثله ومنه قوله صلى الله عليه وسلم إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة على النار حديث إن المسجد لينزوي من النخامة الحديث لم أجد له أصلا وأنت ترى أن ساحة المسجد لا تنقبض بالنخامة ومعناه أن روح المسجد كونه معظما ورمى النخامة فهو تحقير له فيضاد معنى المسجدية مضادة النار لاتصال أجزاء الجلدة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار حديث أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام الحديث أخرجاه من حديث أبي هريرة وذلك من حيث الصورة لم يكن قط ولا يكون ولكن من حيث المعنى هو كائن إذ رأس الحمار لم يكن بحقيقته لكونه وشكله بل بخاصيته وهي البلادة والحمق ومن رفع رأسه قبل الإمام فقد صار رأسه رأس حمار في معنى البلادة والحمق وهو المقصود دون الشكل الذي هو قالب المعنى إذ من غاية الحمق أن يجمع بين الاقتداء وبين التقدم فإنهما متناقضان وإنما يعرف أن هذا السر على خلاف الظاهر إما بدليل عقلي أو شرعي أما العقلي فأن يكون حمله على الظاهر غير ممكن كقوله صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن حديث قلب العبد بين أصبعين من أصابع الرحمن أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع فعلم أنها كناية عن القدرة التي هي سر الأصابع وروحها الخفي وكنى بالأصابع عن القدرة لأن ذلك أعظم وقعا في تفهم تمام الاقتدار ومن هذا القبيل في كنايته عن الاقتدار قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فإن ظاهره ممتنع إذ قوله كن إن كان خطابا للشيء قبل وجوده فهو محال إذا المعدوم لا يفهم الخطاب حتى يمثل وإن كان بعد الوجود فهو مستغن عن التكوين ولكن لما كانت هذه الكناية أوقع في النفوس في تفهيم غاية الاقتدار عدل إليها وأما المدرك بالشرع فهو أن يكون إجراؤه على الظاهر ممكنا ولكنه يروى أنه أريد به غير الظاهر كما ورد في تفسير قوله تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها الآية وأن معنى الماء ههنا هو القرآن ومعنى الأودية هي القلوب وأن بعضها احتملت شيئا كثيرا وبعضها قليلا وبعضها لم يحتمل والزبد مثل الكفر والنفاق فإنه وإن ظهر وطفا على رأس الماء فإنه لا يثبت والهداية التي تنفع الناس تمكث وفي هذا القسم تعمق جماعة فأولوا ما ورد في الآخرة من الميزان والصراط وغيرهما وهو بدعة إذ لم ينقل ذلك بطريق الرواية وإجراؤه على الظاهر غير محال فيجب إجراؤه على الظاهر القسم الرابع أن يدرك الإنسان الشيء جملة ثم يدركه تفصيلا بالتحقيق والذوق بأن يصير حالا ملابسا له فيتفاوت العلمان ويكون الأول كالقشر والثاني كاللباب والأول كالظاهر والثاني كالباطنوذلك كما يتمثل للإنسان في عينه شخص في الظلمة أو على البعد فيحصل له نوع علم فإذا رآه بالقرب أو بعد زوال الظلام أدرك تفرقة بينهما ولا يكون الأخير ضد الأول بل هو استكمال له فكذلك العلم والإيمان والتصديق إذ قد يصدق الإنسان بوجود العشق والمرض والموت قبل وقوعه ولكن تحققه به عند الوقوع أكمل من تحققه قبل الوقوع بل للإنسان في الشهوة والعشق وسائر الأحوال ثلاثة أحوال متفاوتة وإدراكات متباينة الأول تصديقه بوجوده قبل وقوعه والثاني عند وقوعه والثالث بعد تصرفه فإن تحققك بالجوع بعد زواله يخالف التحقيق قبل الزوال وكذلك من علوم الدين ما يصير ذوقا فيكمل فيكون ذلك كالباطن بالإضافة إلى ما قبل ذلك ففرق بين علم المريض بالصحة وبين علم الصحيح بها ففي هذه الأقسام الأربعة تتفاوت الخلق وليس في شيء منها باطن يناقض الظاهر بل يتممه ويكمله كما يتمم اللب القشر والسلام الخامس أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقا والبصير بالحقائق يدرك السر فيه وهذا كقول القائل قال الجدار للوتد لم تشقني قال سل من يدقني فلم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي فهذا تعبير عن لسان الحال بلسان المقال ومن هذا قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فالبليد يفتقر في فهمه إلى أن يقدر لهما حياة وعقلا وفهما للخطاب وخطابا هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض فتجيبان بحرف وصوت وتقولان أتينا طائعين والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال وأنه إنباء عن كونهما مسخرتين بالضرورة ومضطرتين إلى التسخير ومن هذا قوله تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده فالبليد يفتقر فيه إلى أن يقدر للجمادات حياة وعقلا ونطقا بصوت وحرف حتى يقول سبحان الله ليتحقق تسبيحه والبصير يعلم أنه ما أريد به نطق اللسان بل كونه مسبحا بوجوده ومقدسا بذاته وشاهدا بوحدانية الله سبحانه كما يقال وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد وكما يقال هذه الصنعة المحكمة تشهد لصانعها بحسن التدبير وكمال العلم لا بمعنى أنها تقول أشهد بالقول ولكن بالذات والحال وكذلك ما من شيء إلا وهو محتاج في نفسه إلى موجد يوجده ويبقيه ويديم أوصافه ويردده في أطواره فهو بحاجته يشهد لخالقه بالتقديس يدرك شهادته ذوو البصائر دون الجامدين على الظواهر ولذلك قال تعالى ولكن لا تفقهون تسبيحهم وأما القاصرون فلا يفقهون أصلا وأما المقربون والعلماء الراسخون فلا يفقهون كنهه وكماله إذ لكل شيء شهادات شتى على تقديس الله سبحانه وتسبيحه ويدرك كل واحد بقدر عقله وبصيرته وتعداد تلك الشهادات لا يليق بعلم المعاملة فهذا الفن أيضا مما يتفاوت أرباب الظواهر وأرباب البصائر في علمه وتظهر به مفارقة الباطن للظاهر وفي هذا المقام لأرباب المقامات إسراف واقتصاد فمن مسرف في رفع الظواهر انتهى إلى تغيير جميع الظواهر والبراهين أو أكثرها حتى حملوا قوله تعالى وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم وقوله تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وكذلك المخاطبات التي تجري من منكر ونكير وفي الميزان والصراط والحساب ومناظرات أهل النار وأهل الجنة في قولهم أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله زعموا أن ذلك كله بلسان الحال وغلا آخرون في حسم الباب منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه حتى منع تأويل قوله كن فيكون وزعموا أن ذلك خطاب بحرف وصوت يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كون مكون حتى سمعت بعض أصحابه يقول إنه حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ قولهصلى الله عليه وسلم الحجر الأسود يمين الله في أرضه حديث الحجر يمين الله في الأرض أخرجه الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمر وقوله صلى الله عليه وسلم قلب المؤمنين بين أصبعين من أصابع الرحمن وقوله صلى الله عليه وسلم إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمين حديث إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمين أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة في حديث قال فيه وأجد نفس ربكم من قبل اليمن ورجاله ثقات ومال إلى حسم الباب أرباب الظواهر والظن بأحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه علم أن الاستواء ليس هو الاستقرار والنزول ليس هو الانتقال ولكنه منع من التأويل حسما للباب ورعاية لصلاح الخلق فإنه إذا فتح الباب اتسع الخرق وخرج الأمر عن الضبط وجاوز حد الاقتصاد إذ حد ما جاوز الإقتصاد لا ينضبط فلا بأس بهذا الزجر ويشهد له سيرة السلف فإنهم كانوا يقولون أمروها كما جاءت حتى قال مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وذهبت طائفة إلى الاقتصاد وفتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله سبحانه وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها ومنعوا التأويل فيه وهم الأشعرية وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا من صفاته تعالى الرؤية وأولوا كونه سميعا بصيرا وأولوا المعراج وزعموا أنه لم يكن بالجسد وأولوا عذاب القبر والميزان والصراط وجملة من أحكام الآخرة ولكن أقروا بحشر الأجساد وبالجنة واشتمالها على المأكولات والمشمومات والمنكوحات والملاذ المحسوسة وبالنار واشتمالها على جسم محسوس يحرق بحرق الجلود ويذيب الشحوم ومن ترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة وردوه إلى آلام عقلية وروحانية ولذات عقلية وأنكروا حشر الأجساد وقالوا ببقاء النفوس وأنها تكون إما معذبة وإما منعمة بعذاب ونعيم لا يدرك بالحس وهؤلاء هم المسرفون وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم ولا يتعين له موقف والألبق بالمقتصر على السمع المجرد مقام أحمد بن حنبل رحمه الله والآن فكشف الغطاء عن حد الاقتصاد في هذه الأمور داخل في علم المكاشفة والقول فيه يطول فلا نخوض فيه والغرض بيان موافقة الباطن الظاهر وأنه غير مخالف له فقد انكشف بهذه الأقسام الخمسة أمور كثيرة وإذا رأينا أن نقتصر بكافة العوام على ترجمة العقيدة التي حررناها وأنهم لا يكلفون غير ذلك فى الدرجة الأولى إلا إذا كان خوف تشويش لشيوع البدعة فيرقى في الدرجة الثانية إلى عقيدة فيها لوامع من الأدلة مختصرة من غير تعمق فلنورد في هذا الكتاب تلك اللوامع ولنقتصر فيها على ما حررناه لأهل القدس وسميناه الرسالة القدسية في قواعد العقائد وهي مودعة في هذا الفصل الثالث من هذا الكتاب الفصل الثالث من كتاب قواعد العقائد في لوامع الأدلة للعقيدة التي ترجمناها بالقدس فنقول بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي ميز عصابة السنة بأنوار اليقين وآثر رهط الحق بالهداية إلى دعائم الدين وجنبهم زيغ الزائغين وضلال الملحدين ووفقهم للاقتداء بسيد المرسلين وسددهم للتأسي بصحبة الأكرمين ويسر لهم اقتفاء آثار السلفالصالحين حتى اعتصموا من مقتضيات العقول بالحبل المتين ومن سير الأولين وعقائدهم بالمنهج المبين فجمعوا بالقول بين نتائج العقول وقضايا الشرع المنقول وتحققوا أن النطق بما تعبدوا به من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله ليس له طائل ولا محصول إن لم تتحقق الإحاطة بما تدور عليه هذه الشهادة من الأقطاب والأصول وعرفوا أن كلمتي الشهادة على إيجازها تتضمن إثبات ذات الإله وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق الرسول وعلموا أن بناء الإيمان على هذه الأركان وهي أربعة ويدور كل ركن منها على عشرة أصول الركن الأول في معرفة ذات الله تعالى ومداره على عشرة أصول وهي العلم بوجود الله تعالى وقدمه وبقائه وأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض وأنه سبحانه ليس مختصا بجهة ولا مستقرا على مكان وأنه يرى وأنه واحد الركن الثاني في صفاته ويشتمل على عشرة أصول وهو العلم بكونه حيا عالما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما منزها عن حلول الحوادث وأنه قديم الكلام والعلم والإرادة الركن الثالث في أفعاله تعالى ومداره على عشرة أصول وهي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأنها مكتسبة للعباد وأنها مرادة لله تعالى وأنه متفضل بالخلق والاختراع وأن له تعالى تكليف ما لا يطاق وأن له إيلام البريء ولا يجب عليه رعاية الأصلح وأنه لا واجب إلا بالشرع وأن بعثة الأنبياء جائزة وأن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة مؤيدة بالمعجزة الركن الرابع في السمعيات ومداره على عشرة أصول وهي إثبات الحشر والنشر وسؤال منكر ونكير وعذاب القبر والميزان والصراط وخلق الجنة والنار وأحكام الإمامة وأن فضل الصحابة على حسب ترتيبهم وشروط الإمامة فأما الركن الأول من أركان الإيمان في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى وأن الله تعالى واحد ومداره على عشرة أصول الأصل الأول معرفة وجوده تعالى وأول ما يستضاء به من الأنوار ويسلك من طريق الاعتبار ما أرشد إليه القرآن فليس بعد بيان الله سبحانه بيان وقد قال تعالى ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا وقال تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون وقال تعالى ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا وقال تعالى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون إلى قوله للمقوين فليس يخفى على من معه أدنى مسكة من عقل إذا تأمل بأدنى فكرة مضمون هذه الآيات وأدار نظره على عجائب خلق الله في الأرض والسموات وبدائع فطرة الحيوان والنبات أن هذا الأمر العجيب والترتيب المحكم لا يستغني عن صانع يدبره وفاعل يحكمه ويقدره بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت تسخيره ومصرفة بمقتضى تدبيره ولذلك قال الله تعالى أفي الله شك فاطر السموات والأرض ولهذا بعث الأنبياء صلوات الله عليهم لدعوة الخلق إلى التوحيد ليقولوا لا إله إلا الله وما أمروا أن يقولوا لنا إله وللعالم إله فإن ذلك كان مجبولا في فطرة عقولهم من مبدأ نشؤهم وفي عنفوان شبابهم ولذلك قال عز وجل ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال تعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( فإذا في فطرة الإنسان وشواهد القرآن ما يغني عن إقامة البرهان ولكنا على سبيل الاستظهار والاقتداء بالعلماء النظار نقول من بدائه العقول أن الحادث لا يستغنى في حدوثه عن سبب يحدثه والعالم حادث فإذا لا يستغنى في حدوثه عن سبب أما قولنا إن الحادث لا يستغنى في حدوثه عن سبب فجلي فإن كل حادث مختص بوقت يجوز في العقل تقدير تقديمه وتأخيره فاختصاصه بوقته دون ما قبله وما بعده يفتقر بالضرورة إلى المخصص وأما قولنا العالم حادث فبرهانه أن أجسام العالم لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ففي هذا البرهان ثلاث دعاوى الأولى قولنا إن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهذه مدركة بالبديهة والاضطرار فلا يحتاج فيها إلى تأمل وافتكار فإن من عقل جسما لا ساكنا ولا متحركا كان لمتن الجهل راكبا وعن نهج العقل ناكبا الثانية قولنا إنهما حادثان ويدل على ذلك تعاقبهما ووجود البعض منهما بعد البعض وذلك مشاهد في جميع الأجسام ما شوهد منها وما لم يشاهد فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه فالطارىء منهما حادث لطريانه والسابق حادث لعدمه لأنه لو ثبت قدمه لاستحال عدمه على ما سيأتي بيانه وبرهانه في إثبات بقاء الصانع تعالى وتقدس الثالثة قولنا ما لايخلو عن الحوادث فهو حادث وبرهانه أنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها ولو لم تنقض تلك الحوادث بجملتها لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث الحاضر في الحال وانقضاء ما لا نهاية له محال ولأنه لو كان للفلك دورات لا نهاية لها لكان لا يخلو عددها عن أن تكون شفعا أو وترا أو شفعا ووترا جميعا أو لا شفعا ولا وترا ومحال أن يكون شفعا ووترا جميعا أو لا شفعا ولا وترا فإن ذلك جمع بين النفي والإثبات إذ في إثبات أحدهما نفي الآخر وفي نفي أحدهما إثبات الآخر ومحال أن يكون شفعا لأن الشفع يصير وترا بزيادة واحد وكيف يعوز ما لا نهاية له واحد ومحال أن يكون وترا إذ الوتر يصير شفعا بواحد فكيف يعوزها واحد مع أنه لا نهاية لأعدادها ومحال أن يكون لا شفعا ولا وترا إذ له نهاية فتحصل من هذا أن العالم لا يخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو إذن حادث وإذا ثبت حدوثه كان افتقاره إلى المحدث من المدركات بالضرورة الأصل الثاني العلم بأن الله تعالى قديم لم يزل أزلي ليس لوجوده أول بل هو أول كل شيء وقبل كل ميت وحي وبرهانه أنه لو كان حادثا ولم يكن قديما لافتقر هو أيضا إلى محدث وافتقر محدثه إلى محدث وتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية وما تسلسل لم يتحصل أو ينتهي إلى محدث قديم هو الأول وذلك هو المطلوب الذي سميناه صانع العالم ومبدئه وبارئه ومحدثه ومبدعه الأصل الثالث العلم بأنه تعالى مع كونه أزليا أبديا ليس لوجوده آخر فهو الأول والآخر والظاهر والباطن لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه وبرهانه أنه لو انعدم لكان لا يخلو إما أن ينعدم بنفسه أو بمعدم يضاده ولو جاز أن ينعدم شيء يتصور دوامه لجاز أن يوجد شيء يتصور عدمه بنفسه فكما يحتاج طريان الوجود إلى سبب فكذلك يحتاج طريان العدم إلى سبب وباطل أن ينعدم بمعدم يضاده لأن ذلك المعدم لو كان قديما لما تصور الوجود معه وقد ظهر بالأصلين السابقين وجوده وقدمه فكيف كان وجوده في القدم ومعه ضده فإن كان الضد المعدم حادثا كان محالا إذ ليس الحادث في مضادته للقديم حتى يقطع وجوده بأولى من القديم في مضادته للحادث حتى يدفع وجوده بل الدفع أهون من القطع والقديم أقوى وأولى من الحادث الأصل الرابع العلم بأنه تعالى ليس بجوهر يتحيز بل يتعالى ويتقدس عن مناسبة الحيز وبرهانه أن كل جوهر متحيز فهو مختص بحيزه ولا يخلو من أن يكون ساكنا فيه أو متحركا عنه فلا يخلو عن الحركة أو السكونوهما حادثان وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ولو تصور جوهر متحيز قديم لكان يعقل قدم جواهر العالم فإن سماه مسم جوهرا ولم يرد به المتحيز كان مخطئا من حيث اللفظ لا من حيث المعنى الأصل الخامس العلم بأنه تعالى ليس بجسم مؤلف من جواهر إذ الجسم عبارة عن المؤلف من الجواهر وإذا بطل كونه جوهرا مخصوصا بحيز بطل كونه جسما لأن كل جسم مختص بحيز ومركب من جوهر فالجوهر يستحيل خلوه عن الافتراق والاجتماع والحركة والسكون والهيئة والمقدار وهذه سمات الحدوث ولو جاز أن يعتقد أن صانع العالم جسم لجاز أن يعتقد الإلهية للشمس والقمر أو لشيء آخر من أقسام الأجسام فإن تجاسر متجاسر على تسميته تعالى جسما من غير إرادة التأليف من الجواهر كان ذلك غلطا في الاسم مع الإصابة في نفي معنى الجسم الأصل السادس العلم بأنه تعالى ليس بعرض قائم بجسم أو حال في محل لأن العرض ما يحل في الجسم فكل جسم فهو حادث لا محالة ويكون محدثه موجودا قبله فكيف يكون حالا في الجسم وقد كان موجودا في الأزل وحده وما معه غيره ثم أحدث الأجسام والأعراض بعده ولأنه عالم قادر مريد خالق كما سيأتي بيانه وهذه الأوصاف تستحيل على الأعراض بل لا تعقل إلا لموجود قائم بنفسه مستقل بذاته وقد تحصل من هذه الأصول أنه موجود قائم بنفسه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض وأن العالم كله جواهر وأعراض وأجسام فإذا لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء بل هو الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء وأنى يشبه المخلوق خالقه والمقدور مقدره والمصور مصوره والأجسام والأعراض كلها من خلقه وصنعه فاستحال القضاء عليها بمماثلته ومشابهته الأصل السابع العلم بأن الله تعالى منزه الذات عن الاختصاص بالجهات فإن الجهة إما فوق وإما أسفل وإما يمين وإما شمال أو قدام أو خلف وهذه الجهات هو الذي خلقها وأحدثها بواسطة خلق الإنسان إذ خلق له طرفين أحدهما يعتمد على الأرض ويسمى رجلا والآخر يقابله ويسمى رأسا فحدث اسم الفوق لما يلي جهة الرأس واسم السفل لما يلي جهة الرجل حتى إن النملة التي تدب منكسة تحت السقف تنقلب جهة الفوق في حقها تحتا وإن كان في حقنا فوقا وخلق للإنسان اليدين وإحداهما أقوى من الأخرى في الغالب فحدث اسم اليمين للأقوى واسم الشمال لما يقابله وتسمى الجهة التي تلي اليمين يمينا والأخرى شمالا وخلق له جانبين يبصر من أحدهما ويتحرك إليه فحدث اسم القدام للجهة التي يتقدم إليها بالحركة واسم الخلف لما يقابلها فالجهات حادثة بحدوث الإنسان ولو لم يخلق الإنسان بهذه الخلقة بل خلق مستديرا كالكرة لم يكن لهذه الجهات وجود البتة فكيف كان في الأزل مختصا بجهة والجهة حادثة وكيف صار مختصا بجهة بعد أن لم يكن له أبأن خلق العالم فوقه ويتعالى عن أن يكون له فوق إذ تعالى أن يكون له رأس والفوق عبارة عما يكون جهة الرأس أو خلق العالم تحته فتعالى عن أن يكون له تحت إذ تعالى عن أن يكون له رجل والتحت عبارة عما يلي جهة الرجل وكل ذلك مما يستحيل في العقل ولأن المعقول من كونه مختصا بجهة أنه مختص بحيز اختصاص الجواهر أو مختص بالجواهر اختصاص العرض وقد ظهر استحالة كونه جوهرا أو عرضا فاستحال كونه مختصا بالجهة وإن أريد بالجهة غير هذين المعنيين كان غلطا في الاسم مع المساعدة على المعنى ولأنه لو كان فوق العالم لكان محاذيا له وكل محاذ لجسم فإما أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر وكل ذلك تقدير محوج بالضرورة إلى مقدر ويتعالى عنه الخالق الواحد المدبر فأما رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء وفيه أيضا إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء تنبيها بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء فإنه تعالى فوق كل موجود بالقهر والاستيلاء الأصل )8 (الثامن العلم بأنه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله تعالى بالاستواء وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء وهو الذي أريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن ثم استوى إلى السماء وهي دخان وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء كما قال الشاعر قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل كما التأويل كما اضطر أهل الباطن إلى تأويل قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإحاطة والعلم وحمل قوله صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن على القدرة والقوة وحمل قوله صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود يمين الله في أرضه على التشريف والإكرام لأنه لو ترك على ظاهره للزم منه المحال فكذا الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه كون المتمكن جسما مماسا للعرش إما مثله أو أكبر منه أو أصغر وذلك محال وما يؤدي إلى المحال فهو محال الأصل التاسع العلم بأنه تعالى مع كونه منزها عن الصورة والمقدار مقدسا عن الجهات والأقطار مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة دار القرار لقوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ولا يرى في الدنيا تصديقا لقوله عز وجل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ولقوله تعالى في خطاب موسى عليه السلام لن تراني وليت شعري كيف عرف المعتزل من صفات رب الأرباب ما جهله موسى عليه السلام وكيف سأل موسى عليه السلام الرؤية مع كونها محالا ولعل الجهل بذوي البدع والأهواء من الجهلة الأغبياء أولى من الجهل بالأنبياء صلوات الله عليهم وأما وجه إجراء آية الرؤية على الظاهر فهو أنه غير مؤد إلى المحال فإن الرؤية نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم فإذا جاز تعلق العلم به وليس في جهة جاز تعلق الرؤية به وليس بجهة وكما يجوز أن يرى الله تعالى الخلق وليس في مقابلتهم جاز أن يراه الخلق من غير مقابلة وكما جاز أن يعلم من غير كيفية وصورة جاز أن يرى كذلك الأصل العاشر العلم بأن الله عز وجل واحد لا شريك له فرد لا ند له انفرد بالخلق والإبداع واستند بالإيجاد والاختراع لا مثل له يساهمه ويساويه ولا ضد له فينازعه ويناويه وبرهانه قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وبيانه أنه لو كانا اثنين وأراد أحدهما أمرا فالثاني إن كان مضطرا إلى مساعدته كان هذا الثاني مقهورا عاجزا ولم يكن إلها قادرا وإن كان قادرا على مخالفته ومدافعته كان الثاني قويا قاهرا والأول ضعيفا قاصرا ولم يكن إلها قادرا الركن الثاني العلم بصفات الله تعالى ومداره على عشرة أصول الأصل الأول العلم بأن صانع العالم قادر وأنه تعالى في قوله وهو على كل شيء قدير صادق لأن العالم محكم في صنعته مرتب في خلقته ومن رأى ثوبا من ديباج حسن النسج والتأليف متناسب التطريز والتطريف ثم توهم صدور نسجه عن ميت لا استطاعة له أو عن إنسان لا قدرة له كان منخلعا عن غريزة العقل ومنخرطا في سلك أهل الغباوة والجهل الأصل الثاني العلم بأنه تعالى عالم بجميع الموجودات ومحيط بكل المخلوقات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء صادق في قوله وهو بكل شيء عليم ومرشد إلى صدقه بقوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير أرشدك إلى الاستدلال بالخلق على العلم بأنك لا تستريب في دلالة الخلق اللطيف والصنع المزين بالترتيب ولو في الشيء الحقير الضعيف على علم الصانع بكيفية الترتيب والترصيف فما ذكره الله سبحانه هو المنتهى في الهداية والتعريف الأصل الثالث العلم بكونه عز وجل حيا فإن من ثبتعلمه وقدرته ثبت بالضرورة حياته ولو تصور قادر وعالم فاعل مدبر دون أن يكون حيا لجاز أن يشك في حياة الحيوانات عند ترددها في الحركات والسكنات بل في حياة أرباب الحرف والصناعات وذلك انغماس في غمرة الجهالات والضلالات الأصل الرابع العلم بكونه تعالى مريدا لأفعاله فلا موجود إلا وهو مستند إلى مشيئته وصادر عن إرادته فهو المبدىء المعيد والفعال لما يريد وكيف لا يكون مريدا وكل فعل صدر منه أمكن أن يصدر منه ضده وما لا ضد له أمكن أن يصدر منه ذلك بعينه قبله أو بعده والقدرة تناسب الضدين والوقتين مناسبة واحدة فلا بد من إرادة صارفة للقدرة إلى أحد المقدورين ولو أغنى العلم عن الإرادة في تخصيص المعلوم حتى يقال إنما وجد في الوقت الذي سبق بوجوده لجاز أن يغني عن القدرة حتى يقال وجد بغير قدرة لأنه سبق العلم بوجوده فيه الأصل الخامس العلم بأنه تعالى سميع بصير لا يعزب عن رؤيته هواجس الضمير وخفايا الوهم والتفكير ولا يشذ عن سمعه صوت دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء وكيف لا يكون سميعا بصيرا والسمع والبصر كمال لا محالة وليس بنقص فكيف يكون المخلوق أكمل من الخالق والمصنوع أسنى وأتم من الصانع وكيف تعتدل القسمة مهما وقع النقص في جهته والكمال في خلقه وصنعته أو كيف تستقيم حجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على أبيه إذ كان يعبد الأصنام جهلا وغيا فقال له لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ولو انقلب ذلك عليه في معبوده لأضحت حجته داحضة ودلالته ساقطة ولم يصدق قوله تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه وكما عقل كونه فاعلا بلا جارحة وعالما بلا قلب ودماغ فليعقل كونه بصيرا بلا حدقة وسميعا بلا أذن إذ لا فرق بينهما الأصل السادس أنه سبحانه وتعالى متكلم بكلام وهو وصف قائم بذاته ليس بصوت ولا حرف بل لا يشبه كلامه كلام غيره كما لا يشبه وجوده وجود غيره والكلام بالحقيقة كلام النفس وإنما الأصوات قطعت حروفا للدلالات كما يدل عليها تارة بالحركات والإشارات وكيف التبس هذا على طائفة من الأغبياء ولم يلتبس على جهلة الشعراء حيث قال قائلهم إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ومن لم يعقله عقله ولا نهاه نهاه عن أن يقول لساني حادث ولكن ما يحدث فيه بقدرتي الحادثة قديم فاقطع عن عقله طمعك وكف عن خطابه لسانك ومن لم يفهم أن القديم عبارة عما ليس قبله شيء وأن الباء قبل السين في قولك بسم الله فلا يكون السين المتأخر عن الباء قديما فنزه عن الالتفات إليه قلبك فلله سبحانه سر في إبعاد بعض العباد ومن يضلل الله فما له من هاد ومن استبعد أن يسمع موسى عليه السلام في الدنيا كلاما ليس بصوت ولا حرف فليستنكر أن يرى في الآخرة موجودا ليس بجسم ولا لون وإن عقل أن يرى ما ليس بلون ولا جسم ولا قدر ولا كمية وهو إلى الآن لم ير غيره فليعقل في حاسة السمع ما عقله في حاسة البصر وإن عقل على أن يكون له علم واحد هو علم بجميع الموجودات فليعقل صفة واحدة للذات هو كلام بجميع ما دل عليه من العبارات وإن عقل كون السموات السبع وكون الجنة والنار مكتوبة في ورقة صغيرة ومحفوظة في مقدار ذرة من القلب وأن كل ذلك مرئي في مقدار عدسة من الحدقة من غير أن تحل ذات السموات والأرض والجنة والنار في الحدقة والقلب والورقة فليعقل كون الكلام مقروءا بالألسنة محفوظا في القلوب مكتوبا في المصاحف من غير حلول ذات الكلام فيها إذ لو حلت بكتاب الله ذات الكلام في الورق لحل ذات الله تعالى بكتابة اسمه في الورق وحلت ذات النار بكتابة اسمها في الورق ولاحترق الأصل السابع أن الكلام القائم بنفسه قديم وكذا جميع صفاته إذ يستحيل أن يكون محلاللحوادث داخلا تحت التغير بل يجب للصفات من نعوت القدم ما يجب للذات فلا تعتريه التغيرات ولا تحله الحادثات بل لم يزل في قدمه موصوفا بمحامد الصفات ولا يزل في أبده كذلك منزها عن تغير الحالات لأن ما كان محل الحوادث لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وإنما ثبت نعت الحدوث للأجسام من حيث تعرضها للتغير وتقلب الأوصاف فكيف يكون خالقها مشاركا لها في قبول التغير وينبني على هذا أن كلامه قديم قائم بذاته وإنما الحادث هي الأصوات الدالة عليه وكما عقل قيام طلب التعلم وإرادته بذات الوالد للولد قبل أن يخلق ولده حتى إذا خلق ولده وعقل وخلق الله له علما متعلقا بما في قلب أبيه من الطلب صار مأمورا بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه ودام وجوده إلى وقت معرفة ولده له فليعقل قيام الطلب الذي دل عليه قوله عز وجل اخلع نعليك بذات الله ومصير موسى عليه السلام مخاطبا به بعد وجوده إذ خلقت له معرفة بذلك الطلب وسمع لذلك الكلام القديم الأصل الثامن أن علمه قديم فلم يزل عالما بذاته وصفاته وما يحدثه من مخلوقاته ومهما حدثت المخلوقات لم يحدث له علم بها بل حصلت مكشوفة له بالعلم الأزلي إذ لو خلق لنا علم به بقدوم زيد عند طلوع الشمس ودام ذلك العلم تقديرا حتى طلعت الشمس لكان قدوم زيد عند طلوع الشمس معلوما لنا بذلك العلم من غير تجدد علم آخر فهكذا ينبغي أن يفهم قدم علم الله تعالى الأصل التاسع أن إرادته قديمة وهي في القدم تعلقت بإحداث الحوادث في أوقاتها اللائقة بها على وفق سبق العلم الأزلي إذ لو كانت حادثة لصار محل الحوادث ولو حدثت في غير ذاته لم يكن هو مريدا لها كما لا تكون أنت متحركا بحركة ليست في ذاتك وكيفما قدرت فيفتقر حدوثها إلى إرادة أخرى وكذلك الإرادة الأخرى تفتقر إلى أخرى ويتسلسل الأمر إلى غير نهاية ولو جاز أن يحدث إرادة بغير إرادة لجاز أن يحدث العالم بغير إرادة الأصل العاشر أن الله تعالى عالم بعلم حي بحياة قادر بقدرة ومريد بإرادة ومتكلم بكلام وسميع بسمع وبصير ببصر وله هذه الأوصاف من هذه الصفات القديمة وقول القائل عالم بلا علم كقوله غني بلا مال وعلم بلا عالم وعالم بلا معلوم فإن العلم والمعلوم والعالم متلازمة كالقتل والمقتول والقاتل وكما لا يتصور قاتل بلا قتل ولا قتيل ولا يتصور قتيل بلا قاتل ولا قتل كذلك لا يتصور عالم بلا علم ولا علم بلا معلوم ولا معلوم بلا عالم بل هذه الثلاثة متلازمة في العقل لا ينفك بعض منها عن البعض فمن جوز انفكاك العالم عن العلم فليجوز انفكاكه عن المعلوم وانفكاك العلم عن العالم إذ لا فرق بين هذه الأوصاف الركن الثالث العلم بأفعال الله تعالى ومداره على عشرة أصول الأصل الأول العلم بأن كل حادث في العالم فهو فعله وخلقه واختراعه لا خالق له سواه ولا محدث له إلا إياه خلق الخلق وصنعهم وأوجد قدرتهم وحركتهم فجميع أفعال عباده مخلوقة له ومتعلقة بقدرته تصديقا له في قوله تعالى الله خالق كل شيء وفي قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون وفي قوله تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير أمر العباد بالتحرز في أقوالهم وأفعالهم وإسرارهم وإضمارهم لعلمه بموارد أفعالهم واستدل على العلم بالخلق وكيف لا يكون خالقا لفعل العبد وقدرته تامة لا قصور فيها وهي متعلقة بحركة أبدان العباد والحركات متماثلة وتعلق القدرة بها لذاتها فما الذي يقصر تعلقها عن بعض الحركات دون البعض مع تماثلها أو كيف يكون الحيوان مستبدا بالاختراع ويصدر من العنكبوت والنحل وسائر الحيوانات من لطائف الصناعات ما يتحير فيه عقول ذوي الألباب فكيف انفردت هي باختراعها دون رب الأرباب وهي غير عالمة بتفصيل ما يصدر منها من الاكتساب هيهات هيهات ذلت المخلوقات وتفرد بالملك والملكوتجبار الأرض والسموات الأصل الثاني أن انفراد الله سبحانه باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الاكتساب بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعا وخلق الاختيار والمختار جميعا فأما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب سبحانه وليست بكسب له وأما الحركة فخلق للرب تعالى ووصف للعبد وكسب له فإنها خلقت مقدورة بقدرة هي وصفه وكانت للحركة نسبة إلى صفة أخرى تسمى قدرة فتسمى باعتبار تلك النسبة كسبا وكيف تكون جبرا محضا وهو بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية أو كيف يكون خلقا للعبد وهو لا يحيط علما بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وأعدادها وإذا بطل الطرفان لم يبق إلا الاقتصاد في الاعتقاد وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا وبقدرة العبد على وجه آخر من التعليق يعبر عنه بالاكتساب وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع فقط إذ قدرة الله تعالى في الأزل قد كانت متعلقة بالعالم ولم يكن الاختراع حاصلا بها وهي عند الاختراع متعلقة به نوعا آخر من التعلق فيه يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصا بحصول المقدور بها الأصل الثالث أن فعل العبد وإن كان كسبا للعبد فلا يخرج عن كونه مرادا لله سبحانه فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر إلا بقضاء الله وقدرته وبإرادته ومشيئته ومنه الشر والخير والنفع والضر والإسلام والكفر والعرفان والنكر والفوز والخسران والغواية والرشد والطاعة والعصيان والشرك والإيمان لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يضل من يشاء ويهدي من يشاء لا يسئل عما يفعل وهم يسألون ويدل عليه من النقل قول الأمة قاطبة ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وقول الله عز وجل أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وقوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ويدل عليه من جهة العقل أن المعاصي والجرائم إن كان الله يكرهها ولا يريدها وإنما هي جارية على وفق إرادة العدو إبليس لعنه الله مع أنه عدو لله سبحانه والجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرادته تعالى فليت شعري كيف يستجيز المسلم أن يرد ملك الجبار ذي الجلال والإكرام إلى رتبة لو ردت إليها رياسة زعيم ضيعة لاستنكف منها إذ لو كان ما يستمر لعدو الزعيم في القرية أكثر مما يستقيم له لاستنكف من زعامته وتبرأ عن ولايته والمعصية هي الغالبة على الخلق وكل ذلك جار عند المبتدعة على خلاف إرادة الحق تعالى وهذا غاية الضعف والعجز تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين علوا كبيرا ثم مهما ظهر أن أفعال العباد مخلوقة لله صح أنها مرادة له فإن قيل فكيف ينهى عما يريد ويأمر بما لا يريد قلنا الأمر غير الإرادة ولذلك إذا ضرب السيد عبده فعاتبه السلطان عليه فاعتذر بتمرد عبده عليه فكذبه السلطان فأراد إظهار حجته بأن يأمر العبد بفعل ويخالفه بين يديه فقال له أسرج هذه الدابة بمشهد من السلطان فهو يأمره بما لايريد امتثاله ولو لم يكن آمرا لما كان عذره عند السلطان ممهدا ولو كان مريدا لامتثاله لكان مريدا لهلاك نفسه وهو محال الأصل الرابع أن الله تعالى متفضل بالخلق والاختراع ومتطول بتكليف العباد ولم يكن الخلق والتكليف واجبا عليه وقالت المعتزلة وجب عليه ذلك لما فيه من مصلحة العباد وهو محال إذ هو الموجب والآمر والناهي وكيف يتهدف لإيجاب أو يتعرض للزوم وخطاب والمراد بالواجب أحد أمرين إما الفعل الذي في تركه ضرر إما آجل كما يقال يجب على العبد أن يطيع الله حتى لا يعذبه في الآخرة بالنار أو ضرر عاجل كما يقال يجب على العطشان أن يشرب حتى لا يموت وإما أن يراد به الذي يؤدي عدمه إلى محال كما يقال وجود المعلوم واجب إذ عدمه يؤدي إلى محال وهو أن يصير العلم جهلا فإن أراد الخصم بأن الخلق واجب على الله بالمعنى الأولفقد عرضه للضرر وإن أراد به المعنى الثاني فهو مسلم إذ بعد سبق العلم لا بد من وجود المعلوم وإن أراد به معنى ثالثا فهو غير مفهوم وقوله يجب لمصلحة عباده كلام فاسد فإنه إذا لم يتضرر بترك مصلحة العباد لم يكن للوجوب في حقه معنى ثم إن مصلحة العباد في أن يخلقهم في الجنة فأما أن يخلقهم في دار البلايا ويعرضهم للخطايا ثم يهدفهم لخطر العقاب وهول العرض والحساب فما في ذلك غبطة عند ذوي الألباب الأصل الخامس أنه يجوز على الله سبحانه أن يكلف الخلق ما لا يطيقونه خلافا للمعتزلة ولو لم يجز ذلك لاستحال سؤال دفعه وقد سألوا ذلك فقالوا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ولأن الله تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أبا جهل لا يصدقه ثم أمره بأن يأمره بأن يصدقه في جميع أقواله وكان من جملة أقواله أنه لا يصدقه فكيف يصدقه في أنه لا يصدقه وهل هذا إلا محال وجوده الأصل السادس أن لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ومن غير ثواب لاحق خلافا للمعتزلة لأنه متصرف في ملكه ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو محال على الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكا حتى يكون تصرفه فيه ظلما ويدل على جواز ذلك وجوده فإن ذبح البهائم إيلام لها وما صب عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين لم يتقدمها جريمة فإن قيل إن الله تعالى يحشرها ويجازيها على قدر ما قاسته من الآلام ويجب ذلك على الله سبحانه فقول من زعم أنه يجب على الله إحياء كل نملة وطئت وكل بقة عركت حتى يثيبها على آلامها فقد خرج عن الشرع والعقل إذ يقال وصف الثواب والحشر بكونه واجبا عليه إن كان المراد به أن يتضرر بتركه فهو محال وإن أريد به غيره فقد سبق أنه غير مفهوم إذ خرج عن المعاني المذكورة للواجب الأصل السابع أنه تعالى يفعل بعباده ما يشاء فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده لما ذكرناه من أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بل لا يعقل في حقه الوجوب فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وليت شعري بما يجيب المعتزلي في قوله إن الأصلح واجب عليه في مسألة نعرضها عليه وهو أن يفرض مناظرة في الآخرة بين صبي وبين بالغ ماتا مسلمين فإن الله سبحانه يزيد في درجات البالغ ويفضله على الصبي لأنه تعب بالإيمان والطاعات بعد البلوغ ويجب عليه ذلك عند المعتزلي فلو قال الصبي يا رب لم رفعت منزلته علي فيقول لأنه بلغ واجتهد في الطاعات ويقول الصبي أنت أمتني في الصبا فكان يجب عليك أن تديم حياتي حتى أبلغ فأجتهد فقد عدلت عن العدل في التفضل عليه بطول العمر له دوني فلم فضلته فيقول الله تعالى لأني علمت أنك لو بلغت لأشركت أو عصيت فكان الأصلح لك الموت في الصبا هذا عذر المعتزلي عن الله عز وجل وعند هذا ينادى الكفار من دركات لظى ويقولون يا رب أما علمت أننا إذا بلغنا أشركنا فهلا أمتنا في الصبا فإنا رضينا بما دون منزلة الصبي المسلم فبماذا يجاب عن ذلك وهل يجب عند هذا إلا القطع بأن الأمور الإلهية تتعالى بحكم الجلال عن أن توزن بميزان أهل الاعتزال فإن قيل مهما قدر على رعاية الأصلح للعباد ثم سلط عليهم أسباب العذاب كان ذلك قبحا لا يليق بالحكمة قلنا القبح ما لا يوافق الغرض حتى إنه قد يكون الشيء قبيحا عند شخص حسنا عند غيره إذا وافق غرض أحدهما دون الآخر حتى يستقبح قتل الشخص أولياؤه ويستحسنه أعداؤه فإن أريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الباري سبحانه فهو محال إذ لا غرض له فلا يتصور منه قبح كما لا يتصور منه ظلم إذ لا يتصور منه التصرف في ملك الغير وإن أريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الغير فلم قلتم إن ذلك عليه محال وهل هذا إلا مجرد تشه يشهد بخلافه ما قد فرضناه من مخاصمة أهل النار ثم الحكيم معناه العالم بحقائق الأشياء القادر على إحكام فعلها على وفق إرادته وهذا من أين يوجب رعايةالأصلح وأما الحكيم منا يراعي الأصلح نظرا لنفسه ليستفيد به في الدنيا ثناء وفي الآخرة ثوابا أو يدفع به عن نفسه آفة وكل ذلك محال على الله سبحانه وتعالى الأصل الثامن أن معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل خلافا للمعتزلة لأن العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إما أن يوجبها لغير فائدة وهو محال فإن العقل لا يوجب العبث وإما أن يوجبها لفائدة وغرض وذلك لا يخلو إما أن يرجع إلى المعبود وذلك محال في حقه تعالى فإنه يتقدس عن الأغراض والفوائد بل الكفر والإيمان والطاعة والعصيان في حقه تعالى سيان وإما أن يرجع ذلك إلى عرض العبد وهو أيضا محال لأنه لا غرض له في الحال بل يتعب به وينصرف عن الشهوات لسببه وليس في المآل إلا الثواب والعقاب ومن أين يعلم أن الله تعالى يثيب على المعصية والطاعة ولا يعاقب عليهما مع أن الطاعة والمعصية في حقه يتساويان إذ ليس له إلى أحدهما ميل ولا به لأحدهما اختصاص وإنما عرف تمييز ذلك بالشرع ولقد زل من أخذ هذا من المقايسة بين الخالق والمخلوق حيث يفرق بين الشكر والكفران لما له من الارتياح والاهتزاز والتلذذ بأحدهما دون الآخر فإن قيل فإذا لم يجب النظر والمعرفة إلا بالشرع والشرع لا يستقر ما لم ينظر المكلف فيه فإذا قال المكلف للنبي إن العقل ليس يوجب على النظر والشرع لا يثبت عندي إلا بالنظر ولست أقدم على النظر أدى ذلك إلى إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا هذا يضاهي قول القائل للواقف في موضع من المواضع إن وراءك سبعا ضاريا فإن لم تبرح عن المكان قتلك وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي فيقول الواقف لا يثبت صدقك ما لم ألتفت ورائي ولا ألتفت ورائي ولا أنظر ما لم يثبت صدقك فيدل هذا على حماقة هذا القائل وتهدفه للهلاك ولا ضرر فيه على الهادي المرشد فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن وراءكم الموت ودونه السباع الضارية والنيران المحرقة إن لم تأخذوا منها حذركم وتعرفوا لي صدقي بالالتفات إلى معجزتي وإلا هلكتم فمن التفت عرف واحترز ونجا ومن لم يلتفت وأصر هلك وتردى ولا ضرر علي إن هلك الناس كلهم أجمعون وإنما علي البلاغ المبين فالشرع يعرف وجود السباع الضارية بعد الموت والعقل يفيد فهم كلامه والإحاطة بإمكان ما يقوله في المستقبل والطبع يستحث على الحذر من الضرر ومعنى كون الشيء واجبا أن في تركه ضررا ومعنى كون الشرع موجبا أنه معرف للضرر المتوقع فإن العقل لا يهدى إلى التهدف للضرر بعد الموت عند اتباع الشهوات فهذا معنى الشرع والعقل وتأثيرهما في تقدير الواجب ولولا خوف العقاب على ترك ما أمر به لم يكن الوجوب ثابتا إذ لا معنى للواجب إلا ما يرتبط بتركه ضرر في الآخرة الأصل التاسع أنه ليس يستحيل بعثة الأنبياء عليهم السلام خلافا للبراهمة حيث قالوا لا فائدة في بعثتهم إذ في العقل مندوحة عنهم لأن العقل لا يهدى إلى الأفعال المنجية في الآخرة كما لا يهدى إلى الأدوية المفيدة للصحة فحاجة الخلق إلى الأنبياء كحاجتهم إلى الأطباء ولكن يعرف صدق الطبيب بالتجربة ويعرف صدق النبي بالمعجزة الأصل العاشر أن الله سبحانه قد أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للنبيين وناسخا لما قبله من شرائع اليهود والنصارى والصابئين وأيده بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة كانشقاق القمر حديث انشقاق القمر متفق عليه من حديث أنس وابن مسعود وابن عباس وتسبيح الحصى حديث تسبيح الحصى أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث أبي ذر وقال صالح بن أبي الأخضر ليس بالحافظ والمحفوظ رواية رجل من بني سليم لم يسم عن أبي ذر وإنطاق العجماء حديث إنطاق العجماء أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد صحيح من حديث يعلى بن مرة في البعير الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أهله وقد ورد في كلام الضب والذئب والحمرة أحاديث رواها البيهقي في الدلائل وما تفجر من بين أصابعه من الماء ومن آياته الظاهرة التي تحدى بها مع كافة العرب القرآن العظيمفإنهم مع تمييزهم بالفصاحة والبلاغة تهدفوا لسبه ونهيه وقتله وإخراجه كما أخبر الله عز وجل عنهم ولم يقدروا على معارضته بمثل القرآن إذ لم يكن في قدرة البشر الجمع بين جزالة القرآن ونظمه هذا مع ما فيه من أخبار الأولين مع كونه أميا غير ممارس للكتب والإنباء عن الغيب في أمور تحقق صدقه فيها في الاستقبال كقوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين وكقوله ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ووجه دلالة المعجزة على صدق الرسل أن كل ما عجز عنه البشر لم يكن إلا فعلا لله تعالى فمهما كان مقرونا بتحدي النبي صلى الله عليه وسلم ينزل منزلة قوله صدقت وذلك مثل القائل بين يدي الملك المدعى على رعيته أنه رسول الملك إليهم فإنه مهما قال لذلك إن كنت صادقا فقم على سريرك ثلاثا واقعد على خلاف عادتك ففعل الملك ذلك حصل للحاضرين علم ضروري بأن ذلك نازل منزلة قوله صدقت الركن الرابع في السمعيات وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه ومداره على عشرة أصول:
الأصل الأول الحشر والنشر حديث الحشر والنشر أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس إنكم لمحشورون إلى الله الحديث ومن حديث سهل يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء الحديث ومن حديث عائشة يحشرون يوم القيامة حفاة ومن حديث أبي هريرة يحشر الناس على ثلاث طرائق الحديث ولابن ماجه من حديث ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أفتنا في بيت المقدس وأرض المحشر والمنشر الحديث وإسناده جيد وقد ورد بهما الشرع وهو حق والتصديق بهما واجب لأنه في العقل ممكن ومعناه الإعادة بعد الإفناء وذلك مقدور لله تعالى كابتداء الإنشاء قال الله تعالى قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فاستدل بالابتداء على الإعادة وقال عز وجل ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة والإعادة ابتداء ثان فهو ممكن كالابتداء الأول.
الأصل الثاني سؤال منكر ونكير حديث سؤال منكر ونكير تقدم وقد وردت به الأخبار فيجب التصديق به لأنه ممكن إذ ليس يستدعى إلا إعادة الحياة إلى جزء من الأجزاء الذي به فهم الخطاب وذلك ممكن في نفسه ولا يدفع ذلك ما يشاهد من سكون أجزاء الميت وعدم سماعنا للسؤال له فإن النائم ساكن بظاهره ويدرك بباطنه من الآلام واللذات ما يحس بتأثيره عند التنبه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع كلام جبريل عليه السلام ويشاهده ومن حوله لا يسمعونه ولا يرونه حديث كان يسمع كلام جبريل ويشاهده ومن حوله لا يسمعونه ولا يرونه أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام فقلت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى قلت وهذا هو الأغلب وإلا فقد رأى جبريل جماعة من الصحابة منهم عمر وابنه عبد الله وكعب بن مالك وغيرهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء فإذا لم يخلق لهم السمع والرؤية لم يدركوه.
الأصل الثالث عذاب القبر وقد ورد الشرع به قال الله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب واشتهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح الاستعاذة من عذاب القبر حديث استعاذ من عذاب القبر أخرجاه من حديث أبي هريرة وعائشة وقد تقدم وهو ممكن فيجب التصديق به ولا يمنع من التصديق به تفرق أجزاء الميت في بطون السباع وحواصل الطيور فإن المدرك لألم العذاب من الحيوان أجزاء مخصوصة يقدر الله تعالى على إعادة الإدراك إليها.
الأصل الرابع الميزان وهو حق قال الله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة وقال تعالى: )فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه الآية( ووجهها أن الله تعالى يحدث في صحائف الأعمال وزنا بحسب درجات الأعمال عند الله تعالى فتصير مقادير أعمال العباد معلومة للعباد حتى يظهر لهم العدل في العقاب أو الفضل في العفو وتضعيف الثواب.
الأصل الخامس الصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم أرق من الشعرة وأحد من السيف قال الله تعالى: )فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون( وهذا ممكن فيجب التصديق به فإن القادر على أن يطير الطير في الهواء قادر على أن يسير الإنسان على الصراط.
الأصل السادس أن الجنة والنار مخلوقتان قال الله تعالى: )وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين( فقوله تعالى أعدت دليل على أنها مخلوقة فيجب إجراؤه على الظاهر إذ لا استحالة فيه ولا يقال لا فائدة في خلقهما قبل يوم الجزاء لأن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
الأصل السابع أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ولم يكن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمام أصلا إذ لو كان لكان أولى بالظهور من نصبه آحاد الولاة والأمراء على الجنود في البلاد ولم يخف ذلك فكيف خفي هذا وإن ظهر فكيف اندرس حتى لم ينقل إلينا فلم يكن أبو بكر إماما إلا بالاختيار والبيعة وأما تقدير النص على غيره فهو نسبة للصحابة كلهم إلى مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرق الإجماع وذلك مما لا يستجرىء على اختراعه إلا الروافض واعتاد أهل السنة تزكية جميع الصحابة والثناء عليهم كما أثنى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما كان مبنيا على الاجتهاد لا منازعة من معاوية في الإمامة إذ ظن علي رضي الله عنه أن تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها فرأى التأخير أصوب وظن معاوية أن تأخير أمرهم مع عظم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمة ويعرض الدماء للسفك وقد قال أفاضل العلماء كل مجتهد مصيب وقال قائلون المصيب واحد ولم يذهب إلى تخطئة على ذو تحصيل أصلا.
الأصل الثامن أن فضل الصحابة رضي الله عنهم على ترتيبهم في الخلافة إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عز وجل وذلك لا يطلع عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ورد في الثناء على جميعهم آيات وأخبار كثيرة حديث الثناء على الصحابة تقدم وإنما يدرك دقائق الفضل والترتيب فيه المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال ودقائق التفصيل فلولا فهمهم ذلك لما رتبوا الأمر كذلك إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عن الحق صارف.
الأصل التاسع أن شرائط الإمامة بعد الإسلام والتكليف خمسة الذكورة والورع والعلم والكفاية ونسبة قريش لقوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش حديث الأئمة من قريش أخرجه النسائي من حديث أنس والحاكم من حديث ابن عمر وإذا اجتمع عدد من الموصوفين بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من أكثر الخلق والمخالف للأكثر باغ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق الأصل العاشر أنه لو تعذر وجود الورع والعلم فيمن يتصدى للإمامة وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق حكمنا بانعقاد إمامته لأنا بين أن نحرك فتنة بالاستبدال فما يلقى المسلمون فيه من الضرر يزيد على ما يفوتهم من نقصان هذه الشروط التي أثبتت لمزية المصلحة فلا يهدم أصل المصلحة شغفا بمزاياها كالذي يبني قصرا ويهدم مصرا وبين أن نحكم بخلو البلاد عن الإمام وبفساد الأقضية وذلك محال ونحن نقضي بنفوذ قضاء أهل البغي في بلادهم لمسيس حاجتهم فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند الحاجة والضرورة فهذه الأركان الأربعة الحاوية للأصول الأربعين هي قواعد العقائد فمن اعتقدها كان موافقا لأهل السنة ومباينا لرهط البدعة فالله تعالى يسددنا بتوفيقه ويهدينا إلى الحق وتحقيقه بمنه وسعة جوده وفضله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وكل عبد مصطفى.

الفصل الرابع من قواعد العقائد في الإيمان والإسلام وما بينهما من الاتصال وما يتطرق إليه من الزيادة والنقصان ووجه استثناء السلف فيه وفيه ثلاث مسائل مسألة اختلفوا في أن الإسلام هو الإيمان أو غيره وإن كان غيره فهل هو منفصل عنه يوجد دونه أو مرتبط به يلازمه فقيل إنهما شيء واحد وقيل إنهما شيئان لا يتواصلان وقيل إنهما شيئان ولكن يرتبط أحدهما بالآخر وقد أورد أبو طالب المكي في هذا كلاما شديد الاضطراب كثير التطويل فلنهجم الآن على التصريح بالحق من غير تعريج على نقل ما لا تحصيل له فنقول في هذا ثلاثة مباحث بحث عن موجب اللفظين في اللغة وبحث عن المراد بهما في إطلاق الشرع وبحث عن حكمهما في الدنيا والآخرة والبحث الأول لغوي والثاني تفسيري والثالث فقهي شرعي البحث الأول في موجب اللغة والحق فيه أن الإيمان عبارة عن التصديق قال الله تعالى وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق والإسلام عبارة عن التسليم والاستسلام بالإذعان والانقياد وترك التمرد والإباء والعناد وللتصديق محل خاص وهو القلب واللسان ترجمان وأما التسليم فإنه عام في القلب واللسان والجوارح فإن كل تصديق بالقلب فهو تسليم وترك الإباء والجحود وكذلك الاعتراف باللسان وكذلك الطاعة والانقياد بالجوارح فموجب اللغة أن الإسلام أعم والإيمان أخص فكان الإيمان عبارة عن أشرف أجزاء الإسلام فإذن كل تصديق تسليم وليس كل تسليم تصديقا البحث الثاني عن إطلاق الشرع والحق فيه أن الشرع قد ورد باستعمالهما على سبيل الترادف والتوارد وورد على سبيل الاختلاف وورد على سبيل التداخل أما الترادف ففيقوله تعالى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ولم يكن بالاتفاق إلا بيت واحد وقال تعالى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وقال صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس حديث بني الإسلام على خمس أخرجاه من حديث ابن عمر وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة عن الإيمان فأجاب بهذه الخمس حديث سئل عن الإيمان فأجاببهذه الخمس أخرجه البيهقي في الاعتقاد من حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس تدرون ما الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتصوموا رمضان وتحجوا البيت الحرام والحديث في الصحيحين لكن ليس فيه ذكر الحج وزاد وأن تؤتوا خمسا من المغنم وأما الاختلاف فقوله تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ومعناه استسلمنا في الظاهر فأراد بالإيمان ههنا التصديق بالقلب فقط وبالإسلام الاستسلام ظاهرا باللسان والجوارح وفي حديث جبرائيل عليه السلام لما سأله عن الإيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشره فقال فما الإسلام فأجاب بذكر الخصال الخمس حديث جبريل لما سأله عن الإيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته الحديث أخرجاه من حديث أبي هريرة ومسلم من حديث عمر دون ذكر الحساب فرواه البيهقي في البعث وقد تقدم فعبر بالإسلام عن تسليم الظاهر بالقول والعمل وفي الحديث عن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أعطى رجلا عطاء ولم يعط الآخر فقال له سعد يا رسول الله تركت فلانا لم تعطه وهو مؤمن فقال صلى الله عليه وسلم أو مسلم فأعاد عليه فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث سعد أعطى رجلا عطاء ولم يعط الآخر فقال له سعد يا رسول الله تركت فلانا لم تعطه وهو مؤمن فقال أو مسلم الحديث أخرجاه بنحوه وأما التداخل فما روي أيضا أنهسئل فقيل أي الأعمال أفضل فقال صلى الله عليه وسلم الإسلام فقال أي الإسلام أفضل فقال صلى الله عليه وسلم الإيمان حديث سئل أي الأعمال أفضل فقال الإسلام فقال أي الإسلام أفضل فقال الإيمان أخرجه أحمد والطبراني من حديث عمرو بن عنبسة بالشطر الأخير فقال يا رسول الله أي الإسلام أفضل قال الإيمان وإسناده صحيح وهذا دليل على الاختلاف وعلى التداخل وهو أوفق الاستعمالات في اللغة لأن الإيمان عمل من الأعمال وهو أفضلها والإسلام هو تسليم إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح وأفضلها الذي بالقلب وهو التصديق الذي يسمى إيمانا والاستعمال لهما على سبيل الاختلاف وعلى سبيل التداخل وعلى سبيل الترادف كله غير خارج عن طريق التجوز في اللغة أما الاختلاف فهو أن يجعل الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب فقط وهو موافق للغة والإسلام عبارة عن التسليم ظاهرا وهو أيضا موافق للغة فإن التسليم ببعض محال التسليم ينطلق عليه اسم التسليم فليس من شرط حصول الاسم عموم المعنى لكل محل يمكن أن يوجد المعنى فيه فإن من لمس غيره ببعض بدنه يسمى لامسا وإن لم يستغرق جميع بدنه فإطلاق اسم الإسلام على التسليم الظاهر عند عدم تسليم الباطن مطابق للسان وعلى هذا الوجه جرى قوله تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد أو مسلم لأنه فضل أحدهما على الآخر ويريد بالاختلاف تفاضل المسميين وأما التداخل فموافق أيضا للغة في خصوص الإيمان وهو أن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والقول والعمل جميعا والإيمان عبارة عن بعض ما دخل في الإسلام وهو التصديق بالقلب وهو الذي عنيناه بالتداخل وهو موافق للغة في خصوص الإيمان وعموم الإسلام للكل وعلى هذا خرج قوله الإيمان في جواب قول السائل أي الإسلام أفضل لأنه جعل الإيمان خصوصا من الإسلام فأدخله فيه وأما استعماله فيه على سبيل الترادف بأن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والظاهر جميعا فإن كل ذلك تسليم وكذا الإيمان ويكون التصرف في الإيمان على الخصوص بتعميمه وإدخال الظاهر في معناه وهو جائز لأن تسليم الظاهر بالقول والعمل ثمرة تصديق الباطن ونتيجته وقد يطلق اسم الشجر ويراد به الشجر مع ثمره على سبيل التسامح فيصير بهذا القدر من التعميم مرادفا لاسم الإسلام ومطابقا له فلا يزيد عليه ولا ينقص وعليه خرج قوله فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين البحث الثالث عن الحكم الشرعي والإسلام والإيمان حكمان أخروي ودنيوي أما الأخروي فهو الإخراج من النار ومنع التخليد إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان حديث يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان أخرجاه من حديث أبي سعيد الخدري في الشفاعة وفيه اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه الحديث ولهما من حديث أنس فيقال انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان لفظ البخاري منهما وله تعليقا من حديث أنس يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان وهو عندهما متصل بلفظ خير مكان إيمان وقد اختلفوا في أن هذا الحكم على ماذا يترتب وعبروا عنه بأن الإيمان ماذا هو فمن قائل إنه مجرد العقد ومن قائل يقول إنه عقد بالقلب وشهادة باللسان ومن قائل يزيد ثالثا وهو العمل بالأركان ونحن نكشف الغطاء عنه ونقول من جمع بين هذه الثلاثة فلا خلاف في أن مستقره الجنة وهذه درجة الدرجة الثانية أن يوجد اثنان وبعض الثالث وهو القول والعقد وبعض الأعمال ولكن ارتكب صاحبه كبيرة أو بعض الكبائر فعند هذا قالت المعتزلة خرج بهذا عن الإيمان ولم يدخل في الكفر بل اسمه فاسق وهو على منزلة بين المنزلتين وهو مخلد في النار وهذا باطل كما سنذكره الدرجة الثالثة أن يوجد التصديق بالقلب والشهادة باللسان دون الأعمال بالجوارح وقداختلفوا في حكمه فقال أبو طالب المكي العمل بالجوارح من الإيمان ولا يتم دونه وادعى الإجماع فيه واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه كقوله تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذ هذا يدل على أن العمل وراء الإيمان لا من نفس الإيمان وإلا فيكون العمل في حكم المعاد والعجب أنه ادعى الإجماع في هذا وهو مع ذلك ينقل قوله صلى الله عليه وسلم لا يكفر أحد إلا بعد جحوده لما أقر به حديث لا تكفروا أحدا إلا بجحود بما أقر به أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد لن يخرج أحد من الإيمان إلا بجحود ما دخل فيه وإسناده ضعيف وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر والقائل بهذا قائل بنفس مذهب المعتزلة إذ يقال له من صدق بقلبه وشهد بلسانه ومات في الحال فهل هو في الجنة فلا بد أن يقول نعم وفيه حكم بوجود الإيمان دون العمل فنزيد ونقول لو بقي حيا حتى دخل عليه وقت صلاة واحدة فتركها ثم مات أو زنى ثم مات فهل يخلد في النار فإن قال نعم فهو مراد المعتزلة وإن قال لا فهو تصريح بأن العمل ليس ركنا من نفس الإيمان ولا شرطا في وجوده ولا في استحقاق الجنة به وإن قال أردت به أن يعيش مدة طويلة ولا يصلي ولا يقدم على شيء من الأعمال الشرعية فنقول فما ضبط تلك المدة وما عدد تلك الطاعات التي بتركها يبطل الإيمان وما عدد الكبائر التي بارتكابها يبطل الإيمان وهذا لا يمكن التحكم بتقديره ولم يصر إليه صائر أصلا الدرجة الرابعة أن يوجد التصديق بالقلب قبل أن ينطق باللسان أو يشتغل بالأعمال ومات فهل نقول مات مؤمنا بينه وبين الله تعالى وهذا مما اختلف فيه ومن شرط القول لتمام الإيمان يقول هذا مات قبل الإيمان وهو فاسد إذ قال صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان وهذا قلبه طافح بالإيمان فكيف يخلد في النار ولم يشترط في حديث جبريل عليه السلام للإيمان إلا التصديق بالله تعالى وملائكته وكتبه واليوم الآخر كما سبق الدرجة الخامسة أن يصدق بالقلب ويساعده من العمر مهلة النطق بكلمتي الشهادة وعلم وجوبها ولكنه لم ينطق بها فيحتمل أن يجعل امتناعه عن النطق كامتناعه عن الصلاة ونقول هو مؤمن غير مخلد في النار والإيمان هو التصديق المحض واللسان ترجمان الإيمان فلا بد أن يكون الإيمان موجودا بتمامه قبل اللسان حتى يترجمه اللسان وهذا هو الأظهر إذ لا مستند إلا اتباع موجب الألفاظ ووضع اللسان أن الإيمان هو عبارة عن التصديق بالقلب وقد قال صلى الله عليه وسلم يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة ولا ينعدم الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق الواجب كما لا ينعدم بالسكوت عن الفعل الواجب وقال قائلون القول ركن إذ ليس كلمتا الشهادة إخبارا عن القلب بل هو إنشاء عقد آخر وابتداء شهادة والتزام والأول أظهر وقد غلا في هذا طائفة المرجئة فقالوا هذا لا يدخل النار أصلا وقالوا إن المؤمن وإن عصى فلا يدخل النار وسنبطل ذلك عليهم الدرجة السادسة أن يقول بلسانه لا إله إلا الله محمد رسول الله ولكن لم يصدق بقلبه فلا نشك في أن هذا في حكم الآخرة من الكفار وأنه مخلد في النار ولا نشك في أنه في حكم الدنيا للذي يتعلق بالأئمة والولاة من المسلمين لأن قلبه لا يطلع عليه وعلينا أن نظن به أنه ما قاله بلسانه إلا وهو منطو عليه في قلبه وإنما نشك في أمر ثالث وهو الحكم الدنيوي فيما بينه وبين الله تعالى وذلك بأن يموت له في الحال قريب مسلم ثم يصدق بعد ذلك بقلبه ثم يستفتى ويقول كنت غير مصدق بالقلب حالة الموت والميراث الآن في يدي فهل يحل لي بيني وبين الله تعالى أو نكح مسلمة ثم صدق بقلبه هل تلزمه إعادة النكاح هذا محل نظر فيحتمل أن يقال أحكام الدنيا منوطة بالقول الظاهر ظاهرا وباطنا ويحتمل أن يقال تناط بالظاهر في حق غيره لأن باطنه غير ظاهر لغيره وباطنه ظاهر له في نفسه بينه وبين الله تعالى والأظهر والعلم عند اللهتعالى أنه لا يحل له ذلك الميراث ويلزمه إعادة النكاح ولذلك كان حذيفة رضي الله عنه لا يحضر جنازة من يموت من المنافقين وعمر رضي الله عنه كان يراعي ذلك منه فلا يحضر إذا لم يحضر حذيفة رضي الله عنه والصلاة فعل ظاهر في الدنيا وإن كانت من العبادات والتوقي عن الحرام أيضا من جملة ما يجب لله كالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم طلب الحلال فريضة بعد فريضة وليس هذا مناقضا لقولنا إن الإرث حكم الإسلام وهو الاستسلام بل الاستسلام التام هو ما يشمل الظاهر والباطن وهذه مباحث فقهية ظنية تبنى على ظواهر الألفاظ والعمومات والأقيسة فلا ينبغي أن يظن القاصر في العلوم أن المطلوب فيه القطع من حيث جرت العادة بإيراده في فن الكلام الذي يطلب فيه القطع فما أفلح من نظر إلى العادات والمراسم في العلوم فإن قلت فما شبهة المعتزلة والمرجئة وما حجة بطلان قولهم فأقول شبهتهم عمومات القرآن أما المرجئة فقالوا لا يدخل المؤمن النار وإن أتى بكل المعاصي لقوله عز وجل فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ولقوله سبحانه وتعالى والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون الآية ولقوله تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها إلى قوله فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء فقوله كلما ألقي فيها فوج عام فينبغي أن يكون من ألقي في النار مكذبا ولقوله تعالى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وهذا حصر وإثبات ونفي ولقوله تعالى من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون فالإيمان رأس الحسنات ولقوله تعالى والله يحب المحسنين وقال تعالى إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ولا حجة لهم في ذلك فإنه حيث ذكر الإيمان في هذه الآيات أريد به الإيمان مع العمل إذ بينا أن الإيمان قد يطلق ويراد به الإسلام وهو الموافقة بالقلب والقول والعمل ودليل هذا التأويل أخبار كثيرة في معاقبة العاصين ومقادير العقاب وقوله صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فكيف يخرج إذا لم يدخل ومن القرآن قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والاستثناء بالمشيئة يدل على الانقسام وقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها وتخصيصه بالكفر تحكم وقوله تعالى ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وقال تعالى ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار فهذه العمومات في معارضة عموماتهم ولا بد من تسليط التخصص والتأويل على الجانبين لأن الأخبار مصرحة بأن العصاة يعذبون حديث تعذيب العصاة أخرجه البخاري من حديث أنس ليصيبن أقواما سنع من النار بذنوب أصابوها الحديث ويأتي في ذكر الموت عدة أحاديث بل قوله تعالى وإن منكم إلا واردها كالصريح في أن ذلك لا بد منه للكل إذ لا يخلو مؤمن عن ذنب يرتكبه وقوله تعالى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى أراد به من جماعة مخصوصين أو أراد بالأشقى شخصا معينا أيضا وقوله تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها أي فوج من الكفار وتخصيص العمومات قريب ومن هذه الآية وقع للأشعري وطائفة من المتكلمين إنكار صيغ العموم وأن هذه الألفاظ يتوقف فيها إلى ظهور قرينة تدل على معناها وأما المعتزلة فشبهتهم قوله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وقوله تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقوله تعالى وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم قال ثم ننجي الذين اتقوا وقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم وكل آية ذكر الله عز وجل العمل الصالح فيها مقرونا بالإيمان وقوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وهذه العمومات أيضا مخصوصة بدليل قوله تعالىويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فينبغي أن تبقى له مشيئة في مغفرة ما سوى الشرك وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وقوله تعالى إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا وقوله تعالى إن الله لا يضيع أجر المحسنين فكيف يضيع أجر أصل الإيمان وجميع الطاعات بمعصية واحدة وقوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا أي لإيمانه وقد ورد على مثل هذا السبب فإن قلت فقد مال الاختيار إلى أن الإيمان حاصل دون العمل وقد اشتهر عن السلف قولهم الإيمان عقد وقول وعمل فما معناه قلنا لا يبعد أن يعد العمل من الإيمان لأنه مكمل له ومتمم كما يقال الرأس واليدان من الإنسان ومعلوم أنه يخرج عن كونه إنسانا بعدم الرأس ولا يخرج عنه بكونه مقطوع اليد وكذلك يقال التسبيحات والتكبيرات من الصلاة وإن كانت لا تبطل بفقدها فالتصديق بالقلب من الإيمان كالرأس من وجود الإنسان إذ ينعدم بعدمه وبقية الطاعات كالأطراف بعضها أعلى من بعض وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن متفق عليه من حديث أبي هريرة والصحابة رضي الله عنهم ما اعتقدوا مذهب المعتزلة في الخروج عن الإيمان بالزنا ولكن معناه غير مؤمن حقا إيمانا تاما كاملا كما يقال للعاجز المقطوع الأطراف هذا ليس بإنسان أي ليس له الكمال الذي هو وراء حقيقة الإنسانية مسألة فإن قلت فقد اتفق السلف على أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فإذا كان التصديق هو الإيمان فلا يتصور فيه زيادة ولا نقصان فأقول السلف هم الشهود العدول وما لأحد عن قولهم عدول فما ذكروه حق وإنما الشأن في فهمه وفيه دليل على أن العمل ليس من أجزاء الإيمان وأركان وجوده بل هو مزيد عليه يزيد به والزائد موجود والناقص موجود والشيء لا يزيد بذاته فلا يجوز أن يقال الإنسان يزيد برأسه بل يقال يزيد بلحيته وسمنه ولا يجوز أن يقال الصلاة تزيد بالركوع والسجود بل تزيد بالآداب والسنن فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود ثم بعد الوجود يختلف حاله بالزيادة والنقصان فإن قلت فالإشكال قائم في أن التصديق كيف يزيد وينقص وهو خصلة واحدة فأقول إذا تركنا المداهنة ولم نكترث بتشغيب من تشغب وكشفنا الغطاء ارتفع الإشكال فنقول الإيمان اسم مشترك يطلق من ثلاثة أوجه الأول أنه أنه يطلق للتصديق بالقلب على سبيل الاعتقاد والتقليد من غير كشف وانشراح صدر وهو إيمان العوام بل إيمان الخلق كلهم إلا الخواص وهذا الاعتقاد عقدة عن القلب تارة تشتد وتقوى وتارة تضعف وتسترخي كالعقدة على الخيط مثلا ولا تستبعد هذا واعتبره باليهودي وصلابته في عقيدته التي لا يمكن نزوعه عنها بتخويف وتحذير ولا بتخييل ووعظ ولا تحقيق وبرهان وكذلك النصراني والمبتدعة وفيهم من يمكن تشكيكه بأدنى كلام ويمكن استنزاله عن اعتقاده بأدنى استمالة أو تخويف مع أنه غير شاك في عقده كالأول ولكنهما متفاوتان في شدة التصميم وهذا موجود في الاعتقاد الحق أيضا والعمل يؤثر في نماء هذا التصميم وزيادته كما يؤثر سقي الماء في نماء الأشجار ولذلك قال الله تعالى فزادتهم إيمانا وقال تعالى ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى في بعض الأخبار الإيمان يزيد وينقص حديث الإيمان يزيد وينقص أخرجه ابن عدي في الكامل وأبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أبي هريرة وقال ابن عدي باطل فيه محمد بن أحمد بن حرب الملحي يتعمد الكذب وهو عند ابن ماجه موقوف على أبي هريرة وابن عباس وأبي الدرداء وذلك بتأثير الطاعات في القلب وهذا لا يدركه إلا من راقب أحوال نفسه في أوقات المواظبة على العبادة والتجرد لها بحضور القلب مع أوقات الفتور وإدراك التفاوت في السكون إلى عقائد الإيمان في هذه الأحوال حتى يزيد عقده استعصاء على من يريد حله بالتشكيك بل من يعتقد في اليتيم معنى الرحمة إذا عمل بموجب اعتقاده فمسح رأسه وتلطف به أدركمن باطنه تأكيد الرحمة وتضاعفها بسبب العمل وكذلك معتقد التواضع إذا عمل بموجبه عملا مقبلا أو ساجدا لغيره أحس من قلبه بالتواضع عند إقدامه على الخدمة وهكذا جميع صفات القلب تصدر منها أعمال الجوارح ثم يعود أثر الأعمال عليها فيؤكدها ويزيدها وسيأتي هذا في ربع المنجيات والمهلكات عند بيان وجه تعلق الباطن بالظاهر والأعمال بالعقائد والقلوب فإن ذلك من جنس تعلق الملك بالملكوت وأعني بالملك عالم الشهادة المدرك بالحواس وبالملكوت عالم الغيب المدرك بنور البصيرة والقلب من عالم الملكوت والأعضاء وأعمالها من عالم الملك ولطف الارتباط ودقته بين العالمين انتهى إلى حد ظن بعض الناس اتحاد أحدهما بالآخر وظن آخرون أنه لا عالم إلا عالم الشهادة وهو هذه الأجسام المحسوسة ومن أدرك الأمرين وأدرك تعددهما ثم ارتباطهما عبر عنه فقال رق الزجاج ورقت الخمر وتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر ولنرجع إلى المقصود فإن هذا العلم خارج عن علم المعاملة ولكن بين العلمين أيضا اتصال وارتباط فلذلك ترى علوم المكاشفة تتسلق كل ساعة على علوم المعاملة إلى أن تنكشف عنها بالتكليف فهذا وجه زيادة الإيمان بالطاعة بموجب هذا الإطلاق ولهذا قال علي كرم الله وجهه إن الإيمان ليبدو لمعة بيضاء فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيض القلب كله وإن النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهك الحرمات نمت وزادت حتى يسود القلب كله فيطبع عليه فذلك هو الختم وتلا قوله تعالى كلا بل ران على قلوبهم الآية الإطلاق الثاني أن يراد به التصديق والعمل جميعا كما قال صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون بابا حديث الإيمان بضع وسبعون بابا وذكر بعد هذا فزاد فيه أدناها إماطة الأذى عن الطريق أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة الإيمان بضع وسبعون زاد مسلم في رواية وأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها فذكره ورواه بلفظ المصنف الترمذي وصححه وقال صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وإذا دخل العمل في مقتضى لفظ الإيمان لم تخف زيادته ونقصانه وهل يؤثر ذلك في زيادة الإيمان الذي هو مجرد التصديق هذا فيه نظر وقد أشرنا إلى أنه يؤثر فيه الإطلاق الثالث أن يراد به التصديق اليقيني على سبيل الكشف وانشراح الصدر والمشاهدة بنور البصيرة وهذا أبعد الأقسام عن قبول الزيادة ولكني أقول الأمر اليقيني الذي لا شك فيه تختلف طمأنينة النفس إليه فليس طمأنينة النفس إلى أن الاثنين أكثر من الواحد كطمأنينتها إلى أن العالم مصنوع حادث وإن كان لا شك في واحد منهما فإن اليقينيات تختلف في درجات الإيضاح ودرجات طمأنينة النفس إليها وقد تعرضنا لهذا في فصل اليقين من كتاب العلم في باب علامات علماء الآخرة فلا حاجة إلى الإعادة وقد ظهر في جميع الإطلاقات أن ما قالوه من زيادة الإيمان ونقصانه حق وكيف وفي الأخبار أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وفي بعض المواضع في خبر آخر مثقال دينار حديث يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار متفق عليه من حديث أبي سعيد وسيأتي ذكر الموت وما بعده فأي معنى لاختلاف مقاديره إن كان ما في القلب لا يتفاوت مسألة فإن قلت ما وجه قول السلف أنا مؤمن إن شاء الله والاستثناء شك والشك في الإيمان كفر وقد كانوا كلهم يمتنعون عن جزم الجواب بالإيمان ويحترزون عنه فقال سفيان الثوري رحمه الله من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين ومن قال أنا مؤمن حقا فهو بدعة فكيف يكون كاذبا وهو يعلم أنه مؤمن في نفسه ومن كان مؤمنا في نفسه كان مؤمنا عند الله كما أن من كان طويلا وسخيا في نفسه وعلم ذلك كان كذلك عند الله وكذا منكان مسرورا أو حزينا أو سميعا أو بصيرا ولو قيل للإنسان هل أنت حيوان لم يحسن أن يقول أنا حيوان إن شاء الله ولما قال سفيان ذلك قيل له فماذا نقول قال قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وأي فرق بين أن يقول آمنا بالله وما أنزل إلينا وبين أن يقول أنا مؤمن وقيل للحسن أمؤمن أنت فقال إن شاء الله فقيل له لم تستثني يا أبا سعيد في الإيمان فقال أخاف أن أقول نعم فيقول الله سبحانه كذبت يا حسن فتحق علي الكلمة وكان يقول ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني وقال اذهب لا قبلت لك عملا فأنا أعمل في غير معمل وقال إبراهيم بن أدهم إذا قيل لك أمؤمن أنت فقل لا إله إلا الله وقال مرة قل أنا لا أشك في الإيمان وسؤالك إياي بدعة وقيل لعلقمة أمؤمن أنت قال أرجو إن شاء الله وقال الثوري نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وما ندري ما نحن عند الله تعالى فما معنى هذه الاستثناءات فالجواب أن هذا الاستثناء صحيح وله أربعة أوجه وجهان مستندان إلى الشك لا في أصل الإيمان ولكن في خاتمته أو كماله ووجهان لا يستندان إلى الشك الوجه الأول الذي لا يستند إلى معارضة الشك الاحتراز من الجزم خيفة ما فيه من تزكية النفس قال الله تعالى فلا تزكوا أنفسكم وقال ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم وقال تعالى انظر كيف يفترون على الله الكذب وقيل لحكيم ما الصدق القبيح فقال ثناء المرء على نفسه والإيمان من أعلى صفات المجد والجزم تزكية مطلقة وصيغة الاستثناء كأنها ثقل من عرف التزكية كما يقال للإنسان أنت طبيب أو فقيه أو مفسر فيقول نعم إن شاء الله لا في معرض التشكيك ولكن لإخراج نفسه عن تزكية نفسه فالصيغة صيغة الترديد والتضعيف لنفس الخبر ومعناه التضعيف اللازم من لوازم الخبر وهو التزكية وبهذا التأويل لو سئل عن وصف ذم لم يحسن الاستثناء الوجه الثاني التأدب بذكر الله تعالى في كل حال وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله سبحانه فقد أدب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ثم لم يقتصر على ذلك فيما لا يشك فيه بل قال تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءؤسكم ومقصرين وكان الله سبحانه عالما بأنهم يدخلون لا محالة وأنه شاءه ولكن المقصود تعليمه ذلك فتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما كان يخبر عنه معلوما كان أو مشكوكا حتى قال صلى الله عليه وسلم لما دخل المقابر السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون حديث لما دخل المقابر قال السلام عليكم دار قوم مؤمنين الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة واللحوق بهم غير مشكوك فيه ولكن مقتضى الأدب ذكر الله تعالى وربط الأمور به وهذه الصيغة دالة عليه حتى صار بعرف الاستعمال عبارة عن إظهار الرغبة والتمني فإذا قيل لك إن فلانا يموت سريعا فتقول إن شاء الله فيفهم منه رغبتك لا تشككك وإذا قيل لك فلان سيزول مرضه ويصح فتقول إن شاء الله بمعنى الرغبة فقد صارت الكلمة معدولة عن معنى التشكيك إلى معنى الرغبة وكذلك العدول إلى معنى التأدب لذكر الله تعالى كيف كان الأمر الوجه الثالث مستنده الشك ومعناه أنا مؤمن حقا إن شاء الله إذ قال الله تعالى لقوم مخصوصين بأعيانهم أولئك هم المؤمنون حقا فانقسموا إلى قسمين ويرجع هذا إلى الشك في كمال الإيمان لا في أصله وكل إنسان شاك في كمال إيمانه وذلك ليس بكفر والشك في كمال الإيمان حق من وجهين أحدهما من حيث إن النفاق يزيل كمال الإيمان وهو خفي لا تتحقق البراءة منه والثاني أنه يكمل بأعمال الطاعات ولا يدري وجودها على الكمال أما العمل فقد قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون فيكونالشك في هذا الصدق وكذلك قال الله تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين فشرط عشرين وصفا كالوفاء بالعهد والصبر على الشدائد ثم قال تعالى أولئك الذين صدقوا وقد قال تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل الآية وقد قال تعالى هم درجات عند الله وقال صلى الله عليه وسلم الإيمان عريان ولباسه التقوى حديث الإيمان عريان تقدم في العلم الحديث وقال صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق فهذا ما يدل على ارتباط كمال الإيمان بالأعمال وأما ارتباطه بالبراءة عن النفاق والشرك الخفي فقوله صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإذا خاصم فجر حديث أربع من كن فيه فهو منافق الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو وفي بعض الروايات وإذا عاهد غدر وفي حديث أبي سعيد الخدري القلوب أربعة قلب أجرد وفيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء العذب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلب عليه حكم له بها حديث القلوب أربعة قلب أجرد الحديث أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه وفي لفظ آخر غلبت عليه ذهبت به وقال عليه السلام أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها حديث أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها أخرجه أحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر وفي حديث الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا حديث الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا أخرجه أبو يعلى وابن عدي وابن حبان في الضعفاء من حديث أبي بكر ولأحمد والطبراني نحوه من حديث أبي موسى وسيأتي في ذم الجاه والرياء وقال حذيفة رضي الله عنه كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقا إلى أن يموت وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات حديث حذيفة كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقا الحديث أخرجه أحمد بإسناد فيه جهالة وحديث حذيفة المنافقون اليوم أكثر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث أخرجه البخاري إلا أنه قال شر بدل أكثر وقال بعض العلماء أقرب الناس من النفاق من يرى أنه برىء من النفاق وقال حذيفة المنافقون اليوم أكثر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذ ذاك يخفونه وهم اليوم يظهرونه وهذا النفاق يضاد صدق الإيمان وكماله وهو خفي وأبعد الناس منه من يتخوفه وأقربهم منه من يرى أنه برىء منه فقد قيل للحسن البصري يقولون أن لا نفاق اليوم فقال يا أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطريق وقال هو أو غيره لو نبتت للمنافقين أذناب ما قدرنا أن نطأ على الأرض بأقدامنا وسمع ابن عمر رضي الله عنه رجلا يتعرض للحجاج فقال أرأيت لو كان حاضرا يسمع أكنت تتكلم فيه فقال لا فقال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث سمع ابن عمر رجلا يتعرض للحجاج فقال أرأيت لو كان حاضرا أكنت تتكلم فيه قال لا قال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والطبراني بنحوه وليس فيه ذكر الحجاج وقال صلى الله عليه وسلم من كان ذا لسانين في الدنيا جعله الله ذا لسانين في الآخرة وقال أيضا صلى الله عليه وسلم شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه وقيل للحسن إن قوما يقولون إنا لا نخاف النفاق فقال والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من تلاع الأرض ذهبا وقال الحسن إن من النفاق اختلاف اللسان والقلب والسر والعلانية والمدخل والمخرج وقال رجل لحذيفة رضي الله عنه إني أخاف أن أكون منافقا فقال لو كنت منافقا ما خفت النفاق إن المنافق قد أمن النفاق وقال ابن أبي مليكة أدركتثلاثين ومائة وفي رواية خمسين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخافون النفاق وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في جماعة من أصحابه فذكروا رجلا وأكثروا الثناء عليه فبيناهم كذلك إذ طلع عليهم الرجل ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء وقد علق نعله بيده وبين عينيه أثر السجود فقالوا يا رسول الله هذا هو الرجل الذي وصفناه فقال صلى الله عليه وسلم أرى على وجهه سفعة من الشيطان فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك فقال اللهم نعم حديث كان جالسا في جماعة من أصحابه فذكروا رجلا فأكثروا الثناء عليه فبينما هم كذلك إذ طلع رجل عليهم ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء الحديث أخرجه أحمد والبزار والدار قطني من حديث أنس فقال صلى الله عليه وسلم في دعائه اللهم إني أستغفرك لما علمت ولما لم أعلم فقيل له أتخاف يا رسول الله فقال وما يؤمنني والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء وقد قال سبحانه وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون حديث اللهم إني أستغفرك لما علمت وما لم أعلم الحديث أخرجه مسلم من حديث عائشة اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل ولأبي بكر بن الضحاك في الشمائل في حديث مرسل وشر ما أعلم وشر ما لا أعلم قيل في التفسير عملوا أعمالا ظنوا أنها حسنات فكانت في كفة السيئات وقال سرى السقطي لو أن إنسانا دخل بستانا فيه من جميع الأشجار عليها من جميع الطيور فخاطبه كل طير منها بلغة فقال السلام عليك يا ولي الله فسكنت نفسه إلى ذلك كان أسيرا في يديها فهذه الأخبار والآثار تعرفك خطر الأمر بسبب دقائق النفاق والشرك الخفي وأنه لا يؤمن منه حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة عن نفسه وأنه هل ذكر في المنافقين وقال أبو سليمان الداراني سمعت من بعض الأمراء شيئا فأردت أن أنكره فخفت أن يأمر بقتلي ولم أخف من الموت ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق عند خروج روحي فكففت وهذا من النفاق الذي يضاد حقيقة الإيمان وصدقه وكماله وصفاءه لا أصله فالنفاق نفاقان أحدهما يخرج من الدين ويلحق بالكافرين ويسلك في زمرة المخلدين في النار والثاني يفضي بصاحبه إلى النار مدة أو ينقص من درجات عليين ويحط من رتبة الصديقين وذلك مشكوك فيه ولذلك حسن الاستثناء فيه وأصل هذا النفاق تفاوت بين السر والعلانية والأمن من مكر الله والعجب وأمور أخر لا يخلو عنها إلا الصديقون الوجه الرابع وهو أيضا مستند إلى الشك وعند باب الحجرة لاخترت الموت على التوحيد عند باب الحجرة لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الدار وقال بعضهم لو عرفت واحدا بالتوحيد خمسين سنة ثم حال بيني وبينه سارية ومات لم أحكم أنه مات على التوحيد وفي الحديث من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل حديث من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل أخرجه الطبراني في الأوسط بالشطر الأخير منه من حديث ابن عمر وفيه ليث بن أبي سليم تقدم والشطر الأول روي من قول يحيى بن أبي كثير رواه الطبراني في الأصغر بلفظ من قال أنا في الجنة فهو في النار وسنده ضعيف وقيل في قوله تعالى وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا صدقا لمن مات على الإيمان وعدلا لمن مات على الشرك وقد قال تعالى ولله عاقبة الأمور فمهما كان الشك بهذه المثابة كان الاستثناء واجبا لأن الإيمان عبارة عما يفيد الجنة كما أن الصوم عبارة عما يبرىء الذمة وما فسد قبل الغروب لا يبرىء الذمة فيخرج عن كونه صوما فكذلك الإيمان بل لا يبعد أن يسأل عن الصوم الماضي الذي لا يشك فيه بعد الفراغ منه فيقال أصمت بالأمس فيقول نعم إن شاء الله تعالى إذ الصوم الحقيقي هو المقبول والمقبول غائب عنه لا يطلع عليه إلا الله تعالى فمن هذا حسن الاستثناء في جميع أعمال البر ويكون ذلك شكا في القبول إذ يمنع من القبول بعد جريان ظاهر شروط الصحة أسباب خفيفة لا يطلع عليها إلا رب الأرباب جل جلاله فيحسن الشك فيه فهذه وجوه حسن الاستثناء في الجواب عن الإيمان وهي آخر ما نختم به كتاب قواعد العقائد تم الكتاب بحمد الله تعالى و على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى.

كتاب العلم

بسم الله الرحمٰن الرحيم

كتاب العلم

وهو الكتاب الأول من ربع العبادات

كتاب العلم وفيه سبعة أبواب:

الباب الأول: في فضل العلم والتعليم والتعلم.

الباب الثاني: في فرض العين وفرض الكفاية من العلوم وبيان حد الفقه والكلام من علم الدين وبيان علم الآخرة وعلم الدنيا.

الباب الثالث: فيما تعده العامة من علوم الدين وليس منه وفيه بيان جنس العلم المذموم وقدره.

الباب الرابع: في آفات المناظرة وسبب اشتغال الناس بالخلاف والجدل.

الباب الخامس: في آداب المعلم والمتعلم.

الباب السادس: في آفات العلم والعلماء والعلامات الفارقة بين علماء الدنيا والآخرة.

الباب السابع: في العقل وفضله وأقسامه وما جاء فيه من الأخبار.

 

الباب الأول

في فضل العلم والتعليم والتعلم وشواهده من النقل والعقل

فضيلة العلم

شواهدها من القرآن قوله عز وجل: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط﴾ (آل عمران 3: 18) فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم وناهيك بهذا شرفا وفضلا وجلاء ونبلا وقال الله تعالى: ﴿يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ (المجادلة: 11) قال ابن عباس رضي الله عنهما: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام. وقال عز وجل: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ وقال تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ وقال تعالى: ﴿قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب﴾ وقال تعالى: ﴿قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به﴾ تنبيها على أنه اقتدر بقوة العلم. وقال عز وجل: ﴿وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا﴾ بين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم. وقال تعالى: ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون﴾ وقال تعالى: ﴿ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ رد حكمه في الوقائع إلى استنباطهم وألحق رتبتهم برتبة الأنبياء في كشف حكم الله. وقيل في قوله تعالى: ﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم﴾ يعني العلم ﴿وريشا﴾ يعني اليقين ﴿ولباس التقوى﴾ يعني الحياء. وقال عز وجل: ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم﴾ وقال تعالى: ﴿فلنقصن عليهم بعلم﴾ وقال عز وجل: ﴿بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم﴾ وقال تعالى: ﴿خلق الإنسان¤ علمه البيان﴾ وإنما ذكر ذلك في معرض الامتنان.

وأما الأخبار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده)[1] وقال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)[2] ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة. وقال صلى الله عليه وسلم: (يستغفر للعالم ما في السموات والأرض)[3] وأي منصب يزيد على منصب من تشتغل ملائكة السموات والأرض بالاستغفار له. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الحكمة تزيد الشريف شرفا وترفع المملوك حتى يدرك مدارك الملوك)[4] وقد نبه بهذا على ثمراته في الدنيا ومعلوم أن الآخرة خير وأبقى. وقال صلى الله عليه وسلم: (خصلتان لا يكونان في منافق حسن سمت وفقه في الدين)[5] ولا تشكن في الحديث لنفاق بعض فقهاء الزمان فإنه ما أراد به الفقه الذي ظننته وسيأتي معنى الفقه وأدنى درجات الفقيه أن يعلم أن الآخرة خير من الدنيا وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه برىء بها من النفاق والرياء. وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الناس المؤمن العالم الذي إن احتيج إليه نفع وإن استغنى عنه أغنى نفسه)[6] وقال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وثمرته العلم)[7]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل وأما أهل الجهاد فجاهدوا بأسيافهم على ما جاءت به الرسل)[8]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لموت قبيلة أيسر من موت عالم)[9]. وقال عليه الصلاة والسلام: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)[10].

وقال صلى الله عليه وسلم: (يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء)[11]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من حفظ على أمتي أربعين حديثا من السنة حتى يؤديها إليهم كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة)[12]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من حمل من أمتي أربعين حديثا لقي الله عز وجل يوم القيامة فقيها عالما)[13]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من تفقه في دين الله عز وجل كفاه الله تعالى ما أهمه ورزقه من حيث لا يحتسب)[14]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم)[15]. وقال صلى الله عليه وسلم: (العالم أمين الله سبحانه في الأرض)[16]. وقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس الأمراء والفقهاء)[17]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم)[18]. وقال صلى الله عليه وسلم: (في تفضيل العلم على العبادة والشهادة فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي)[19]، فانظر كيف جعل العلم مقارنا لدرجة النبوة وكيف حط رتبة العمل المجرد عن العلم وإن كان العابد لا يخلو عن علم بالعبادة التي يواظب عليها ولولاه لم تكن عبادة. وقال صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)[20]. وقال صلى الله عليه وسلم: (يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء)[21]، فأعظم بمرتبة هي تلو النبوة وفوق الشهادة مع ما ورد في فضل الشهادة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما عبد الله تعالى بشيء أفضل من فقه في الدين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه)[22].

وقال صلى الله عليه وسلم: (خير دينكم أيسره وخير العبادة الفقه)[23]. وقال صلى الله عليه وسلم: (فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد بسبعين درجة)[24]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه العمل فيه خير من العلم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليل معطوه كثير سائلوه العلم فيه خير من العمل)[25]. وقال صلى الله عليه وسلم: (بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة)[26]. وقيل: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ فقال: (العلم بالله عز وجل) فقيل: أي العلم تريد؟ قال صلى الله عليه وسلم: (العلم بالله سبحانه) فقيل له: نسأل عن العمل وتجيب عن العلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن قليل العمل ينفع مع العلم بالله، وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل بالله)[27]. وقال صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله سبحانه العباد يوم القيامة ثم يبعث العلماء ثم يقول: يا معشر العلماء، إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم)[28]. نسأل الله حسن الخاتمة.

وأما الآثار فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل: يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق، وقال علي أيضا رضي الله عنه: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه، وقال رضي لله عنه نظماً:

ما الفخرُ إلا لأهلِ العِلْم إنَّهـــم على الهدى لمن استهدى أدلاَّءُ

وقَدْرُ كلِّ امرىءٍ ما كان يُحْـسِنُه    والجَاهِلُون لأهْل العلم أعَداءُ

ففُزْ بعلمٍ تَعِشْ حياً به أبــــداً النَّاسَ موتى وأهلُ العِلْمِ أحْياءُ

وقال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خُيِّر سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.

وسئل ابن المبارك: من الناس؟ فقال: العلماء قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قيل: فمن السفلة؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين ولم يجعل غير العالم من الناس لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم؛ فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطنا منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد[29] منه، بل لم يخلق إلا للعلم. وقال بعض العلماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم، وأي شيء فاته من أدرك العلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي خيرا منه فقد حقر ما عظم الله تعالى)[30].

وقال فتح الموصلي رحمه الله: أليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت؟ قالوا: بلى، قال: كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت. ولقد صدق فإن غذاء القلب العلم والحكمة وبهما حياته، كما أن غذاء الجسد الطعام، ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم ولكنه لا يشعر به؛ إذ حب الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه؛ كما أن غلبة الخوف قد تبطل ألم الجراح في الحال وإن كان واقعا[31]؛ فإذا حط الموت عنه أعباء الدنيا أحسَّ بهلاكه وتحسر تحسرا عظيما ثم لا ينفعه وذلك كإحساس الآمن خوفه والمفيق من سكره بما أصابه من الجراحات في حالة السكر أو الخوف، فنعوذ بالله من يوم كشف الغطاء فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا[32].

وقال الحسن رحمه الله: يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالعلم قبل أن يرفع ورفعه موت رواته، فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، فإن أحدا لم يولد عالما وإنما العلم بالتعلم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها. وكذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وأحمد بن حنبل رحمه الله. وقال الحسن في قوله تعالى: ﴿ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة﴾ (سورة البقرة: الآية 201. سورة التوبة: الآية 122) إن الحسنة في الدنيا هي العلم والعبادة وفي الآخرة هي الجنة وقيل لبعض الحكماء أي الأشياء تقتني قال الأشياء التي إذا غرقت سفينتك سبحت معك يعني العلم وقيل أراد بغرق السفينة هلاك بدنه بالموت وقال بعضهم من اتخذ الحكمة لجاما اتخذه الناس إماما ومن عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار.

وقال الشافعي رحمة الله عليه من شرف العلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن وقال عمر رضي الله عنه يا أيها الناس عليكم بالعلم فإن لله سبحانه رداء يحبه فمن طلب بابا من العلم رداه الله عز وجل بردائه فإن أذنب ذنبا استعتبه ثلاث مرات لئلا يسلبه رداءه ذلك وإن تطاول به ذلك الذنب حتى يموت وقال الأحنف رحمه الله كاد العلماء أن يكونوا أربابا وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل مصيره وقال سالم بن أبي الجعد اشتراني مولاي بثلثمائة درهم وأعتقني فقلت بأي شيء أحترف فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائرا فلم آذن له.

وقال الزبير بن أبي بكر كتب إلي أبي بالعراق عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالا وإن استغنيت كان لك جمالا وحكى ذلك في وصايا لقمان لابنه قال يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله سبحانه يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء. وقال بعض الحكماء إذا مات العالم بكاه الحوت في الماء والطير في الهواء ويفقد وجهه ولا ينسى ذكره. وقال الزهري رحمه الله العلم ذكر ولا تحبه إلا ذكران الرجال.

فضيلة التعلم

أما الآيات فقوله تعالى: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين﴾ (سورة التوبة: الآية 122) وقوله عز وجل ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ (سورة النحل: الآية 43، وسورة الأنبياء: الآية 7)

وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة) [33]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع) [34]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لأن تغدو فتتعلم بابا من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة)[35]. وقال صلى الله عليه وسلم: (باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها)[36]. وقال صلى الله عليه وسلم: (اطلبوا العلم ولو بالصين)[37]. وقال صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وقال صلى الله عليه وسلم: (العلم خزائن مفاتيحها السؤال ألا فاسألوا فإنه يؤجر فيه أربعة السائل والعالم والمستمع والمحب لهم)[38]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله ولا للعالم أن يسكت على علمه)[39]. وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: (حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف ركعة وعيادة ألف مريض وشهود ألف جنازة) فقيل: يا رسول الله، ومن قراءة القرآن؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (وهل ينفع القرآن إلا بالعلم)[40]. وقال عليه الصلاة والسلام: (من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة)[41].

وأما الآثار؛ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ذللت طالبا فعززت مطلوبا. وكذلك قال ابن أبي مليكة رحمه الله: ما رأيت مثل ابن عباس، إذا رأيته رأيت أحسن الناس وجها، وإذا تكلم فأعرب الناس لساناً، وإذا أفتى فأكثر الناس علماً. وقال ابن المبارك رحمه الله: عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة؟ وقال بعض الحكماء: إني لا أرحم رجالا كرحمتي لأحد رجلين: رجل يطلب العلم ولا يفهم، ورجل يفهم العلم ولا يطلبه.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة. وقال أيضاً: كن عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرابع فتهلك. وقال عطاء: مجلس علم يكفر سبعين مجلسا من مجالس اللهو. وقال عمر رضي الله عنه: موت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه. وقال الشافعي رضي الله عنه: طلب العلم أفضل من النافلة. وقال ابن عبد الحكم رحمه الله: كنت عند مالك أقرأ عليه العلم فدخل الظهر فجمعت الكتب لأصلي، فقال: يا هذا ما الذي قمت إليه بأفضل مما كنت فيه إذا صحت النية. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من رأى أن الغدو إلى طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله.

فضيلة التعليم

أما الآيات: فقوله عز وجل: ﴿ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ ( سورة التوبة: الآية 122) والمراد هو التعليم والإرشاد وقوله تعالى: ﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه﴾ ( سورة آل عمران: الآية 187) وهو إيجاب للتعليم وقوله تعالى: ﴿وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون﴾ ( سورة البقرة: الآية 146) وهو تحريم للكتمان كما قال تعالى في الشهادة: ﴿ومن يكتمها فإنه آثم قلبه﴾ ( سورة البقرة: الآية 283) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما آتى الله عالما علما إلا وأخذ عليه من الميثاق ما أخذ على النبيين أن يبينوه للناس ولا يكتموه)[42]. وقال تعالى: ﴿ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا﴾ ( سورة فصلت: الآية 33) وقال تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ ( سورة النحل: الآية 125) وقال تعالى: ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾( سورة البقرة: الآية 129و الآية:151، وسورة آل عمران، الآية:164 وسورة الجمعة، الآية:2.).

وأما الأخبار: فقوله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها)[43]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من تعلم بابا من العلم ليعلم الناس أعطي ثواب سبعين صديقا)[44]. وقال عيسى صلى الله عليه وسلم: (من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السموات). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة يقول الله سبحانه للعابدين والمجاهدين ادخلوا الجنة فيقول العلماء بفضل علمنا تعبدوا وجاهدوا فيقول الله عز وجل أنتم عندي كبعض ملائكتي اشفعوا تشفعوا فيشفعون ثم يدخلون الجنة)[45]، وهذا إنما يكون بالعلم المتعدي بالتعليم لا العلم اللازم الذي لا يتعدى. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعا من الناس بعد أن يؤتيهم إياه ولكن يذهب بذهاب العلماء فكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى إذا لم يبق إلا رؤساء جهالا إن سئلوا أفتوا بغير علم فيضلون ويضلون)[46]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من علم علما فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)[47]. وقال صلى الله عليه وسلم: (نعم العطية ونعم الهدية كلمة حكمة تسمعها فتطوى عليها ثم تحملها إلى أخ لك مسلم تعلمه إياها تعدل عبادة سنة)[48]. وقال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله سبحانه وما والاه أو معلما أو متعلما)[49]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله سبحانه وملائكته وأهل سمواته وأرضه حتى النملة في جحرها حتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير)[50]. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن بّلغه فبلَّغه)[51]. وقال صلى الله عليه وسلم: (كلمة من الخير يسمعها المؤمن فيعلمها ويعمل بها خير له من عبادة سنة)[52]. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه والثاني يعلمون الناس فقال: (أما هؤلاء فيسألون الله تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم وأما هؤلاء فيعلمون الناس وإنما بعثت معلما ثم عدل إليهم وجلس معهم)[53]. وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله عز وجل بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ)[54]، فالأول ذكره مثلا للمنتفع بعلمه والثاني ذكره مثلا للنافع والثالث للمحروم منهما. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به)[55]. وقال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله)[56]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله عز وجل حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير)[57]. وقال صلى الله عليه وسلم: (على خلفائي رحمة الله قيل ومن خلفاؤك قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله)[58].

وأما الآثار: فقد قال عمر رضي الله عنه من حدث حديثا فعمل به فله مثل أجر من عمل ذلك العمل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر. وقال بعض العلماء العالم يدخل فيما بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل. وروى أن سفيان الثوري رحمه الله قدم عسقلان فمكث لا يسأله إنسان فقال اكروا لي لأخرج من هذا البلد هذا بلد يموت فيه العلم وإنما قال ذلك حرصا على فضيلة التعليم واستبقاء العلم به. وقال عطاء رضي الله عنه دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي فقلت ما يبكيك قال ليس أحد يسألني عن شيء وقال بعضهم العلماء سرج الأزمنة كل واحد مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره. وقال الحسن رحمه الله لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم أي أنهم بالتعليم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية. وقال عكرمة إن لهذا العلم ثمنا قيل وما هو قال أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيعه.

وقال يحيى بن معاذ العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم قيل وكيف ذلك قال لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة وقيل أول العلم الصمت ثم الاستماع ثم الحفظ ثم العمل ثم نشره وقيل علم علمك من يجهل وتعلم ممن يعلم ما تجهل فإنك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت وحفظت ما علمت. وقال معاذ بن جبل في التعليم والتعلم ورأيته أيضا مرفوعا (تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة والدليل على الدين والمصبر على السراء والضراء والوزير عند الأخلاء والقريب عند الغرباء ومنار سبيل الجنة يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة يقتدى بهم أدلة في الخير تقتص آثارهم وترمق أفعالهم وترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم وكل رطب ويابس لهم يستغفر حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها)[59].

لأن العلم حياة القلوب من العمى ونور الأبصار من الظلم وقوة الأبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى والتفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام به يطاع الله عز وجل وبه يعبد وبه يوحد وبه يمجد وبه يتورع وبه توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام وهو إمام والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء نسأل الله تعالى حسن التوفيق في الشواهد العقلية اعلم أن المطلوب من هذا الباب معرفة فضيلة العلم ونفاسته وما لم تفهم الفضيلة في نفسها ولم يتحقق المراد منها لم يمكن أن تعلم وجودها صفة للعلم أو لغيره من الخصال فلقد ضل عن الطريق من طمع أن يعرف أن زيدا حكيم أم لا وهو بعد لم يفهم معنى الحكمة وحقيقتها والفضيلة مأخوذة من الفضل وهي الزيادة فإذا تشارك شيئان في أمر واختص أحدهما بمزيد يقال فضله وله الفضل عليه مهما كانت زيادته فيما هو كمال ذلك الشيء.

كما يقال الفرس أفضل من الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكر والفر وشدة العدو وحسن الصورة فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة لم يقل إنه أفضل لأن تلك زيادة في الجسم ونقصان في المعنى وليست من الكمال في شيء والحيوان مطلوب لمعناه وصفاته لا لجسمه فإذا فهمت هذا لم يخف عليك أن العلم فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الأوصاف كما أن للفرس فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الحيوانات بل شدة العدو فضيلة في الفرس وليست فضيلة على الإطلاق والعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة فإنه وصف كمال الله سبحانه وبه شرف الملائكة والأنبياء بل الكيس من الخيل خير من البليد فهي فضيلة على الإطلاق من غير إضافة.

واعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعا فما يطلب لذاته أشرف وأفضل مما يطلب لغيره والمطلوب لغيره الدراهم والدنانير فإنهما حجران لا منفعة لهما ولولا أن الله سبحانه وتعالى يسر قضاء الحاجات بهما لكانا والحصباء بمثابة واحدة والذي يطلب لذاته فالسعادة في الآخرة ولذة النظر لوجه الله تعالى والذي يطلب لذاته ولغيره.

فكسلامة البدن فإن سلامة الرجل مثلا مطلوبة من حيث إنها سلامة للبدن عن الألم ومطلوبة للمشي بها والتوصل إلى المآرب والحاجات وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذا في نفسه فيكون مطلوبا لذاته ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل.

فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضا بشرف ثمرته. وقد عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى هذا في الآخرة. وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع؛ حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة؛ بل البهيمة بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتمييز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها.

هذه فضيلة العلم مطلقا ثم تختلف العلوم كما سيأتي بيانه وتتفاوت لا محالة فضائلها بتفاوتها وأما فضيلة التعليم والتعلم فظاهرة مما ذكرناه؛ فإن العلم إذا كان أفضل الأمور كان تعلمه طلبا للأفضل فكان تعليمه إفادة للأفضل. وبيانه أن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا؛ فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لمن اتخذها آلة ومنزلا لمن يتخذها مستقرا ووطنا. وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين وأعمالهم وحرفهم وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام:

أحدها أصول لا قوام للعالم دونها وهي أربعة الزراعة وهي للمطعم والحياكة وهي للملبس والبناء وهو للمسكن والسياسة وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها.

الثاني ما هي مهيئة لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها كالحدادة فإنها تخدم الزراعة وجملة من الصناعات بإعداد آلاتها كالحلاجة والغزل فإنها تخدم الحياكة بإعداد عملها.

الثالث ما هي متممة للأصول ومزينة كالطحن والخبز للزراعة وكالقصارة والخياطة للحياكة.

وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل أجزاء الشخص بالإضافة إلى جملته فإنها ثلاثة أضرب أيضا إما أصول كالقلب والكبد والدماغ وإما خادمة لها كالمعدة والعروق والشرايين والأعصاب والأوردة وإما مكملة لها ومزينة كالأظفار والأصابع والحاجبين. وأشرف هذه الصناعات أصولها وأشرف أصولها السياسة بالتأليف والاستصلاح ولذلك تستدعى هذه الصناعة من الكمال فيمن يتكفل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات. ولذلك يستخدم لا محالة صاحب هذه الصناعة سائر الصناع والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة على أربع مراتب:

الأولى وهي العليا سياسة الأنبياء عليهم السلام وحكمهم على الخاصة والعامة جميعا في ظاهرهم وباطنهم.

والثانية الخلفاء والملوك والسلاطين وحكمهم على الخاصة والعامة جميعا ولكن على ظاهرهم لا على باطنهم.

والثالثة العلماء بالله عز وجل وبدينه الذين هم ورثة الأنبياء وحكمهم على باطن الخاصة فقط ولا يرتفع فهم العامة على الاستفادة منهم ولا تنتهي قوتهم إلى التصرف في ظواهرهم بالإلزام والمنع والشرع.

والرابعة الوعاظ وحكمهم على بواطن العوام فقط.

فأشرف هذه الصناعات الأربع بعد النبوة إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس عن الأخلاق المذمومة المهلكة وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المسعدة وهو المراد بالتعليم وإنما قلنا إن هذا أفضل من سائر الحرف والصناعات لأن شرف الصناعات يعرف بثلاثة أمور إما بالالتفات إلى الغريزة التي بها يتوصل إلى معرفتها كفضل العقول العقلية على اللغوية إذ تدرك الحكمة بالعقل واللغة بالسمع والعقل أشرف من السمع. وإما بالنظر إلى عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة. وإما بملاحظة المحل الذي فيه التصرف كفضل الصياغة على الدباغة إذ محل أحدهما الذهب ومحل الآخر جلد الميتة.

وليس يخفى أن العلوم الدينية وهي فقه طريق الآخرة إنما تدرك بكمال العقل وصفاء الذكاء والعقل أشرف صفات الإنسان كما سيأتي بيانه إذ به تقبل أمانة الله وبه يتوصل إلى جوار الله سبحانه وأما عموم النفع فلا يستراب فيه فإن نفعه وثمرته سعادة الآخرة وأما شرف المحل فكيف يخفى والمعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم وأشرف موجود على الأرض جنس الإنس وأشرف جزء من جواهر الإنسان قلبه والمعلم مشتغل بتكميله وتجليته وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله عز وجل فتعليم العلم من وجه عبادة لله تعالى ومن وجه خلافة لله تعالى وهو من أجل خلافة الله فإن الله تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الذي هو أخص صفاته فهو كالخازن لأنفس خزائنه ثم هو مأذون له في الإنفاق منه على كل محتاج إليه فأي رتبة أجل من كون العبد واسطة بين ربه سبحانه وبين خلقه في تقريبهم إلى الله زلفى وسياقتهم إلى جنة المأوى جعلنا الله منهم بكرمه وصلى الله على كل عبد مصطفى.

 

الباب الثاني

في العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامهما وفيه بيان ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية وبيان أن موقع الكلام والفقه من علم الدين إلى أي حد هو وتفضيل علم الآخرة.

بيان العلم الذي هو فرض عين

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: (اطلبوا العلم ولو بالصين)، واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم فتفرقوا فيه أكثر من عشرين فرقة ولا نطيل بنقل التفصيل ولكن حاصله أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده. فقال المتكلمون: هو علم الكلام، إذ به يدرك التوحيد ويعلم به ذات الله سبحانه وصفاته. وقال الفقهاء: هو علم الفقه، إذ به تعرف العبادات والحلال والحرام وما يحرم من المعاملات وما يحل، وعنوا به ما يحتاج إليه الآحاد دون الوقائع النادرة. وقال المفسرون والمحدّثون: هو علم الكتاب والسنة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها.

وقال المتصوفة: المراد به هذا العلم، فقال بعضهم: هو علم العبد بحاله ومقامه من الله عز وجل، وقال بعضهم: هو العلم بالإخلاص وآفات النفوس وتمييز لمة الملك من لمة الشيطان، وقال بعضهم: هو علم الباطن وذلك يجب على أقوام مخصوصين هم أهل ذلك وصرفوا اللفظ عن عمومه.

وقال أبو طالب المكي: هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي فيه مباني الإسلام وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله إلى آخر الحديث)[60]. لأن الواجب هذه الخمس فيجب العلم بكيفية العمل فيها وبكيفية الوجوب والذي ينبغي أن يقطع به المحصل ولا يستريب فيه ما سنذكره وهو أن العلم كما قدمناه في خطبة الكتاب ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة والمعاملة التي كلف العبد العاقل البالغ العمل بها ثلاثة اعتقاد وفعل وترك فإذا بلغ الرجل العاقل بالاحتلام أو السن ضحوة نهار مثلا فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناهما وهو قول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وليس يجب عليه أن يحصل كشف ذلك لنفسه بالنظر والبحث وتحرير الأدلة بل يكفيه أن يصدق به ويعتقده جزما من غير اختلاج ريب واضطراب نفس وذلك قد يحصل بمجرد التقليد والسماع من غير بحث ولا برهان إذ اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل.[61]

فإذا فعل ذلك فقد أدى واجب الوقت وكان العلم الذي هو فرض عين عليه في الوقت تعلم الكلمتين وفهمهما وليس يلزمه أمر وراء هذا في الوقت بدليل أنه لو مات عقيب ذلك مات مطيعا لله عز وجل غير عاص له وإنما يجب غير ذلك بعوارض تعرض وليس ذلك ضروريا في حق كل شخص بل يتصور الانفكاك وتلك العوارض إما أن تكون في الفعل وإما في الترك وإما في الاعتقاد. أما الفعل: فبأن يعيش من ضحوة نهاره إلى وقت الظهر فيتجدد عليه بدخول وقت الظهر تعلم الطهارة والصلاة فإن كان صحيحا وكان بحيث لو صبر إلى وقت زوال الشمس لم يتمكن من تمام التعلم والعمل في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعلم فلا يبعد أن يقال: الظاهر بقاؤه فيجب عليه تقديم التعلم على الوقت ويحتمل أن يقال: وجوب العلم الذي هو شرط العمل بعد وجوب العمل فلا يجب قبل الزوال وهكذا في بقية الصلوات فإن عاش إلى رمضان تجدد بسببه وجوب تعلم الصوم: وهو أن وقته من الصبح إلى غروب الشمس وأن الواجب فيه النية والإمساك عن الأكل والشرب والوقاع وأن ذلك يتمادى إلى رؤية الهلال أو شاهدين فإن تجدد له مال أو كان له مال عند بلوغه لزمه تعلم ما يجب عليه من الزكاة ولكن لا يلزمه في الحال إنما يلزمه عند تمام الحول من وقت الإسلام فإن لم يملك إلا الإبل لم يلزمه إلا تعلم زكاة الإبل وكذلك في سائر الأصناف فإذا دخل في أشهر الحج فلا يلزمه المبادرة إلى علم الحج مع أن فعله على التراخي فلا يكون تعلمه على الفور ولكن ينبغي لعلماء الإسلام أن ينبهوه على أن الحج فرض على التراخي على كل من ملك الزاد والراحلة إذا كان هو مالكا حتى ربما يرى الحزم لنفسه في المبادرة فعند ذلك إذا عزم عليه لزمه تعلم كيفية الحج ولم يلزمه إلا تعلم أركانه وواجباته دون نوافله فإن فعل ذلك نفل فعلمه أيضا نفل فلا يكون تعلمه فرض عين وفي تحريم السكوت عن التنبيه على وجوب أصل الحج في الحال نظر يليق بالفقه، وهكذا التدريج في علم سائر الأفعال التي هي فرض عين.

وأما التروك فيجب تعلم علم ذلك بحسب ما يتجدد من الحال وذلك يختلف بحال الشخص إذ لا يجب على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام ولا على الأعمى تعلم ما يحرم من النظر ولا على البدوي تعلم ما يحرم الجلوس فيه من المساكن فذلك أيضا واجب بحسب ما يقتضيه الحال فما يعلم أنه ينفك عنه لا يجب تعلمه وما هو ملابس له يجب تنبيهه عليه كما لو كان عند الإسلام لابسا للحرير أو جالسا في الغصب أو ناظرا إلى غير ذي محرم فيجب تعريفه بذلك وما ليس ملابسا له ولكنه بصدد التعرض له على القرب كالأكل والشرب فيجب تعليمه حتى إذا كان في بلد يتعاطى فيه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير فيجب تعليمه ذلك وتنبيهه عليه وما وجب تعليمه وجب عليه تعلمه.

وأما الاعتقادات وأعمال القلوب فيجب علمها بحسب الخواطر فإن خطر له شك في المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة فيجب عليه تعلم ما يتوصل به إلى إزالة الشك فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله سبحانه قديم وأنه مرئي وأنه ليس محلا للحوادث إلى غير ذلك مما يذكر في المعتقدات فقد مات على الإسلام إجماعا ولكن هذه الخواطر الموجبة للاعتقادات بعضها يخطر بالطبع وبعضها يخطر بالسماع من أهل البلد فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق فإنه لو ألقى إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك كما أنه لو كان هذا المسلم تاجرا وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا وهذا هو الحق في العلم الذي هو فرض عين ومعناه العلم بكيفية العمل الواجب فمن علم العلم الواجب ووقت وجوبه فقد علم العلم الذي هو فرض عين وما ذكره الصوفية من فهم خواطر العدو ولمة الملك حق أيضا ولكن في حق من يتصدى له فإذا كان الغالب أن الإنسان لا ينفك عن دواعي الشر والرياء والحسد فيلزمه أن يتعلم من علم ربع المهلكات ما يرى نفسه محتاجا إليه وكيف لا يجب عليه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه)[62].

ولا ينفك عنها بشر وبقية ما سنذكره من مذمومات أحوال القلب كالكبر والعجب وأخواتها تتبع هذه الثلاث المهلكات وإزالتها فرض عين ولا يمكن إزالتها إلا بمعرفة حدودها ومعرفة أسبابها ومعرفة علاماتها ومعرفة علاجها فإن من لا يعرف الشر يقع فيه والعلاج هو مقابلة السبب بضده وكيف يمكن دون معرفة السبب والمسبب وأكثر ما ذكرناه في ربع المهلكات من فروض الأعيان وقد تركها الناس كافة اشتغالا بما لا يعنى ومما لا ينبغي أن يبادر في إلقائه إليه إذا لم يكن قد انتقل عن ملة إلى ملة أخرى الإيمان بالجنة والنار والحشر والنشر حتى يؤمن به ويصدق وهو من تتمة كلمتي الشهادة فإنه بعد التصديق بكونه عليه السلام رسولا ينبغي أن يفهم الرسالة التي هو مبلغها وهو أن من أطاع الله ورسوله فله الجنة ومن عصاهما فله النار فإذا انتبهت لهذا التدريج علمت أن المذهب الحق هو هذا وتحققت أن كل عبد هو في مجاري أحواله في يومه وليلته لا يخلو من وقائع في عبادته ومعاملاته عن تجدد لوازم عليه فيلزمه السؤال عن كل ما يقع له من النوادر ويلزمه المبادرة إلى تعلم ما يتوقع وقوعه على القرب غالبا فإذا تبين أنه عليه الصلاة والسلام إنما أراد بالعلم المعرف بالألف واللام في قوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)؛ علم العمل الذي هو مشهور الوجوب على المسلمين لا غير؛ فقد اتضح وجه التدريج ووقت وجوبه، والله أعلم.

 

بيان العلم الذي هو فرض كفاية

اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية؛ وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة. فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه وأما المذموم فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة والتلبيسات وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه.

وأما العلوم الشرعية وهي المقصودة بالبيان فهي محمودة كلها ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة فتنقسم إلى المحمودة والمذمومة أما المحمودة فلها أصول وفروع ومقدمات ومتممات وهي أربعة أضرب:

الضرب الأول الأصول وهي أربعة كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وآثار الصحابة والإجماع أصل من حيث إنه يدل على السنة فهو أصل في الدرجة الثالثة وكذا الأثر فإنه أيضا يدل على السنة لأن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل وأدركوا بقرائن الأحوال ما غاب عن غيرهم عيانه وربما لا تحيط العبارات بما أدرك بالقرائن فمن هذا الوجه رأى العلماء الاقتداء بهم والتمسك بآثارهم وذلك بشرط مخصوص على وجه مخصوص عند من يراه ولا يليق بيانه بهذا الفنّ.

الضرب الثاني الفروع وهو ما فهم من هذه الأصول لا بموجب ألفاظها بل بمعان تنبه لها العقول فاتسع بسببها الفهم حتى فهم من اللفظ الملفوظ به غيره كما فهم من قوله عليه السلام: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)[63]. أنه لايقضي إذا كان خائفا أو جائعا أو متألما بمرض. وهذا على ضربين:

أحدهما يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه والمتكفل به الفقهاء وهم علماء الدنيا.

والثاني ما يتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة وما هو مرضي عند الله تعالى وما هو مكروه وهو الذي يحويه الشطر الأخير من هذا الكتاب أعني جملة كتاب إحياء علوم الدين ومنه العلم بما يترشح من القلب على الجوارح في عباداتها وعاداتها وهو الذي يحويه الشطر الأول من هذا الكتاب.

والضرب الثالث المقدمات وهي التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وليست اللغة والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة فيصير تعلم تلك اللغة آلة ومن الآلات علم كتابة الخط إلا أن ذلك ليس ضروريا إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميّاً [64] ولو تصور استقلال الحفظ بجميع ما يسمع لاستغنى عن الكتابة ولكنه صار بحكم العجز في الغالب ضروريا.

الضرب الرابع المتممات وذلك في علم القرآن فإنه ينقسم إلى ما يتعلق باللفظ كتعلم القراءات ومخارج الحروف وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير فإن اعتماده أيضا على النقل إذ اللغة بمجردها لا تستقل به وإلى ما يتعلق بأحكامه كمعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر وكيفية استعمال البعض منه مع البعض وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه ويتناول السنة أيضا.

وأما المتممات في الآثار والأخبار فالعلم بالرجال وأسمائهم وأنسابهم وأسماء الصحابة وصفاتهم والعلم بالعدالة في الرواة والعلم بأحوالهم ليميز الضعيف عن القوي والعلم بأعمارهم ليميز المرسل عن المسند وكذلك ما يتعلق به فهذه هي العلوم الشرعية وكلها محمودة بل كلها من فروض الكفايات.

فإن قلت: لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا؟

فاعلم أن الله عز وجل أخرج آدم عليه السلام من التراب وأخرج ذريته من سلالة من طين ومن ماء دافق فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى العرض ثم إلى الجنة أو إلى النار فهذا مبدؤهم وهذا غايتهم وهذه منازلهم وخلق الدنيا زادا للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولدت منها الخصومات فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا ولعمري إنه متعلق أيضا بالدين لكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا.

والملك والدين توأمان فالدين أصل والسلطان حارس وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه وكما أن سياسة الخلق بالسلطنة ليس من علم الدين في الدرجة الأولى بل هو معين على ما لا يتم الدين إلا به فكذلك معرفة طريق السياسة فمعلوم أن الحج لا يتم إلا ببذرقة تحرس من العرب في الطريق ولكن الحج شيء وسلوك الطريق إلى الحج شيء ثان والقيام بالحراسة التي لا يتم الحج إلا بها شيء ثالث ومعرفة طرق الحراسة وحيلها وقوانينها شيء رابع.

وحاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة ويدل على ذلك ما روي مسندا: (لا يفتي الناس إلا ثلاثة أمير أو مأمور أو متكلف)[65]. فالأمير هو الإمام وقد كانوا هم المفتون والمأمور نائبه والمتكلف غيرهما وهو الذي يتقلد تلك العهدة من غير حاجة وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحترزون عن الفتوى حتى كان يحيل كل منهم على صاحبه وكانوا لا يحترزون إذا سئلوا عن علم القرآن وطريق الآخرة وفي بعض الروايات بدل المتكلف المرائي فإن من تقلد خطر الفتوى وهو غير متعين للحاجة فلا يقصد به إلا طلب الجاه والمال.

فإن قلت هذا إن استقام لك في أحكام الجراحات والحدود والغرامات وفصل الخصومات فلا يستقيم فيما يشتمل عليه ربع العبادات من الصيام والصلاة ولا فيما يشتمل عليه ربع العادات من المعاملات من بيان الحلال والحرام؟

فاعلم أن أقرب ما يتكلم الفقيه فيه من الأعمال التي هي أعمال الآخرة ثلاثة الإسلام والصلاة والزكاة والحلال والحرام فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيها علمت أنه لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة وإذا عرفت هذا في هذه الثلاثة فهو في غيرها أظهر. أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه وفيما يفسد وفي شروطه وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه لعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال: (هلا شققت عن قلبه؟)[66]. للذي قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذرا بأنه قال ذلك من خوف السيف.

بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف مع أنه يعلم أن السيف لم يكشف له عن نيته ولم يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة ولكنه مثير على صاحب السيف فإن السيف ممتد إلى رقبته واليد ممتدة إلى ماله. وهذه الكلمة باللسان تعصم رقبته وماله ما دام له رقبة ومال وذلك في الدنيا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم)[67]. جعل أثر ذلك في الدم والمال.

وأما الآخرة فلا تنفع فيها الأموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها وليس ذلك من الفقه وإن خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب وكان خارجا عن فنه وأما الصلاة فالفقيه يفتي بالصحة إذا أتى بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلا في جميع صلاته من أولها إلى آخرها مشغولا بالتفكير في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبير وهذه الصلاة لا تنفع في الآخرة كما أن القول باللسان في الإسلام لا ينفع ولكن الفقيه يفتي بالصحة أي أن ما فعله حصل به امتثال صيغة الأمر وانقطع به عنه القتل والتعزير فأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة وبه ينفع العمل الظاهر لا يتعرض له الفقيه ولو تعرض له لكان خارجا عن فنه وأما الزكاة فالفقيه ينظر إلى ما يقطع به مطالبة السلطان حتى إنه إذا امتنع عن أدائها فأخذها السلطان قهرا حكم بأنه برئت ذمته.

وحكى أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ويستوهب مالها إسقاطا للزكاة فحكي ذلك لأبي حنيفة رحمه الله فقال ذلك من فقهه وصدق فإن ذلك من فقه الدنيا ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية ومثل هذا هو العلم الضار.

وأما الحلال والحرام فالورع عن الحرام من الدين ولكن الورع له أربع مراتب:

الأولى الورع الذي يشترط في عدالة الشهادة وهو الذي يخرج بتركه الإنسان عن أهلية الشهادة والقضاء والولاية وهو الاحتراز عن الحرام الظاهر.

الثانية ورع الصالحين وهو التوقي من الشبهات التي يتقابل فيها الاحتمالات قال صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى مالا يريبك)[68]. وقال صلى الله عليه وسلم: (الإثم حزاز القلوب)[69].

الثالثة ورع المتقين وهو ترك الحلال المحض الذي يخاف منه أداؤه إلى الحرام قال صلى الله عليه وسلم: (لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة مما به بأس)[70]. وذلك مثل التورع عن التحدث بأحوال الناس خيفة من الانجرار إلى الغيبة والتورع عن أكل الشهوات خيفة من هيجان النشاط والبطر المؤدي إلى مقارفة المحظورات.

الرابعة ورع الصديقين وهو الإعراض عما سوى الله تعالى خوفا من صرف ساعة من العمر إلى ما لا يفيد زيادة قرب عند الله عز وجل وإن كان يعلم ويتحقق أنه لا يفضي إلى حرام.

فهذه الدرجات كلها خارجة عن نظر الفقيه إلا الدرجة الأولى وهو ورع الشهود والقضاء وما يقدح في العدالة والقيام بذلك لا ينفي الإثم في الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوابصة: (استفت قلبك وإن أفتوك وإن أفتوك)[71].

والفقيه لا يتكلم في حزازات القلوب وكيفية العمل بها بل فيما يقدح في العدالة فقط فإن جميع نظر الفقيه مرتبط بالدنيا التي بها صلاح طريق الآخرة فإن تكلم في شيء من صفات القلب وأحكام الآخرة فذلك يدخل في كلامه على سبيل التطفل كما قد يدخل في كلامه شيء من الطب والحساب والنجوم وعلم الكلام وكما تدخل الحكمة في النحو والشعر.

وكان سفيان الثوري وهو إمام في علم الظاهر يقول إن طلب هذا ليس من زاد الآخرة كيف وقد اتفقوا على أن الشرف في العلم العمل به فكيف يظن أنه علم الظهار واللعان والسلم والإجارة والصرف ومن تعلم هذه الأمور ليتقرب بها إلى الله تعالى فهو مجنون وإنما العمل بالقلب والجوارح في الطاعات والشرف هو تلك الأعمال فإن قلت لم سويت بين الفقه والطب إذ الطب أيضا يتعلق بالدنيا وهو صحة الجسد وذلك يتعلق به أيضا صلاح الدين وهذه التسوية تخالف إجماع المسلمين.

فاعلم أن التسوية غير لازمة بل بينهما فرق وأن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه:

أحدها أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوة بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع.

والثاني أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة ألبتة لا الصحيح ولا المريض وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى وهم الأقلون.

والثالث أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح ومصدر أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب.

فالمحمود من الأعمال يصدر عن الأخلاق المحمودة المنجية في الآخرة والمذموم يصدر من المذموم وليس يخفى اتصال الجوارح بالقلب وأما الصحة والمرض فمنشؤهما صفاء في المزاج والأخلاط وذلك من أوصاف البدن لا من أوصاف القلب فمهما أضيف الفقه إلى الطب ظهر شرفه وإذا أضيف علم طريق الآخرة إلى الفقه ظهر أيضا شرف علم طريق الآخرة.

فإن قلت فصل لي علم طريق الآخرة تفصيلا يشير إلى تراجمه وإن لم يمكن استقصاء تفاصيله:

فاعلم أنه قسمان علم مكاشفة وعلم معاملة:

فالقسم الأول علم المكاشفة وهو علم الباطن وذلك غاية العلوم فقد قال بعض العارفين من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله وقال آخر من كان فيه خصلتان لم يفتح له بشيء من هذا العلم بدعة أو كبر وقيل من كان محبا للدنيا أو مصرا على هوى لم يتحقق به وقد يتحقق بسائر العلوم وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئا وينشد على قوله:

وأرض لمن غاب عنك غيبته                      فذاك ذنبٌ عقابه فيه

وهو علم الصدّيقين والمقربين أعني علم المكاشفة فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة.

وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا. والمعرفة بمعنى النبوة والنبي ومعنى الوحي ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة والشياطين وكيفية معاداة الشياطين للإنسان وكيفية ظهور الملك للأنبياء وكيفية وصول الوحي إليهم والمعرفة بملكوت السموات والأرض ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه ومعرفة الفرق بين لمة[72] الملك ولمة الشيطان ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب.

ومعنى قوله تعالى: ]اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا[ (الاسراء: 14) ومعنى قوله تعالى: ]وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون[ (العنكبوت: 64) ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه والنزول في جواره، ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبيين، ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدري في جوف السماء إلى غير ذلك مما يطول تفصيله.

إذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى فبعضهم يرى أن جميع ذلك أمثلة وأن الذي أعده الله لعباده الصالحين (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء. وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها. وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله عز وجل الاعتراف بالعجز عن معرفته. وبعضهم يدعي أمورا عظيمة في المعرفة بالله عز وجل. وبعضهم يقول حد معرفة الله عز وجل ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام. وهو أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم.

فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحا يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه. وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا. وإنما نعني بعلم طريق الآخرة العلم بكيفية تصقيل هذه المرأة عن هذه الخبائث التي هي الحجاب عن الله سبحانه وتعالى، وعن معرفة صفاته وأفعاله.

وإنما تصفيتها وتطهيرها بالكف عن الشهوات والاقتداء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في جميع أحوالهم فبقدر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه. ولا سبيل إليه إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها في موضعها وبالعلم والتعليم. وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها، إلا مع أهله وهو المشارك فيه، على سبيل المذاكرة وبطريق الأسرار.

وهذا هو العلم الخفي الذي أراده صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله تعالى فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى فلا تحقروا عالما آتاه الله تعالى علما منه فإن الله عز وجل لم يحقره إذ آتاه إياه)[73].

وأما القسم الثاني وهو علم المعاملة فهو علم أحوال القلب؛ أما ما يحمد منها فكالصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا والزهد والتقوى والقناعة والسخاء ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق وحسن المعاشرة والصدق والإخلاص فمعرفة حقائق هذه الأحوال وحدودها وأسبابها التي با تكتسب وثمرتها وعلامتها ومعالجة ما ضعف منها حتى يقوى وما زال حتى يعود من علم الآخرة.

وأما ما يذم فخوف الفقر وسخط المقدور والغل والحقد والحسد والغش وطلب العلو وحب الثناء وحب طول البقاء في الدنيا للتمتع والكبر والرياء والغضب والأنفة والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والرغبة والبذخ والأشر والبطر وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء والفخر والخيلاء والتنافس والمباهاة والاستكبار عن الحق والخوض فيما لا يعنى وحب كثرة الكلام والصلف والتزين للخلق والمداهنة والعجب والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس وزوال الحزن من القلب وخروج الخشية منه وشدة الانتصار للنفس إذا نالها الذل وضعف الانتصار للحق واتخاذ إخوان العلانية على عداوة السر والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى في سلب ما أعطى والاتكال على الطاعة والمكر والخيانة والمخادعة وطول الأمل والقسوة والفظاظة والفرح بالدنيا والأسف على فواتها والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم والجفاء والطيش والعجلة وقلة الحياء وقلة الرحمة.

فهذه وأمثالها من صفات القلب مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة.

وأضدادها وهي الأخلاق المحمودة منبع الطاعات والقربات فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمراتها وعلاجها هو علم الآخرة وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة.

فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة ولو سئل فقيه عن معنى من هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلا أو عن التوكل أو عن وجه الاحتراز عن الرياء لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها وإن احتيج لم تخل البلد عمن يقوم بها ويكفيه مؤنة التعب فيها فلا يزال يتعب فيها ليلا ونهارا، وفي حفظه ودرسه يغفل عما هو مهم في نفسه في الدين وإذا روجع فيه قال اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية، ويلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه.

والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدم عليه فرض العين بل قدم عليه كثيرا من فروض الكفايات فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه ثم لا نرى أحدا يشتغل به ويتهاترون على علم الفقه لا سيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأفران والتسلط به على الأعداء هيهات هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان وقد كان أهل الورع من علماء الظاهر مقرين بفضل علماء الباطن وأرباب القلوب كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يقعد الصبي في المكتب ويسأله كيف يفعل في كذا وكذا فيقال له مثلك يسأل هذا البدوي فيقول إن هذا وفق لما أغفلناه.

وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه ويحيى بن معين يختلفان إلى معروف الكرخي ولم يكن في علم الظاهر بمنزلتهما وكانا يسألانه وكيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب ولا سنة فقال صلى الله عليه وسلم: (سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم)[74]. ولذلك قيل علماء الظاهر زينة الأرض والملك وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت.

وقال الجنيد رحمه الله قال لي السري شيخي يوما إذا قمت من عندي فمن تجالس، قلت المحاسبي فقال نعم خذ من علمه وأدنه ودع عنك تشقيقه الكلام ورده على المتكلمين، ثم لما وليت سمعته يقول جعلك الله صاحب حديث صوفيا ولا جعلك صوفيا صاحب حديث أشار إلى أن من حصل الحديث والعلم ثم تصوف أفلح ومن تصوف قبل العلم خاطر بنفسه.

فإن قلت فلم لم تورد في أقسام العلوم: الكلام والفلسفة، وتبين أنهما مذمومان أو محمودان.

فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بيانه وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها وتطويل بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منه مألوفا في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع ولكن تغير الآن حكمه إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة ونبعت جماعة لفقهوا لها شبها ورتبوا فيها كلاما مؤلفا فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذونا فيه بل صار من فروض الكفايات وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة إلى البدعة وذلك إلى حد محدود سنذكره في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى.

وأما الفلسفة فليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء:

أحدها: الهندسة والحساب وهما مباحان كما سبق ولا يمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع فيصان الضعيف عنهما لا لعينهما كما يصان عصبي عن شاطىء النهر خيفة عليه من الوقوع في النهر وكما يصان حديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار خوفا عليه مع أن القوي لا يندب إلى مخالطتهم.

الثاني: المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه الحد وشروطه وهما داخلان في علم الكلام.

الثالث: الإلهيات وهو بحث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته وهو داخل في الكلام أيضا والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم بل انفردوا بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة وكما أن الاعتزال ليس علما برأسه بل أصحابه طائفة من المتكلمين وأهل البحث والنظر انفردوا بمذاهب باطلة فكذلك الفلاسفة.

والرابع: الطبيعيات وبعضها مخالف للشرع والدين والحق فهو جهل وليس بعلم حتى نورده في أقسام العلوم وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية إستحالتها وتغيرها وهو شبيه بنظر الأطباء إلا أن الطبيب ينظر في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح وهم ينظرون في جميع الأجسام من حيث تتغير وتتحرك ولكن للطب فضل عليه وهو أنه محتاج إليه وأما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها فإذن الكلام صار من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية حراسة لقلوب العوام عن تخيلات المبتدعة وإنما حدث ذلك بحدوث البدع كما حدثت حاجة الإنسان إلى استئجار البذرقة في طريق الحج بحدوث ظلم العرب وقطعهم الطريق ولو ترك العرب عدوانهم لم يكن استئجار الحراس من شروط طريق الحج فلذلك لو ترك المبتدع هذيانه لما افتقر إلى الزيادة على ما عهد في عصر الصحابة رضي الله عنهم فليعلم المتكلم حده من الدين وأن موقعه منه موقع الحارس في طريق الحج فإذا تجرد الحارس للحراسة لم يكن من جملة الحاج والمتكلم إذا تجرد للمناظرة والمدافعة ولم يسلك طريق الآخرة ولم يشتغل بتعهد القلب وصلاحه لم يكن من جملة علماء الدين أصلا وليس عند المتكلم من الدين إلا العقيدة التي شاركه فيها سائر العوام وهي من جملة أعمال ظاهر القلب واللسان وإنما يتميز عن العامي بصنعة المجادلة والحراسة فأما معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وجميع ما أشرنا إليه في علم المكاشفة فلايحصل من علم الكلام بل يكاد أن يكون الكلام حجابا عليه ومانعا عنه وإنما الوصول إليه بالمجاهدة التي جعلها الله سبحانه مقدمة للهداية حيث قال تعالى: ]والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين[. (العنكبوت: 69)

فإن قلت فقد رددت حد المتكلم إلى حراسة عقيدة العوام عن تشويش المبتدعة كما أن حد البذرقة حراسة أقمشة الحجيج عن نهب العرب ورددت حد الفقيه إلى حفظ القانون الذي به يكف السلطان شر بعض أهل العدوان عن بعض وهاتان رتبتان نازلتان بالإضافة إلى علم الدين وعلماء الأمة المشهورون بالفضل هم الفقهاء والمتكلمون وهم أفضل الخلق عند الله تعالى فكيف تنزل درجاتهم إلى هذه المنزلة السافلة بالإضافة إلى علم الدين.

فاعلم أن من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكا طريق الحق وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بين الناس فلا تغفل عن الصحابة وعلو منصبهم فقد أجمع الذين عرضت بذكرهم على تقدمهم وأنهم لا يدرك في الدين شأوهم ولا يشق غبارهم ولم يكن تقدمهم بالكلام والفقه بل بعلم الآخرة وسلوك طريقها و (ما فضل أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثرة صيام ولا صلاة ولا بكثرة رواية ولا فتوى ولا كلام ولكن بشيء وقر في صدره)[75]. كما شهد له سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. فليكن حرصك في طلب ذلك السر فهو الجوهر النفيس والدر المكنون ودع عنك ما تطابق أكثر الناس عليه وعلى تفخيمه وتعظيمه لأسباب ودواع يطول تفصيلها فلقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آلاف من الصحابة رضي الله عنهم كلهم علماء بالله أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام ولا نصب نفسه للفتيا منهم أحد إلا بضعة عشر رجلا.

ولقد كان ابن عمر رضي الله عنهما منهم وكان إذا سئل عن الفتيا يقول للسائل اذهب إلى فلان الأمير الذي تقلد أمور الناس وضعها في عنقه إشارة إلى أن الفتيا في القضايا والأحكام من توابع الولاية والسلطنة ولما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود مات تسعة أعشار العلم فقيل له أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة فقال لم أرد علم الفتيا والأحكام إنما أريد العلم بالله تعالى أفترى أنه أراد صنعة الكلام والجدل فما بالك لا تحرص على معرفة ذلك العلم الذي مات بموت عمر تسعة أعشاره وهو الذي سد باب الكلام والجدل وضرب ضبيعا بالدرة لما أورد عليه سؤالا في تعارض آيتين في كتاب الله وهجره وأمر الناس بهجره وأما قولك إن المشهورين من العلماء هم الفقهاء والمتكلمون فاعلم أن ما ينال به الفضل عند الله شيء وما ينال به الشهرة عند الناس شيء آخر.

فلقد كان شهرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة وكان فضله بالسر الذي وقر في قلبه وكان شهرة عمر رضي الله عنه بالسياسة وكان فضله بالعلم بالله الذي مات تسعة أعشاره بموته وبقصده التقرب إلى الله عز وجل في ولايته وعدله وشفقته على خلقه وهو أمر باطن في سره فأما سائر أفعاله الظاهرة فيتصور صدورها من طالب الجاه والاسم والسمعة والراغب في الشهرة فتكون الشهرة فيما هو المهلك والفضل فيما هو سر لا يطلع عليه أحد فالفقهاء والمتكلمون مثل الخلفاء والقضاء والعلماء وقد انقسموا فمنهم من أراد الله سبحانه بعلمه وفتواه وذبه عن سنة نبيه ولم يطلب به رياء ولا سمعة فأولئك أهل رضوان الله تعالى وفضلهم عند الله لعملهم بعلمهم ولإرادتهم وجه الله سبحانه بفتواهم ونظرهم فإن كل علم عمل فإنه فعل مكتسب وليس كل عمل علما والطبيب يقدر على التقرب إلى الله تعالى بعلمه فيكون مثابا على علمه من حيث إنه عامل لله سبحانه وتعالى به والسلطان يتوسط بين الخلق لله فيكون مرضيا عند الله سبحانه ومثابا لا من حيث إنه متكفل بعلم الدين بل من حيث هو متقلد بعمل يقصد به التقرب إلى الله عز وجل بعلمه وأقسام ما يتقرب به إلى الله تعالى ثلاثة علم مجرد وهو علم المكاشفة وعمل مجرد وهو كعدل السلطان مثلا وضبطه للناس ومركب من عمل وعلم وهو علم طريق الآخرة فإن صاحبه من العلماء والعمال جميعا فانظر إلى نفسك أتكون يوم القيامة في حزب علماء الله وأعمال الله تعالى أوفى حزبيهما فتضرب بسهمك مع كل فريق منهما فهذا أهم عليك من التقليد لمجرد الاشتهار كما قيل:

خذ ما تراه ودع شيئا سمعت بهِ        في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحلِ

على أنا سننقل من سيرة فقهاء السلف ما تعلم به أن الذين انتحلوا مذاهبهم ظلموهم وأنهم من أشد خصمائهم يوم القيامة فإنهم ما قصدوا بالعلم إلا وجه الله تعالى وقد شوهد من أحوالهم ما هو من علامات علماء الآخرة كما سيأتي بيانه في باب علامات علماء الآخرة فإنهم ما كانوا متجردين لعلم الفقه بل كانوا مشتغلين بعلم القلوب ومراقبين لها ولكن صرفهم عن التدريس والتصنيف فيه ما صرف الصحابة عن التصنيف والتدريس في الفقه مع أنهم كانوا فقهاء مستقلين بعلم الفتوى والصوارف والدواعي متيقنة ولا حاجة إلى ذكرها.

ونحن الآن نذكر من أحوال فقهاء الإسلام ما تعلم به أن ما ذكرناه ليس طعنا فيهم بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلا مذاهبهم وهو مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم فالفقهاء الذين هم زعماء الفقه وقادة الخلق أعني الذين كثر أتباعهم في المذاهب خمسة الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى وكل واحد منهم كان عابدا وزاهدا وعالما بعلوم الآخرة وفقيها في مصالح الخلق في الدنيا ومريدا بفقهه وجه الله تعالى فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على خصلة واحدة وهي التشمير والمبالغة في تفاريع الفقه لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة وهذه الخصلة الواحدة تصلح للدنيا والآخرة إن أريد بها الآخرة قل صلاحها للدنيا شمروا لها وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة وهيهات أن تقاس الملائكة بالحدادين فلنورد الآن من أحوالهم ما يدل على هذه الخصال الأربع فإن معرفتهم بالفقه ظاهرة.

أما الإمام الشافعي رحمه الله فيدل على أنه كان عابدا ما روي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء ثلثا للعلم وثلثا للعبادة وثلثا للنوم قال الربيع كان الشافعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة وقال الحسن الكرابيسي بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحوا من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية فإذا أكثر فمائة آية وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين وكأنما جمع له الرجاء والخوف معا فانظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية على تبحره في أسرار القرآن وتدبره فيها وقال الشافعي رحمه الله ما شبعت منذ ست عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع ثم في جده في العبادة إذ طرح الشبع لأجلها ورأس التعبد تقليل الطعام.

وقال الشافعي رحمه الله ما حلفت بالله تعالى لا صادقا ولا كاذبا قط فانظر إلى حرمته وتوقيره لله تعالى ودلالة ذلك على علمه بجلال الله سبحانه. وسئل الشافعي رضي الله عنه عن مسئلة فسكت فقيل له ألا تجيب رحمك الله فقال: “حتى أدري الفضل في سكوتي أو في جوابي”، فانظر في مراقبته للسانه مع أنه أشد الأعضاء تسلطا على الفقهاء وأعصاها على الضبط والقهر وبه يستبين أنه كان لا يتكلم ولا يسكت لا لنيل الفضل وطلب الثواب.

وقال أحمد بن يحيى بن الوزير خرج الشافعي رحمه الله تعالى يوما من سوق القناديل فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم فالتفت الشافعي إلينا وقال: “نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به فإن المستمع شريك القائل وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في إنائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها”.

وقال الشافعي رضي الله عنه: “كتب حكيم إلى حكيم قد أوتيت علما فلا تدنس علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم”. وأما زهده رضي الله عنه فقد قال الشافعي رحمه الله من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب. وقال الحميدي خرج الشافعي رحمه الله إلى اليمن مع بعض الولاة فانصرف إلى مكة بعشرة آلاف درهم فضرب له خباء في موضع خارجا من مكة فكان الناس يأتونه فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها.

وخرج من الحمام مرة فأعطى الحمامي مالا كثيرا، وسقط سوطه من يده مرة فرفعه إنسان إليه فأعطاه جزاء عليه خمسين دينارا وسخاوة الشافعي رحمه الله أشهر من أن تحكى ورأس الزهد السخاء لأن من أحب شيئا أمسكه ولم يفارق المال إلا من صغرت الدنيا في عينه، وهو معنى الزهد، ويدل على قوة زهده وشدة خوفه من الله تعالى واشتغال همته بالآخرة ما روي أنه روى سفيان بن عيينة حديثا في الرقائق فغشي على الشافعي فقيل له قد مات فقال إن مات فقد مات أفضل زمانه. وما روى عبد الله بن محمد البلوي قال كنت أنا وعمر بن نباتة جلوسا نتذاكر العباد والزهاد فقال لي عمر ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا وكان الحارث تلميذ الصالح المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت فقرأ هذه الآية عليه ]هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون[ (المرسلات: 35 و 36) فرأيت الشافعي رحمه الله وقد تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطرابا شديدا وخر مغشيا عليه فلما أفاق جعل يقول: (أعوذ بك من مقام الكاذبين وإعراض الغافلين اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت لك رقاب المشتاقين إلهي هب لي جودك وجللني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك)، قال ثم مشى وانصرفنا، فلما دخلت بغداد وكان هو بالعراق فقعدت على الشط أتوضأ للصلاة إذ مر بي رجل فقال لي يا غلام أحسن وضوءك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة، فالتفت فإذا أنا برجل يتبعه جماعة فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره فالتفت إلي فقال: هل لك من حاجة، فقلت: نعم تعلمني مما علمك الله شيئا، فقال لي: (اعلم أن من صدق الله نجا ومن أشفق على دينه سلم من الردى ومن زهد في الدنيا قرت عيناه مما يراه من ثواب الله تعالى غدا أفلا أزيدك) قلت نعم، قال (من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان من أمر بالمعروف وائتمر ونهى عن المنكر وانتهى وحافظ على حدود الله تعالى ألا أزيدك) قلت بلى فقال (كن في الدنيا زاهدا وفي الآخرة راغبا واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنج مع الناجين) ثم مضى فسألت من هذا فقالوا هو الشافعي. فانظر إلى سقوطه مغشيا عليه ثم إلى وعظه كيف يدل ذلك على زهده وغاية خوفه ولا يحصل هذا الخوف والزهد إلا من معرفة الله عز وجل. فإنه ]إنما يخشى الله من عباده العلماء[ (فاطر: 28) ولم يستفد الشافعي رحمه الله هذا الخوف والزهد من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه بل هو من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن والأخبار إذ حكم الأولين والآخرين مودعة فيهما.

وأما كونه عالما بأسرار القلب وعلوم الآخرة فتعرفه من الحكم المأثورة عنه روي أنه سئل عن الرياء فقال على البديهة الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (إذا أنت خفت على عملك العجب فانظر رضا من تطلب وفي أي ثواب ترغب ومن أي عقاب ترهب وأي عافية تشكر وأي بلاء تذكر فإنك إذا تفكرت في واحد من هذه الخصال صغر في عينك عملك) فانظر كيف ذكر حقيقة الرياء وعلاج العجب وهما من كبار آفات القلب.

وقال الشافعي رضي الله عنه: (من لم يصن نفسه لم ينفعه علمه)، وقال رحمه الله: (من أطاع الله تعالى بالعلم نفعه سره)، وقال: (ما من أحد إلا له محب ومبغض فإذا كان كذلك فكن مع أهل طاعة الله عز وجل)، وروي أن عبد القاهر بن عبد العزيز كان رجلا صالحا ورعا وكان يسأل الشافعي رضي الله عنه عن مسائل في الورع والشافعي رحمه الله يقبل عليه لورعه. وقال للشافعي يوما أيما أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين، فقال الشافعي رحمه الله: (التمكين درجة الأنبياء ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة فإذا امتحن صبر وإذا صبر مكن ألا ترى أن الله عز وجل امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مكنه، وامتحن موسى عليه السلام ثم مكنه، وامتحن أيوب عليه السلام ثم مكنه، وامتحن سليمان عليه السلام ثم مكنه وآتاه ملكا، والتمكين أفضل الدرجات قال الله عز وجل ]وكذلك مكنا ليوسف في الأرض[ (يوسف: 56)، وأيوب عليه السلام بعد المحنة العظيمة مكن، قال الله تعالى ]وآتيناه أهله ومثلهم معهم[ (الأنبياء: 84) الآية. فهذا الكلام من الشافعي رحمه الله يدل على تبحره في أسرار القرآن واطلاعه على مقامات السائرين إلى الله تعالى من الأنبياء والأولياء وكل ذلك من علوم الآخرة.

وقيل للشافعي رحمه الله متى يكون الرجل عالما قال: (إذا تحقق في علم الدين فعلمه وتعرض لسائر العلوم فنظر فيما فاته فعند ذلك يكون عالما)[76]. فهذا وأمثاله مما لا يحصى يدل على علو رتبته في معرفة الله تعالى وعلوم الآخرة.

وأما إرادته بالفقه والمناظرة فيه وجه الله تعالى فيدل عليه ما روي عنه قال وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم وما نسب إلي شيء منه فانظر كيف اطلع على آفة العلم وطلب الاسم له وكيف كان منزه القلب عن الالتفات إليه مجرد النية فيه لوجه الله تعالى. وقال الشافعي رضي الله عنه (ما ناظرت أحدا قط فأحببت أن يخطىء)، وقال: (ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ)، (وما كلمت أحدا قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه) وقال: (ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت محبته ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته). فهذه العلامات هي التي تدل على إرادة الله تعالى بالفقه والمناظرة فانظر كيف تابعه الناس من جملة هذه الخصال الخمس على خصلة واحدة فقط ثم كيف خالفوه فيها أيضا ولهذا قال أبو ثور رحمه الله ما رأيت ولا رأى الراءون مثل الشافعي رحمه الله تعالى.

وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي رحمه الله تعالى)، فانظر إلى إنصاف الداعي وإلى درجة المدعو له، وقس به الأقران والأمثال من العلماء في هذه الأعصار وما بينهم من المشاحنة والبغضاء لتعلم تقصيرهم في دعوى الاقتداء بهؤلاء، ولكثرة دعائه له قال له ابنه أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء فقال أحمد: (يا بني كان الشافعي رحمه الله تعالى كالشمس للدنيا وكالعافية للناس)، فانظر هل لهذين من خلف وكان أحمد رحمه الله يقول: (ما مس أحد بيده محبرة إلا وللشافعي رحمه الله في عنقه منة)، وقال يحيى بن سعيد القطان: (ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو فيها للشافعي لما فتح الله عز وجل عليه من العلم ووفقه للسداد فيه)، ولنقتصر على هذه النبذة من أحواله فإن ذلك خارج عن الحصر وأكثر هذه المناقب نقلناه من الكتاب الذي صنفه الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي رحمه الله تعالى في مناقب الشافعي رضي الله عنه وعن جميع المسلمين.

وأما الإمام مالك رضي الله عنه فإنه كان أيضا متحليا بهذه الخصال الخمس فإنه قيل له ما تقول يا مالك في طلب العلم فقال: (حسن جميل ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه)، وكان رحمه الله تعالى في تعظيم علم الدين مبالغا حتى كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته واستعمل الطيب وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك فقال: (أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال مالك: (العلم نور يجعله الله حيث يشاء وليس بكثرة الرواية)، وهذا الاحترام والتوقير يدل على قوة معرفته بجلال الله تعالى، وأما إرادته وجه الله تعالى بالعلم فيدل عليه قوله: (الجدال في الدين ليس بشيء)، ويدل عليه قول الشافعي رحمه الله: (إني شهدت مالكا وقد سئل عن ثمان وأربعين مسئلة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري)، ومن يرد غير وجه الله تعالى بعلمه فلا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: (إذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب وما أحد أمن علي من مالك). وروي أن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره ثم دس عليه من يسأله فروى على ملأ من الناس ليس على مستكره طلاق فضربه بالسياط ولم يترك رواية الحديث.

وقال مالك رحمه الله ما كان رجل صادقا في حديثه ولا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه مع الهرم آفة ولا خرف وأما زهده في الدنيا فيدل عليه ما روي أن المهدي أمير المؤمنين سأله فقال له هل لك من دار فقال لا ولكن أحدثك سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول نسب المرء داره وسأله الرشيد هل لك دار فقال لا فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال اشتر بها دارا فأخذها ولم ينفقها فلما أراد الرشيد الشخوص قال لمالك رحمه الله ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت على أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن فقال له أما حمل الناس على الموطأ فليس إليه سبيل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند كل أهل مصر علم وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة)[77] وأما الخروج معك فلا سبيل إليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون)[78]، وقال صلى الله عليه وسلم: (المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد)[79]، وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها) يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إلي فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهكذا كان زهد مالك في الدنيا، ولما حملت إليه الأموال الكثيرة من أطراف الدنيا لانتشار علمه وأصحابه كان يفرقها في وجوه الخير ودل سخاؤه على زهده وقلة حبه للدنيا وليس الزهد فقد المال وإنما الزهد فراغ القلب عنه.

ولقد كان سليمان عليه السلام في ملكه من الزهاد ويدل على احتقاره للدنيا ما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: (رأيت على باب مالك كراعا من أفراس خراسان ويقال مصر ما رأيت أحسن منه فقلت لمالك رحمه الله ما أحسنه فقال هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله فقلت دع لنفسك منها دابة تركبها فقال إني أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة). فانظر إلى سخائه إذ وهب جميع ذلك دفعة واحدة وإلى توقيره لتربة المدينة. ويدل على إرادته بالعلم وجه الله تعالى واستحقار للدنيا ما روي أنه قال: (دخلت على هارون الرشيد فقال لي يا أبا عبد الله (ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ) قال فقلت أعز الله مولانا الأمير: (إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم أعزرتموه عز، وإن أنتم أذللتموه ذل، والعلم يؤتى ولا يأتي، فقال: صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس).

وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فلقد كان أيضا عابدا زاهدا بالله تعالى خائفا منه مريدا وجه الله تعالى بعلمه، فأما كونه عابدا فيعرف بما روي عن ابن المبارك أنه قال: (كان أبو حنيفة رحمه الله له مروءة وكثرة صلاة). وروى حماد بن أبي سليمان أنه كان يحيي الليل كله وروي أنه كان يحيي نصف الليل، فمر يوما في طريق فأشار إليه إنسان وهو يمشي فقال لآخر هذا هو الذي يحيي الليل كله فلم يزل بعد ذلك يحيى الليل كله وقال: (أنا أستحي من الله سبحانه أن أوصف بما ليس في من عبادته).

وأما زهده فقد روي عن الربيع بن عاصم قال أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة فقدمت بأبي حنيفة عليه فأراده أن يكون حاكما على بيت المال فأبى فضربه عشرين سوطا، فانظر كيف هرب من الولاية واحتمل العذاب. قال الحكم بن هشام الثقفي حدثت بالشام حديثا في أبي حنيفة أنه كان من أعظم الناس أمانة وأراده السلطان على أن يتولى مفاتيح خزائنه أو يضرب ظهره فاختار عذابهم له على عذاب الله تعالى. وروى أنه ذكر أبو حنيفة عند ابن المبارك فقال أتذكرون رجلا عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففر منها. وروي عن محمد بن شجاع عن بعض أصحابه أنه قيل لأبي حنيفة قد أمر لك أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور بعشرة آلاف درهم قال فما رضي أبو حنيفة قال فلما كان اليوم الذي توقع أن يؤتى بالمال فيه صلى الصبح ثم تغشى بثوبه فلم يتكلم فجاء رسول الحسن بن قحطبة بالمال فدخل عليه فلم يكلمه فقال بعض من حضر ما يكلمنا إلا بالكلمة بعد الكلمة أي هذه عادته فقال ضعوا المال في هذا الجراب في زاوية البيت ثم أوصى أبو حنيفة بعد ذلك بمتاع بيته وقال لابنه إذا مت ودفنتموني فخذ هذه البدرة واذهب بها إلى الحسن ابن قحطبة فقل له خذ وديعتك التي أودعتها أبا حنيفة قال ابنه ففعلت ذلك فقال الحسن رحمة الله على أبيك فلقد كان شحيحا على دينه وروي أنه دعي إلى ولاية القضاء فقال أنا لا أصلح لهذا فقيل له لم فقال إن كنت صادقا فما أصلح لها وإن كنت كاذبا فالكاذب لا يصلح للقضاء وأما علمه بطريق الآخرة وطريق أمور الدين ومعرفته بالله عز وجل فيدل عليه شدة خوفه من الله تعالى وزهده في الدنيا وقد قال ابن جريج قد بلغني عن كوفيكم هذا النعمان بن ثابت أنه شديد الخوف لله تعالى وقال شريك النخعي كان أبو حنيفة طويل الصمت دائم الفكر قليل المحادثة للناس فهذا من أوضح الأمارات على العلم الباطني والاشتغال بمهمات الدين فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله فهذه نبذة من أحوال الأئمة الثلاثة وأما الإمام أحمد بن حنبل وسفيان الثوري رحمهما الله تعالى فأتباعهما أقل من أتباع هؤلاء وسفيان أقل أتباعا من أحمد ولكن اشتهارهما بالورع والزهد أظهر وجميع هذا الكتاب مشحون بحكايات أفعالهما وأقوالهما فلا حاجة إلى التفصيل الآن فانظر الآن في غير هؤلاء الأئمة الثلاثة وتأمل أن هذه الأحوال والأقوال والأفعال في الإعراض عن الدنيا والتجرد لله عز وجل هل يثمرها مجرد العلم بفروع الفقه من معرفة السلم والإجارة والظهار والإيلاء واللعان أو يثمرها علم آخر أعلى وأشرف منه وانظر إلى الذين ادعوا الاقتداء بهؤلاء أصدقوا في دعواهم أم لا.

 

 

الباب الثالث

فيما يعده العامة من العلوم المحمودة وليس منها

 

وفيه بيان الوجه الذي قد يكون به بعض العلوم مذموما وبيان تبديل أسامي العلوم وهو الفقه والعلم والتوحيد والتذكير والحكمة وبيان القدر المحمود من العلوم الشرعية والقدر المذموم منها

بيان علة ذم العلم المذموم

لعلك تقول: العلم هو معرفة الشيء على ما هو به وهو من صفات الله تعالى فكيف يكون الشيء علما ويكون مع كونه علما مذموما.

فاعلم أن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة:

الأول أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن له وأنه سبب يتوصل به إلى التفرقة بين الزوجين وقد سحر[80] رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرض بسببه حتى أخبره جبريل عليه السلام بذلك وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر وهو نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر وبأمور حسابية في مطالع النجوم فيتخذ من تلك الجواهر هيكل على صورة الشخص المسحور ويرصد به وقت مخصوص من المطالع وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع ويتوصل بسببها إلى الاستعانة بالشياطين ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله تعالى العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور ومعرفة هذه الأسباب من حيث إنها معرفة ليست بمذمومة ولكنها ليست تصلح إلا للإضرار بالخلق والوسيلة إلى الشر شر فكان ذلك هو السبب في كونه علما مذموما بل من اتبع وليا من أولياء الله ليقتله وقد اختفى منه في موضع حريز إذا سأل الظالم عن محله لم يجز تنبيهه عليه بل وجب الكذب فيه وذكر موضعه إرشاد وإفادة علم بالشيء على ما هو عليه ولكنه مذموم لأدائه إلى الضرر.

الثاني أن يكون مضرا بصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم فإنه في نفسه غير مذموم لذاته إذ هو قسمان:

قسم حسابي وقد نطق القرآن بأن مسير الشمس والقمر محسوب إذ قال عز وجل: ]الشمس والقمر بحسبان[ (الرحمن: 5). وقال عز وجل: ]والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم[ (يس: 39).

والثاني: الأحكام، وحاصله يرجع إلى الاستدلال على الحوادث بالأسباب وهو يضاهي استدلال الطبيب بالنبض على ما سيحدث من المرض وهو معرفة لمجاري سنة الله تعالى وعادته في خلقه ولكن قد ذمه الشرع قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا)[81]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أخاف على أمتي بعدي ثلاثا حيف الأئمة والإيمان بالنجوم والتكذيب بالقدر)[82].

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في البر والبحر ثم أمسكوا. وإنما زجر عنه من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه مضر بأكثر الخلق فإنه إذا ألقى إليهم أن هذه الآثار تحدث عقيب سير الكواكب وقع في نفوسهم أن الكواكب هي المؤثرة وأنها الآلهة المدبرة لأنها جواهر شريفة سماوية ويعظم وقعها في القلوب فيبقى القلب ملتفتا إليها ويرى الخير والشر محذورا أو مرجوا من جهتها وينمحي ذكر الله سبحانه عن القلب فإنه الضعيف يقصر نظره على الوسائط والعالم الراسخ هو الذي يطلع على أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه وتعالى ومثال نظر الضعيف إلى حصول ضوء الشمس عقيب طلوع الشمس مثال النملة لو خلق لها عقل وكانت على سطح قرطاس وهي تنظر إلى سواد الخط يتجدد فتعتقد أنه فعل القلم ولا تترقى في نظرها إلى مشاهدة الأصابع ثم منها إلى اليد ثم منها إلى الإرادة المحركة اليد ثم منها إلى الكاتب القادر المريد ثم منه إلى خالق اليد والقدرة والإرادة فأكثر نظر الخلق مقصور على الأسباب القريبة السافلة مقطوع من الترقي إلى مسبب الأسباب فهذا أحد أسباب النهي عن النجوم.

وثانيها: أن أحكام النجوم تخمين محض ليس يدرك في حق آحاد الأشخاص لا يقينا ولا ظنا فالحكم به حكم يجهل فيكون ذمه على هذا من حيث إنه جهل لا من حيث إنه علم فلقد كان ذلك معجزة لإدريس عليه السلام فيما يحكى وقد اندرس وانمحى ذلك العلم وانمحق وما يتفق من إصابة المنجم على ندور فهو اتفاق لأنه قد يطلع على بعض الأسباب ولا يحصل المسبب عقيبها إلا بعد شروط كثيرة ليس في قدرة البشر الاطلاع على حقائقها فإن اتفق أن قدر الله تعالى بقية الأسباب وقعت الإصابة وإن لم يقدر أخطأ ويكون ذلك كتخمين الإنسان في أن السماء تمطر اليوم مهما رأى الغيم يجتمع وينبعث من الجبال فيتحرك ظنه بذلك وربما يحمى النهار بالشمس ويذهب الغيم وربما يكون بخلافه ومجرد الغيم ليس كافيا في مجيء المطر وبقية الأسباب لا تدرى وكذلك تخمين الملاح أن السفينة تسلم اعتمادا على ما ألفه من العادة في الرياح ولتلك الرياح أسباب خفية هو لا يطلع عليها فتارة يصيب في تخمينه وتارة يخطىء ولهذه العلة يمنع القول عن النجوم أيضا.

وثالثها: أنه لا فائدة فيه فأقل أحواله أنه خوض في فضول لا يغني وتضييع العمر الذي هو أنفس بضاعة الإنسان في غير فائدة وذلك غاية الخسران فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل والناس مجتمعون عليه فقال: (ما هذا فقالوا رجل علامة فقال بماذا قالوا بالشعر وأنساب العرب فقال علم لا ينفع وجهل لا يضر)[83]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة)[84].

فإذن الخوض في النجوم وما يشبهه اقتحام خطر وخوض في جهالة من غير فائدة فإن ما قدر كائن والاحتراز منه غير ممكن بخلاف الطب فإن الحاجة ماسة إليه وأكثر أدلته بما يطلع عليه وبخلاف التعبير وإن كان تخمينا لأنه جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ولا خطر فيه.

السبب الثالث: الخوض في علم لا يستفيد الخائض فيه فائدة علم فهو مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها وكالبحث عن الأسرار الإلهية إذ يطلع الفلاسفة والمتكلمون إليها ولم يستقلوا بها ولم يستقل بها وبالوقوف على طرق بعضها إلا الأنبياء والأولياء فيجب كف الناس عن البحث عنها وردهم إلى ما نطق به الشرع ففي ذلك مقنع للموفق فكم من شخص خاض في العلوم واستضر بها ولو لم يخض فيها لكان حاله أحسن في الدين مما صار إليه ولا ينكر كون العلم ضارا لبعض الناس كما يضر لحم الطير وأنواع الحلوى اللطيفة بالصبي الرضيع بل رب شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور فلقد حكي أن بعض الناس شكا إلى طبيب عقم امرأته وأنها لا تلد فجس الطبيب نبضها وقال لا حاجة لك إلى دواء الولادة فإنك ستموتين إلى أربعين يوما وقد دل النبض عليه فاستشعرت المرأة الخوف العظيم وتنغص عليها عيشها وأخرجت أموالها وفرقتها وأوصت وبقيت لا تأكل ولا تشرب حتى انقضت المدة فلم تمت فجاء زوجها إلى الطبيب وقال له لم تمت فقال الطبيب قد علمت ذلك فجامعها الآن فإنها تلد فقال كيف ذاك قال رأيتها سمينة وقد انعقد الشحم على فم رحمها فعلمت أنها لا تهزل إلا بخوف الموت فخوفتها بذلك حتى هزلت وزال المانع من الولادة فهذا ينبهك على استشعار خطر بعض العلوم ويفهمك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (نعوذ بالله من علم لا ينفع)[85].

فاعتبر بهذه الحكاية ولا تكن بحاثا عن علوم ذمها الشرع وزجر عنها ولازم الاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم واقتصر على اتباع السنة فالسلامة في الاتباع والخطر في البحث عن الأشياء والاستقلال ولا تكثر اللجج برأيك ومعقولك ودليلك وبرهانك وزعمك أني أبحث عن الأشياء لأعرفها على ما هي عليه فأي ضرر في التفكر في العلم فإن ما يعود عليك من ضرره أكثر وكم من شيء تطلع عليه فيضرك اطلاعك عليه ضررا يكاد يهلكك في الآخرة إن لم يتداركك الله برحمته.

واعلم أنه كما يطلع الطبيب الحاذق على أسرار في المعالجات يستبعدها من لا يعرفها فكذلك الأنبياء أطباء القلوب والعلماء بأسباب الحياة الأخروية فلا تتحكم على سننهم بمعقولك فتهلك فكم من شخص يصيبه عارض في أصبعه فيقتضي عقله أن يطليه حتى ينبهه الطبيب الحاذق أن علاجه أن بطلي الكف من الجانب الآخر من البدن فيستبعد ذلك غاية الاستبعاد من حيث لا يعلم كيفية انشعاب الأعصاب ومنابتها ووجه التفافها على البدن فهكذا الأمر في طريق الآخرة وفي دقائق سنن الشرع وآدابه وفي عقائده التي تعبد الناس بها أسرار ولطائف ليست في سعة العقل وقوته الإحاطة بها كما أن في خواص الأحجار أمورا عجائب غاب عن أهل الصنعة علمها حتى لم يقدر أحد على أن يعرف السبب الذي به يجذب المغناطيس الحديد فالعجائب والغرائب في العقائد والأعمال وإفادتها لصفاء القلوب ونقائها وطهارتها وتزكيتها وإصلاحها للترقي إلى جوار الله تعالى وتعرضها لنفحات فضله أكثر وأعظم مما في الأدوية والعقاقير وكما أن العقول تقصر عن إدراك منافع الأدوية مع أن التجربة سبيل إليها فالعقول تقصر عن إدراك ما ينفع في حياة الآخرة مع أن التجربة غير متطرقة إليها وإنما كانت التجربة تتطرق إليها لو رجع إلينا بعض الأموات فأخبرنا عن الأعمال المقبولة النافعة المقربة إلى الله تعالى زلفى وعن الأعمال المبعدة عنه وكذا عن العقائد وذلك مما لا يطمع فيه فيكفيك من منفعة العقل أن يهديك إلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم ويفهمك موارد إشاراته فاعزل العقل بعد ذلك عن التصرف ولازم الاتباع فلا تسلم إلا به والسلام.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن من العلم جهلا وإن من القول عيا)[86]. ومعلوم أن العلم لا يكون جهلا ولكنه يؤثر تأثير الجهل في الإضرار وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : (قليل من التوفيق خير من كثير من العلم)[87]. وقال عيسى عليه السلام: ما أكثر الشجر وليس كلها بمثمر وليس كلها بطيب، وما أكثر العلوم وليس كلها بنافع!.

 

بيان ما بدل من ألفاظ العلوم

اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة وتبديلها ونقلها بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول وهي خمسة ألفاظ الفقه، والعلم، والتوحيد، والتذكير، والحكمة. فهذه أسام محمودة والمتصفون بها أرباب المناصب في الدين ولكنها نقلت الآن إلى معان مذمومة فصارت القلوب تنفر عن مذمة من يتصف بمعانيها لشيوع إطلاق هذه الأسامي عليهم.

اللفظ الأول: الفقه؛ فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل إذا خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها فمن كان أشد تعمقا فيها وأكثر اشتغالا بها يقال هو الأفقه ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب ويدلك عليه قوله عز وجل: ]ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم[ (التوبة: 122). وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه كما نشاهد الآن من المتجردين له وقال تعالى:] لهم قلوب لا يفقهون بها [(الأعراف: 179). وأراد به معاني الإيمان دون الفتاوى ولعمري إن الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنى واحد وإنما يتكلم في عادة الاستعمال به قديما وحديثا. قال تعالى: ]لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله[ (الحشر: 13) الآية. فأحال قلة خوفهم من الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه فانظر إن كان ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات الفتاوى أو هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم وقال صلى الله عليه وسلم: (علماء فقهاء)[88]. للذين وفدوا عليه وسئل سعد بن إبراهيم الزهري رحمه الله أي أهل المدينة أفقه فقال أتقاهم لله تعالى فكأنه أشار إلى ثمرة الفقه والتقوى ثمرة العلم الباطني دون الفتاوى والأقضية وقال صلى الله عليه وسلم : (ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه قالوا بلى قال من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من مكر الله ولم يؤيسهم من روح الله ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه)[89]. ولما روى أنس بن مالك قوله صلى الله عليه وسلم: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من غدوة إلى طلوع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب)[90]. قال فالتفت إلى زيد الرقاشي وزياد النميري وقال لم تكن مجالس الذكر مثل مجالسكم هذه يقص أحدكم وعظه على أصحابه ويسرد الحديث سردا إنما كنا نقعد فنذكر الإيمان ونتدبر القرآن ونتفقه في الدين ونعد نعم الله علينا تفقها فسمى تدبر القرآن وعد النعم تفقها.

قال صلى الله عليه وسلم : (لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله وحتى يرى القرآن وجوها كثيرة)[91]. وروى أيضا موقوفا على أبي الدرداء رضي الله عنه مع قوله: (ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا).

وقد سأل فرقد السبخي الحسن عن الشيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن رحمه الله ثكلتك أمك فريقد وهل رأيت فقيها بعينك إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف نفسه عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم ولم يقل في جميع في ذلك الحافظ لفروع الفتاوى ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولا للفتاوى في الأحكام الظاهرة ولكن كان بطريق العموم والشمول أو بطريق الاستتباع فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر فبان من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد له والإعراض عن علم الآخرة وأحكام القلوب ووجدوا على ذلك معينا من الطبع فإن علم الباطن غامض والعمل به عسير والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال متعذر فوجد الشيطان مجالا لتحسين ذلك في القلوب بواسطة تخصيص اسم الفقه الذي هو اسم محمود في الشرع.

اللفظ الثاني: العلم، وقد كان يطلق ذلك على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه حتى أنه لما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود رحمه الله لقد مات تسعة أعشار العلم فعرفه بالألف واللام ثم فسره العلم بالله سبحانه وتعالى وقد تصرفوا فيه أيضا بالتخصيص حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها فيقال هو العالم على الحقيقة وهو الفحل في العلم ومن لا يمارس ذلك ولا يشتغل به يعد من جملة الضعفاء ولا يعدونه في زمرة أهل العلم وهذا أيضا تصرف بالتخصيص ولكن ما ورد من فضائل العلم والعلماء أكثره في العلماء بالله تعالى وبأحكامه وبأفعاله وصفاته وقد صار الآن مطلقا على من لا يحيط من علوم الشرع بشيء سوى رسوم جدلية في مسائل خلافية فيعد بذلك من فحول العلماء مع جهله بالتفسير والأخبار وعلم المذهب وغيره وصار ذلك سببا مهلكا لخلق كثير من أهل الطلب للعلم.

اللفظ الثالث: التوحيد، وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وسمى المتكلمون العلماء بالتوحيد مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح بابا من الجدل والمماراة فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع فلقد كان ذلك معلوما للكل وكان العلم بالقرآن هو العلم كله وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله فهذا مقام شريف إحدى ثمراته التوكل كما سيأتي بيانه في كتاب التوكل ومن ثمراته أيضا ترك شكاية الخلق وترك الغضب عليهم والرضا والتسليم لحكم الله تعالى وكانت إحدى ثمراته قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قيل له في مرضه أنطلب لك طبيبا فقال الطبيب أمرضني وقول آخر لما مرض فقيل له ماذا قال لك الطبيب في مرضك فقال قال لي إني فعال لما أريد وسيأتي في كتاب التوكل وكتاب التوحيد شواهد ذلك.

والتوحيد جوهر نفيس وله قشران: أحدهما أبعد عن اللب من الآخر، فخصص الناس الاسم بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر وأهملوا اللب بالكلية.

فالقشر الأول: هو أن تقول بلسانك لا إله إلا الله وهذا يسمى توحيدا مناقضا للتثليث الذي صرح به النصارى ولكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره.

والقشر الثاني: أن لا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده وكذلك التصديق به وهو توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن تشويش المبتدعة.

والثالث: وهو اللباب أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره ويخرج عن هذا التوحيد أتباع الهوى فكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده قال الله تعالى: ]أفرأيت من اتخذ إلهه هواه[ (الجاثية: 23). وقال صلى الله عليه وسلم: (أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى)[92].

وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم وإنما يعبد هواه إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى ويخرج من هذا التوحيد التسخط على الخلق والالتفات إليهم فإن من يرى الكل من الله عز وجل كيف يتسخط على غيره فلقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام وهو مقام الصديقين فانظر إلى ماذا حول وبأي قشر قنع منه وكيف اتخذوا هذا معتصما في التمدح والتفاخر بما اسمه محمود مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحق الحمد الحقيقي وذلك كإفلاس من يصبح بكرة ويتوجه إلى القبلة ويقول: ]وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا[ (الأنعام: 79). وهو أول كذب يفاتح الله به كل يوم إن لم يكن وجه قلبه متوجها إلى الله تعالى على الخصوص فإنه إن أراد بالوجه وجه الظاهر فما وجهه إلا إلى الكعبة وما صرفه إلا عن سائر الجهات والكعبة ليست جهة للذي فطر السموات والأرض حتى يكون المتوجه إليها متوجها إليه تعالى عن أن تحده الجهات والأقطار وإن أراد به وجه القلب وهو المطلوب المتعبد به فكيف يصدق في قوله وقلبه متردد في أوطاره وحاجاته الدنيوية ومتصرف في طلب الحيل في جمع الأموال والجاه واستكثار الأسباب ومتوجه بالكلية إليها فمتى وجه وجهه للذي فطر السموات والأرض وهذه الكلمة خبر عن حقيقة التوحيد فالموحد هو الذي لا يرى إلا الواحد ولا يوجه وجهه إلا إليه وهو امتثال قوله تعالى: ]قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون[ (الأنعام: 91) وليس المراد به القول باللسان فإنما اللسان ترجمان يصدق مرة ويكذب أخرى وإنما موقع نظر الله تعالى المترجم عنه هو القلب وهو معدن التوحيد ومنبعه.

اللفظ الرابع: الذكر والتذكير، فقد قال الله تعالى: ]وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين[ (الذاريات: 55) وقد ورد في الثناء على مجالس الذكر أخبار كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم: (( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) قيل وما رياض الجنة؟ قال: (( مجالس الذكر))[93]. وفي الحديث: (( إن لله تعالى ملائكة سياحين في الدنيا سوى ملائكة الخلق إذا رأوا مجالس الذكر ينادي بعضهم بعضا ألا هلموا إلى بغيتكم فيأتونهم ويحفون بهم ويستمعون ألا فاذكروا الله وذكروا أنفسكم))[94]. فنقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعاظ في هذا الزمان يواظبون عليه وهو القصص والأشعار والشطح والطامات أما القصص فهي بدعة وقد ورد نهي السلف عن الجلوس إلى القصاص وقالوا لم يكن ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم[95]. ولا في زمن أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما حتى ظهرت الفتنة وظهر القصاص وروى أن ابن عمر رضي الله عنهما خرج من المسجد فقال ما أخرجني إلا القاص ولولاه لما خرجت وقال ضمرة قلت لسفيان الثوري نستقبل القاص بوجوهنا فقال ولوا البدع ظهوركم وقال ابن عون دخلت على ابن سيرين فقال ما كان اليوم من خبر فقلت نهى الأمير القصاص أن يقصوا فقال وفق للصواب ودخل الأعمش جامع البصرة فرأى قاصا يقص ويقول حدثنا الأعمش فتوسط الحلقة وجعل ينتف شعر إبطه فقال القاص يا شيخ ألا تستحي فقال لم أنا في سنة وأنت في كذب أنا الأعمش وما حدثتك وقال أحمد أكثر الناس كذبا القصاص والسؤال وأخرج علي رضي الله عنه القصاص من مسجد جامع البصرة فلما سمع كلام الحسن البصري لم يخرجه إذا كان يتكلم في علم الآخرة والتفكير بالموت والتنبيه على عيوب النفس وآفات الأعمال وخواطر الشيطان ووجه الحذر منها ويذكر بآلاء الله ونعمائه وتقصير العبد في شكره ويعرف حقارة الدنيا وعيوبها وتصرمها ونكث عهدها وخطر الآخرة وأهوالها، فهذا هو التذكير المحمود شرعا الذي روى الحث عليه في حديث أبي ذر رضي الله عنه حيث قال: (( حضور مجلس ذكر أفضل من صلاة ألف ركعة وحضور مجلس علم أفضل من عيادة ألف مريض وحضور مجلس علم أفضل من شهود ألف جنازة، فقيل: يا رسول الله ومن قراءة القرآن، قال: وهل تنفع قراءة القرآن إلا بالعلم ))[96]. وقال عطاء رحمه الله مجلس ذكر يكفر سبعين مجلسا من مجالس اللهو فقد اتخذ المزخرفون هذه الأحاديث حجة على تزكية أنفسهم ونقلوا اسم التذكير إلى خرافاتهم وذهلوا عن طريق الذكر المحمود واشتغلوا بالقصص التي تتطرق إليها الاختلافات والزيادة والنقص وتخرج عن القصص الواردة في القرآن وتزيد عليها فإن من القصص ما ينفع سماعه ومنها ما يضر وإن كان صدقا ومن فتح ذلك الباب على نفسه اختلط عليه الصدق بالكذب والنافع بالضار فمن هذا نهى عنه ولذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله ما أحوج الناس إلى قاص صادق فإن كانت القصة من قصص الأنبياء عليهم السلام فيما يتعلق بأمور دينهم وكان القاص صادقا صحيح الرواية فلست أرى بها بأسا فليحذر الكذب وحكايات أحوال تومىء إلى هفوات أو مساهلات يقصر فهم العوام عن درك معانيها أو عن كونها هفوة نادرة مردفة بتفكيرات متداركة بحسنات تغطى عليها فإن العامي يعتصم بذلك في مساهلاته وهفواته ويمهد لنفسه عذرا فيه ويحتج بأنه حكى كيت وكيت عن بعض المشايخ وبعض الأكابر فكلنا بصدد المعاصي فلا غرو إن عصيت الله تعالى فقد عصاه من هو أكبر مني ويفيده ذلك جراءة على الله تعالى من حيث لا يدرى فبعد الاحتراز عن هذين المحذورين فلا بأس به وعند ذلك يرجع إلى القصص المحمودة وإلى ما يشتمل عليه القرآن ويصح في الكتب الصحيحة من الأخبار ومن الناس من يستجيز وضع الحكايات المرغبة في الطاعات ويزعم أن قصده فيها دعوة الخلق إلى الحق فهذه من نزعات الشيطان فإن في الصدق مندوحة عن الكذب وفيما ذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم غنية عن الاختراع في الوعظ كيف وقد كره تكلف السجع وعد ذلك من التصنع قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لابنه عمر وقد سمعه يسجع هذا الذي يبغضك إلي لا قضيت حاجتك أبدا حتى تتوب وقد كان جاءه في حاجة وقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة في سجع من ثلاث كلمات: (( إياك والسجع يا ابن رواحة))[97]. فكأن السجع المحذور المتكلف ما زاد على كلمتين ولذلك لما قال الرجل في دية الجنين كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك يطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( أسجع كسجع الأعراب ))[98].

وأما الأشعار فتكثيرها في المواعظ مذموم قال الله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وقال تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له وأكثر ما اعتاده الوعاظ من الأشعار ما يتعلق بالتواصف في العشق وجمال المعشوق وروح الوصال وألم الفراق والمجلس لا يحوى إلا أجلاف العوام وبواطنهم مشحونة بالشهوات وقلوبهم غير منفكة عن الالتفات إلى الصور المليحة فلا تحرك الأشعار من قلوبهم إلا ما هو مستكن فيها فتشتعل فيها نيران الشهوات فيزعقون ويتواجدون وأكثر ذلك أو كله يرجع إلى نوع فساد فلا ينبغي أن يستعمل من الشعر إلا ما فيه موعظة أو حكمة على سبيل استشهاد واستئناس وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشعر لحكمة))[99].

ولو حوى المجلس الخواص الذين وقع الاطلاع على استغراق قلوبهم بحب الله تعالى ولم يكن معهم غيرهم فإن أولئك لا يضر معهم الشعر الذي يشير ظاهره إلى الخلق فإن المستمع ينزل كل ما يسمعه على ما يستولي على قلبه كما سيأتي تحقيق ذلك في كتاب السماع ولذلك كان الجنيد رحمه الله يتكلم على بضعة عشر رجلا فإن كثروا لم يتكلم وما تم أهل مجلسه قط عشرين وحضر جماعة باب دار ابن سالم فقيل له تكلم فقد حضر أصحابك فقال لا ما هؤلاء أصحابي إنما هم أصحاب المجلس إن أصحابي هم الخواص وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية:

أحدهما: الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون قيل لنا كذا وقلنا كذا ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس ويستشهدون بقوله أنا الحق وبما حكى عن أبي يزيد البسطامي أنه قال سبحاني سبحاني وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم وأظهروا مثل هذه الدعاوى فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا هذا إنكار مصدره العلم والجدال والعلم حجاب والجدل عمل النفس وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة وأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه كما لو سمع وهو يقول إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية.

الصنف الثاني: من الشطح كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان أو يحمل على أن يفهم منها معاني ما أريدت بها ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (( ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلا كان فتنة عليهم))[100]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ))[101]. وهذا فيما يفهمه صاحبه ولا يبلغه عقل المستمع فكيف فيما لا يفهمه قائله فإن كان يفهمه القائل دون المستمع فلا يحل ذكره وقال عيسى عليه السلام لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء وفي لفظ آخر من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل ومن منعها أهلها فقد ظلم إن للحكمة حقا وإن لها أهلا فأعط كل ذي حق حقه.

وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات فهذا أيضا حرام وضرره عظيم فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر وإنما قصد أصحابها الإغراب لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة له وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم كما حكيناه من مذاهبهم في كتاب المستظهر المصنف في الرد على الباطنية ومثال تأويل أهل الطامات قول بعضهم في تأويل قوله تعالى: ]اذهب إلى فرعون إنه طغى[ (طه: 24 و النازعات: 17) أنه إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان وفي قوله تعالى ]وأن ألق عصاك[ (القصص: 31) أي ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (( تسحروا فإن في السحور بركة ))[102]. أراد به الاستغفار في الأسحار وأمثال ذلك حتى يحرفون القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانها قطعا كتنزيل فرعون على القلب فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى له وكأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار وليس من جنس الشياطين والملائكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه وكذا حمل السحور على الاستغفار فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتناول الطعام ويقول: (( تسحرو))[103] ، و ((هلموا إلى الغذاء المبارك))[104] . فهذه أمور يدرك بالتواتر والحس بطلانها نقلا وبعضها يعلم بغالب الظن وذلك في أمور لا يتعلق بها الإحساس فكل ذلك حرام وضلالة وإفساد للدين على الخلق ولم ينقل شيء من ذلك عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الحسن البصري مع إكبابه على دعوة الخلق ووعظهم، فلا يظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: (( من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار))[105]. معنى إلا هذا النمط وهو أن يكون غرضه ورأيه تقرير أمر وتحقيقه فيستجر شهادة القرآن إليه ويحمله عليه من غير أن يشهد لتنزيله عليه دلالة لفظية لغوية أو نقلية ولا ينبغي أن يفهم منه أنه يجب أن لا يفسر القرآن بالاستنباط والفكر فإن من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة والمفسرين خمسة معان وستة وسبعة ونعلم أن جميعها غير مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم فإنها قد تكون متنافية لا تقبل الجمع فيكون ذلك مستنبطا بحسن الفهم وطول الفكر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ))[106]. ومن يستجيز من أهل الطامات مثل هذه التأويلات مع علمه بأنها غير مرادة بالألفاظ ويزعم أنه يقصد بها دعوة الخلق إلى الخالق يضاهي من يستجيز الاختراع والوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هو في نفسه حق ولكن لم ينطق به الشرع كمن يضع في كل مسألة يراها حقا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فذلك ظلم وضلال ودخول في الوعيد المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: (( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ))[107] . بل الشر في تأويل هذه الألفاظ أطم وأعظم لأنها مبدلة للثقة بالألفاظ وقاطعة طريق الاستفادة والفهم من القرآن بالكلية فقد عرفت كيف صرف الشيطان دواعي الخلق عن العلوم المحمودة إلى المذمومة فكل ذلك من تلبيس علماء السوء بتبديل الأسامي فإن اتبعت هؤلاء اعتمادا على الاسم المشهور من غير التفات إلى ما عرف في العصر الأول كنت كمن طلب الشرف بالحكمة باتباع من يسمى حكيما فإن اسم الحكيم صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجم في هذا العصر وذلك بالغفلة عن تبديل الألفاظ.

اللفظ الخامس: وهو الحكمة فإن اسم الحكيم صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجم حتى على الذي يدحرج القرعة على أكف السوادية في شوارع الطرق والحكمة هي التي أثنى الله عز وجل عليها فقال تعالى: ]يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا[ (البقرة: 269). وقال صلى الله عليه وسلم: (( كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير له من الدنيا وما فيها ))[108]. فانظر ما الذي كانت الحكمة عبارة عنه وإلى ماذا نقل وقس به بقية الألفاظ واحترز عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء فإن شرهم على الدين أعظم من شر الشياطين إذ الشيطان بواسطتهم يتدرج إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق.

ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شر الخلق أبى وقال:  ((اللهم اغفر)) حتى كرروا عليه فقال: (( هم علماء السوء))[109]. فقد عرفت العلم المحمود والمذموم ومثار الالتباس وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف أو تتدلى بحبل الغرور وتتشبه بالخلف فكل ما ارتضاه السلف من العلوم قد اندرس وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع ومحدث وقد صح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فقيل ومن الغرباء قال الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي والذين يحيون ما أماتوه من سنتي ))[110]. وفي آخر (هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم)[111]. وفي حديث آخر (الغرباء ناس قليل صالحون بين ناس كثير ومن يبغضهم في الخلق أكثر ممن يحبهم)[112]. وقد صارت تلك العلوم غريبة بحيث يمقت ذاكرها ولذلك قال الثوري رحمه الله إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط لأنه إن نطق بالحق أبغضوه.

 

بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة

اعلم أن العلم بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام قسم هو مذموم قليله وكثيره وقسم هو محمود قليله وكثيرة وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل وقسم يحمد منه مقدار الكفاية ولا يحمد الفاضل عليه والاستقصاء فيه وهو مثل أحوال البدن فإن منها ما يحمد قليله وكثيره كالصحة والجمال ومنها ما يذم قليله وكثيره كالقبح وسوء الخلق ومنها ما يحمد الاقتصاد فيه كبذل المال فإن التبذير لا يحمد فيه وهو بذل وكالشجاعة فإن التهور لا يحمد فيها وإن كان من جنس الشجاعة فكذلك العلم فالقسم المذموم منه قليله وكثيره هو ما لا فائدة فيه في دين ولا دنيا إذ فيه ضرر يغلب نفعه كعلم السحر والطلسمات والنجوم فبعضه لا فائدة فيه أصلا وصرف العمر الذي هو أنفس ما يملكه الإنسان إليه إضاعة وإضاعة النفيس مذمومة ومنه ما فيه ضرر يزيد على ما يظن أنه يحصل به من قضاء وطر في الدنيا فإن ذلك لا يعتد به بالإضافة إلى الضرر الحاصل عنه وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وسنته في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا فإن هذا علم مطلوب لذاته وللتوصل به إلى سعادة الآخرة وبذل المقدور فيه إلى أقصى الجهد قصور عن حد الواجب فإنه البحر الذي لا يدرك غوره وإنما يحوم الحائمون على سواحله وأطرافه بقدر ما يسر لهم وما خاض أطرافه إلا الأنبياء والأولياء والراسخون في العلم على اختلاف درجاتهم بحسب اختلاف قوتهم وتفاوت تقدير الله تعالى في حقهم وهذا هو العلم المكنون الذي لا يسطر في الكتب ويعين على التنبه له التعلم ومشاهدة أحوال علماء الآخرة كما سيأتي علامتهم هذا في أول الأمر ويعين عليه في الآخرة المجاهدة والرياضة وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا والتشبه فيها بالأنبياء والأولياء ليتضح منه لكل ساع إلى طلبه بقدر الرزق لا بقدر الجهد ولكن لا غنى فيه عن الاجتهاد فالمجاهدة مفتاح الهداية لا مفتاح لها سواها وأما العلوم التي لا يحمد منها إلا مقدار مخصوص فهي العلوم التي أوردناها في فروض الكفايات فإن في كل علم منها اقتصارا وهو الأقل واقتصادا وهو الوسط واستقصاء وراء ذلك الاقتصاد لا مرد له إلى آخر العمر فكن أحد رجلين إما مشغولا بنفسك وإما متفرغا لغيرك بعد الفراغ من نفسك وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك فإن كنت المشغول بنفسك فلا تشتغل إلا بالعلم الذي هو فرض عليك بحسب ما يقتضيه حالك وما يتعلق منه بالأعمال الظاهرة من تعلم الصلاة والطهارة والصوم وإنما الأهم الذي أهمله الكل علم صفات القلب وما يحمد منها وما يذم إذ لا ينفك بشر عن الصفات المذمومة مثل الحرص والحسد والرياء والكبر والعجب وأخواتها وجميع ذلك مهلكات وإهمالها من الواجبات مع أن الاشتغال بالأعمال الظاهرة يضاهي الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذي بالجرب والدماميل والتهاون بإخراج المادة بالفصد والإسهال وحشوية العلماء يشيرون بالأعمال الظاهرة كما يشير الطرقية من الأطباء بطلاء ظاهر البدن وعلماء الآخرة لا يشيرون إلا بتطهير الباطن وقطع مواد الشر بإفساد منابتها وقلع مغارسها من القلب وإنما فزع الأكثرون إلى الأعمال الظاهرة عن تطهير القلوب لسهولة أعمال الجوارح واستصعاب أعمال القلوب كما يفزع إلى طلاء الظاهر من يستصعب شرب الأدوية المرة فلا يزال يتعب في الطلاء ويزيد في المواد وتتضاعف به الأمراض فإن كنت مريدا للآخرة وطالبا للنجاة وهاربا من الهلاك الأبدي فاشتغل بعلم العلل الباطنة وعلاجها على ما فصلناه في ربع المهلكات ثم ينجر بك ذلك إلى المقامات المحمودة المذكورة في ربع المنجيات لا محالة فإن القلب إذا فرغ من المذموم امتلأ بالمحمود والأرض إذا نقيت من الحشيش نبت فيها أصناف الزرع والرياحين وإن لم تفرغ من ذلك لم تنبت ذاك فلا تشتغل بفروض الكفاية لا سيما وفي زمرة الخلق من قد قام بها فإن مهلك نفسه فيما به صلاح غيره سفيه فما أشد حماقة من دخلت الأفاعي والعقارب تحت ثيابه وهمت بقتله وهو يطلب مذبة يدفع بها الذباب عن غيره ممن لا يغنيه ولا ينجيه مما يلاقيه من تلك الحيات والعقارب إذا همت به وإن تفرغت من نفسك وتطهيرها وقدرت على ترك ظاهر الإثم وباطنه وصار ذلك ديدنا لك وعادة متيسرة فيك وما أبعد ذلك منك فاشتغل بفروض الكفايات وراع التدريج فيها فابتدىء بكتاب الله تعالى ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعلم التفسير وسائر علوم القرآن من علم الناسخ والمنسوخ والمفصول والموصول والمحكم والمتشابه وكذلك في السنة ثم اشتغل بالفروع وهو علم المذهب من علم الفقه دون الخلاف ثم بأصول الفقه وهكذا إلى بقية العلوم على ما يتسع له العمر ويساعد فيه الوقت ولا تستغرق عمرك في فن واحد منها طلبا للاستقصاء فإن العلم كثير والعمر قصير وهذه العلوم آلات ومقدمات وليست مطلوبة لعينها بل لغيرها وكل ما يطلب لغيره فلا ينبغي أن ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه فاقتصر من شائع علم اللغة على ما تفهم منه كلام العرب وتنطق به ومن غريبه على غريب القرآن وغريب الحديث ودع التعمق فيه واقتصر من النحو على ما يتعلق بالكتاب والسنة فما من علم إلا وله اقتصار واقتصاد واستقصاء ونحن نشير إليها في الحديث والتفسير والفقه والكلام لتقيس بها غيرها فالاقتصار في التفسير ما يبلغ ضعف القرآن في المقدار كما صنفه على الواحدي النيسابوري وهو الوجيز والاقتصاد ما يبلغ ثلاثة أضعاف القرآن كما صنفه من الوسيط فيه وما وراء ذلك استقصاء مستغنى عنه فلا مرد له إلى انتهاء العمر وأما الحديث فالاقتصار فيه تحصيل ما في الصحيحين بتصحيح نسخة على رجل خبير بعلم متن الحديث واما حفظ أسامي الرجال فقد كفيت فيه بما تحمله عنك من قبلك ولك أن تعول على كتبهم وليس يلزمك حفظ متون الصحيحين ولكن تحصله تحصيلا تقدر منه على طلب ما تحتاج إليه عند الحاجة وأما الاقتصاد فيه فأن تضيف إليهما ما خرج عنهما مما ورد في المسندات الصحيحة وأما الاستقصاء فما وراء ذلك إلى استيعاب كل ما نقل من الضعيف والقوي والصحيح والسقيم مع معرفة الطرق الكثيرة في النقل ومعرفة أحوال الرجال وأسمائهم وأوصافهم وأما الفقه فالاقتصار فيه على ما يحويه مختصر المزني رحمه الله وهو الذي رتبناه في خلاصة المختصر والاقتصاد فيه ما يبلغ ثلاثة أمثاله وهو القدر الذي أوردناه في الوسيط من المذهب والاستقصاء ما أوردناه في البسيط إلى ما وراء ذلك من المطولات وأما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا غير وما وراء ذلك طلب لكشف حقائق الأمور من غير طريقتها ومقصود حفظ السنة تحصيل رتبة الاقتصار منه بمعتقد مختصر وهو القدر الذي أوردناه في كتاب قواعد العقائد من جملة هذا الكتاب والاقتصاد فيه ما يبلغ قدر مائة ورقة وهو الذي أوردناه في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع ومعارضة بدعته بما يفسدها وينزعها عن قلب العامي وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم وأما المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئا يسيرا فقلما ينفع معه الكلام فإنك إن أفحمته لم يترك مذهبه وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جوابا ما وهو عاجز عنه وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة وأما العامي إذا صرف عن الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء فإذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس وهو من آفات علماء السوء فإنهم يبالغون في التعصب للحق وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير لا نجحوا فيه ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم وسموه ذبا عن الدين ونضالا عن المسلمين وفيه على التحقيق هلاك الخلق ورسوخ البدعة في النفوس وأما الخلافيات التي أحدثت في هذه الأعصار المتأخرة وأبدع فيها من التحريرات والتصنيفات والمجادلات ما لم يعهد مثلها في السلف فإياك وأن تحوم حولها واجتنبها اجتناب السم القاتل فإنها الداء العضال وهو الذي رد الفقهاء كلهم إلى طلب المنافسة والمباهاة على ما سيأتيك تفصيل غوائلها وآفاتها وهذا الكلام ربما يسمع من قائله فيقال الناس أعداء ما جهلوا فلا تظن ذلك فعلى الخبير سقطت فاقبل هذه النصيحة ممن ضيع العمر فيه زمانا وزاد فيه على الأولين تصنيفا وتحقيقا وجدلا وبيانا ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره واشتغل بنفسه فلا يغرنك قول من يقول الفتوى عماد الشرع ولا يعرف علله إلا بعلم الخلاف فإن علل المذهب مذكورة في المذهب والزيادة عليها مجادلات لم يعرفها الأولون ولا الصحابة وكانوا أعلم بعلل الفتاوى من غيرهم بل هي مع أنها غير مفيدة في علم المذهب ضارة مفسدة لذوق الفقه فإن الذي يشهد له حدس المفتي إذا صح ذوقه في الفقه لا يمكن تمشيته على شروط الجدل في أكثر الأمر فمن ألف طبعه رسوم الجدل أذعن ذهنه لمقتضيات الجدل وجبن عن الإذعان لذوق الفقه وإنما يشتغل به من يشتغل لطلب الصيت والجاه ويتعلل بأنه يطلب علل المذهب وقد ينقضي عليه العمر ولا تنصرف همته إلى علم المذهب فكن من شياطين الجن في أمان واحترز من شياطين الإنس فإنهم أراحوا شياطين الجن من التعب في الإغواء والإضلال وبالجملة فالمرضى عند العقلاء أن تقدر نفسك في العالم وحدك مع الله وبين يديك الموت والعرض والحساب والجنة والنار وتأمل فيما يعنيك مما بين يديك ودع عنك ما سواه والسلام وقد رأى بعض الشيوخ بعض العلماء في المنام فقال له ما خبر تلك العلوم التي كنت تجادل فيها وتناظر عليها فبسط يده ونفخ فيها وقال طاحت كلها هباء منثورا وما انتفعت إلا بركعتين خلصتا لي في جوف الليل وفي الحديث: (( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل))[113] . ثم قرأ:  ]ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون[ (الزخرف: 58) وفي الحديث في معنى قوله تعالى: ] فأما الذين في قلوبهم زيغ [ الآية (آل عمران: 7) (( هم أهل الجدل الذين عناهم الله بقوله تعالى ((فاحذرهم))[114]. وقال بعض السلف: يكون في آخر الزمان قوم يغلق عليهم باب العمل ويفتح لهم باب الجدل. وفي بعض الأخبار: (( إنكم في زمان ألهمتم فيه العمل وسيأتي قوم يلهمون الجدل))[115]. وفي الخبر المشهور: (( أبغض الخلق إلى الله تعالى الألد الخصم))[116]. وفي الخبر: ((ما أتى قوم المنطق إلا منعوا العمل))[117] والله أعلم.

 

 

الباب الرابع

في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشروط إباحتها

اعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون وكانوا أئمة علماء بالله تعالى فقهاء في أحكامه وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفو الدين ومواظب على سمت علماء السلف فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم فاشرأبوا لطلب العلم توصلا إلى نيل العز ودرك الجاه من قبل الولاة فأكبوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم وطلبوا الولايات والصلات منهم فمنهم من حرم ومنهم من أنجح والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم إلا من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها فعلمت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام فأكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف ورتبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله والنضال عن السنة وقمع المبتدعة كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدين وتقلد أحكام المسلمين إشفاقا على خلق الله ونصيحة لهم ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد رحمهم الله تعالى وغيرهم وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع وتقرير علل المذهب وتمهيد أصول الفتاوى وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات وهم مستمرون عليه إلى الآن ولسنا ندري ما الذي يحدث الله فيما بعدنا من الأعصار فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة أو إلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضا معهم ولم يسكنوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين.

 

بيان التلبيس في تشبيه هذه المناظرات بمشاورات الصحابة ومفاوضات السلف

اعلم أن هؤلاء قد يستدرجون الناس إلى ذلك بأن غرضنا من المناظرات المباحثة عن الحق ليتضح فإن الحق مطلوب والتعاون على النظر في العلم وتوارد الخواطر مفيد ومؤثر هكذا كان عادة الصحابة رضي الله عنهم في مشاوراتهم كتشاورهم في مسألة الجد والأخوة وحد شرب الخمر ووجوب الغرم على الإمام إذا أخطأ كما تقل من إجهاض المرأة جنينها خوفا من عمر رضي الله عنه وكما نقل من مسائل الفرائض وغيرها وما نقل عن الشافعي وأحمد ومحمد بن الحسن ومالك وأبي يوسف وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى ويطلعك على هذا التلبيس ما أذكره وهو أن التعاون على طلب الحق من الدين ولكن له شروط وعلامات ثمان.

الأول: أن لا يشتغل به وهو من فروض الكفايات من لم يتفرغ من فروض الأعيان ومن عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية وزعم أن مقصده الحق فهو كذاب ومثاله من يترك الصلاة في نفسه ويتجرد في تحصيل الثياب ونسجها ويقول عرضي أستر عورة من يصلي عريانا ولا يجد ثوبا فإن ذلك ربما يتفق ووقوعه ممكن كما يزعم الفقيه أن وقوع النوادر التي عنها البحث في الخلاف ممكن والمشتغلون بالمناظرة مهملون لأمور هي فرض عين بالاتفاق ومن توجه عليه رد وديعة في الحال فقام وأحرم بالصلاة التي هي أقرب القربات إلى الله تعالى عصى به فلا يكفي في كون الشخص مطيعا كون فعله من جنس الطاعات ما لم يراع فيه الوقت والشروط والترتيب.

الثاني: أن لا يرى فرض كفاية أهم من المناظرة فإن رأى ما هو أهم وفعل غيره عصى بفعله وكان مثاله مثال من يرى جماعة من العطاش أشرفوا على الهلاك وقد أهملهم الناس وهو قادر على إحيائهم بأن يسقيهم الماء فاشتغل بتعلم الحجامة وزعم أنه من فروض الكفايات ولو خلا البلد عنها لهلك الناس وإذا قيل له في البلد جماعة من الحجامين وفيهم غنية فيقول هذا لا يخرج هذا الفعل عن كونه فرض كفاية فحال من يفعل هذا ويهمل الاشتغال بالواقعة الملمة بجماعة العطاش من المسلمين كحال المشتغل بالمناظرة وفي البلد فروض كفايات مهملة لا قائم بها فأما الفتوى فقد قام بها جماعة ولا يخلو بلد من جملة الفروض المهملة ولا يلتفت الفقهاء إليها وأقربها الطب إذ لا يوجد في أكثر البلاد طبيب مسلم يجوز اعتماد شهادته فيما يعول فيه على قول الطبيب شرعا ولا يرغب أحد من الفقهاء في الاشتغال به وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من فروض الكفايات وربما يكون المناظر في مجلس مناظرته مشاهدا للحرير ملبوسا ومفروشا وهو ساكت ويناظر في مسألة لا يتفق وقوعها قط وإن وقعت قام بها جماعة من الفقهاء ثم يزعم أنه يريد أن يتقرب إلى الله تعالى بفروض الكفايات وقد روى أنس رضي الله عنه أنه قيل: (( يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال عليه السلام إذا ظهرت المداهنة في خياركم والفاحشة في شراركم وتحول الملك في صغاركم والفقه في أراذلكم))[118].

الثالث: أن يكون المناظر مجتهدا يفتي برأيه لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له كما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم والأئمة فأما من ليس له رتبة الاجتهاد وهو حكم كل أهل العصر وإنما يفتي فيما يسأل عنه ناقلا عن مذهب صاحبه فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يجز له أن يتركه فأي فائدة له في المناظرة ومذهبه معلوم وليس له الفتوى بغيره وما يشكل عليه يلزمه أن يقول لعل عند صاحب مذهبي جوابا عن هذا فإني لست مستقلا بالاجتهاد في أصل الشرع ولو كانت مباحثته عن المسائل التي فيها وجهان أو قولان لصاحبه لكان أشبه فإنه ربما يفتي بأحدهما فيستفيد من البحث ميلا إلى أحد الجانبين ولا يرى المناظرات جارية فيها قط بل ربما ترك المسألة التي فيها وجهان أو قولان وطلب مسألة يكون الخلاف فيها مبتوتا.

الرابع: أن لا يناظر إلا في مسألة واقعة أو قريبة الوقوع غالبا فإن الصحابة رضي الله عنهم ما تشاوروا إلا فيما تجدد من الوقائع أو ما يغلب وقوعه كالفرائض ولا نرى المناظرين يهتمون بانتقاد المسائل التي تعم البلوى بالفتوى فيها بل يطلبون الطبوليات التي تسمع فيتسع مجال الجدل فيها كيفما كان الأمر وربما يتركون ما يكثر وقوعه ويقولون هذه مسألة خبرية أو هي من الزوايا وليست من الطبوليات فمن العجائب أن يكون المطلب هو الحق ثم يتركون المسألة لأنها خبرية ومدرك الحق فيها هو الإخبار أو لأنها ليست من الطبول فلا نطول فيها الكلام والمقصود في الحق أن يقصر الكلام ويبلغ الغاية على القرب لا أن يطول.

الخامس: أن تكون المناظرة في الخلوة أحب إليه وأهم من المحافل وبين أظهر الأكابر والسلاطين فإن الخلوة أجمع للفهم وأحرى بصفاء الذهن والفكر ودرك الحق وفي حضور الجمع ما يحرك دواعي الرياء ويوجب الحرص على نصرة كل واحد نفسه محقا كان أو مبطلا وأنت تعلم أن حرصهم على المحافل والمجامع ليس لله وأن الواحد منهم يخلو بصاحبه مدة طويلة فلا يكلمه وربما يقترح عليه فلا يجيب وإذا ظهر مقدم أو انتظم مجمع لم يغادر في قوس الاحتيال منزعا حتى يكون هو المتخصص بالكلام.

السادس: أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه ويرى رفيقه معينا لا خصما ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق كما لو أخذ طريقا في طلب ضالته فنبهه صاحبه على ضالته في طريق آخر فإنه كان يشكره ولا يذمه ويكرمه ويفرح به فهكذا كانت مشاورات الصحابة رضي الله عنهم حتى أن امرأة ردت على عمر رضي الله عنه ونبهته على الحق وهو في خطبته على ملإ من الناس فقال: (أصابت امرأة وأخطأ رجل). وسأل رجل عليا رضي الله عنه فأجابه فقال: ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كذا كذا. فقال: (أصبت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم. واستدرك ابن مسعود على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما فقال: أبو موسى لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم وذلك لما سئل أبو موسى عن رجل قاتل في سبيل الله فقتل فقال: هو في الجنة. وكان أمير الكوفة فقام ابن مسعود فقال: أعده على الأمير فلعله لم يفهم، فأعادوا عليه فأعاد الجواب فقال ابن مسعود: وأنا أقول إن قتل فأصاب الحق فهو في الجنة. فقال أبو موسى: الحق ما قال وهكذا يكون إنصاف طلب الحق. ولو ذكر مثل هذا الآن لأقل فقيه لأنكره واستبعده وقال: لا يحتاج إلى أن يقال أصاب الحق فإن ذلك معلوم لكل أحد. فانظر إلى مناظري زمانك اليوم كيف يسودّ وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه وكيف يخجل به وكيف يجهد في مجاحدته بأقصى قدرته وكيف يذم من أفحمه طول عمره، ثم لا يستحي من تشبيه نفسه بالصحابة رضي الله عنهم في تعاونهم على النظر في الحق.

السابع: أن لا يمنع معينه في النظر من الانتقال من دليل إلى دليل ومن إشكال إلى إشكال فهكذا كانت مناظرات السلف ويخرج من كلامه جميع دقائق الجدل المبتدعة فيما له وعليه كقوله هذا لا يلزمني ذكره وهذا يناقض كلامك الأول فلا يقبل منك فإن الرجوع إلى الحق مناقض للباطل ويجب قبوله وأنت ترى أن جميع المجالس تنقضي في المدافعات والمجادلات حتى يقيس المستدل على أصل بعلة يظنها فيقال له ما الدليل على أن الحكم في الأصل معلل بهذه العلة فيقول هذا ما ظهر لي فإن ظهر لك ما هو أوضح منه وأولى فاذكره حتى أنظر فيه فيصر المعترض ويقول فيه معان سوى ما ذكرته وقد عرفتها ولا أذكرها إذ لا يلزمني ذكرها ويقول المستدل عليك إيراد ما تدعيه وراء هذا ويصر المعترض على أنه لا يلزمه ويتوخى مجالس المناظرة بهذا الجنس من السؤال وأمثاله ولا يعرف هذا المسكين أن قوله إني أعرفه ولا أذكره إذ لا يلزمني كذب على الشرع فإنه إن كان لا يعرف معناه وإنما يدعيه ليعجز خصمه فهو فاسق كذاب عصى الله تعالى وتعرض لسخطه بدعواه معرفة هو خال عنها وإن كان صادقا فقد فسق بإخفائه ما عرفه من أمر الشرع وقد سأله أخوه المسلم ليفهمه وينظر فيه فإن كان قويا رجع إليه وإن كان ضعيفا أظهر له ضعفه وأخرجه عن ظلمة الجهل إلى نور العلم ولا خلاف أن إظهار ما علم من علوم الدين بعد السؤال عنه واجب لازم فمعنى قوله لا يلزمني أي في شرع الجدل الذي أبدعناه بحكم التشهي والرغبة في طريق الاحتيال والمصارعة بالكلام لا يلزمني وإلا فهو لازم بالشرع فإنه بامتناعه عن الذكر إما كاذب وإما فاسق فتفحص عن مشاورات الصحابة ومفاوضات السلف رضي الله عنهم هل سمعت فيها ما يضاهي هذا الجنس وهل منع أحد من الانتقال من دليل إلى دليل ومن قياس إلى أثر ومن خبر إلى آية بل جميع مناظراتهم من هذا الجنس إذ كانوا يذكرون كل ما يخطر لهم كما يخطر وكانوا ينظرون فيه.

الثامن: أن يناظر من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم والغالب أنهم يحترزون من مناظرة الفحول والأكابر خوفا من ظهور الحق على ألسنتهم فيرغبون فيمن دونهم طمعا في ترويج الباطل عليهم ووراء هذه شروط دقيقة كثيرة ولكن في هذه الشروط الثمانية ما يهديك إلى من يناظر لله ومن يناظر لعلة واعلم بالجملة أن من لا يناظر الشيطان وهو مستول على قلبه وهو أعدى عدو له ولا يزال يدعوه إلى هلاكه ثم يشتغل بمناظرة غيره في المسائل التي المجتهد فيها مصيب أو مساهم للمصيب في الأجر فهو ضحكة الشيطان وعبرة للمخلصين ولذلك شمت الشيطان به لما غمسه فيه من ظلمات الآفات التي نعددها ونذكر تفاصيلها فنسأل الله حسن العون والتوفيق.

 

بيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق

اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدق عند الناس وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدو الله إبليس ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة وكما أن الذي خير بين الشرب والفواحش وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه جميع الأخلاق المذمومة وهذه الأخلاق ستأتي أدلة مذمتها من الأخبار والآيات في ربع المهلكات ولكنا نشير الآن إلى مجامع ما تهيجه المناظرة.

فمنها الحسد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب))[119]. ولا ينفك المناظر عن الحسد فإنه تارة يغلب وتارة يغلب وتارة يحمد كلامه وأخرى يحمد كلام غيره فما دام يبقى في الدنيا واحد يذكره بقوة العلم والنظر أو يظن أنه أحسن منه كلاما وأقوى نظرا فلا بد أن يحسده ويحب زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه والحسد نار محرقة فمن بلى به فهو في العذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأعظم ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما خذوا العلم حيث وجدتموه ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة ومنها التكبر والترفع على الناس فقد قال صلى الله عليه وسلم: (( من تكبر وضعه الله ومن تواضع رفعه الله))[120]. وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: (( العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته))[121]. ولا ينفك المناظر عن التكبر على الأقران والأمثال والترفع إلى فوق قدره حتى إنهم ليتقاتلون على مجلس من المجالس يتنافسون فيه في الارتفاع والانخفاض والقرب من وسادة الصدر والبعد منها والتقدم في الدخول عند مضايق الطرق وربما يتعلل الغبي والمكار الخداع منهم بأنه يبغي صيانة عز العلم وأن المؤمن منهي عن الإذلال لنفسه.[122] فتعبر عن التواضع الذي أثنى الله عليه وسائر أنبيائه بالذل وعن التكبر الممقوت عند الله بعز الدين تحريفا للاسم وإضلالا للخلق به كما فعل في اسم الحكمة والعلم وغيرهما.

ومنها الحقد، فلا يكاد المناظر يخلو عنه وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن ليس بحقود))[123]. وورد في ذم الحقد ما لا يخفى ولا ترى مناظرا يقدر على أن لا يضمر حقدا على من يحرك رأسه من كلام خصمه ويتوقف في كلامه فلا يقابله بحسن الإصغاء بل يضطر إذا شاهد ذلك إلى إضمار الحقد وتربيته في نفسه وغاية تماسكه الإخفاء بالنفاق ويترشح منه إلى الظاهر لا محالة في غالب الأمر وكيف ينفك عن هذا ولا يتصور اتفاق جميع المستمعين على ترجيح كلامه واستحسان جميع أحواله في إيراده وإصداره بل لو صدر من خصمه أدنى سبب فيه قلة مبالاة بكلامه انغرس في صدره حقد لا يقلعه مدى الدهر إلى آخر العمر.

ومنها الغيبة، وقد شبهها الله بأكل الميتة ولا يزال المناظر مثابرا على أكل الميتة فإنه لا ينفك عن حكاية كلام خصمه ومذمته وغاية تحفظه أن يصدق فيما يحكيه عليه ولا يكذب في الحكاية عنه فيحكي عنه لا محالة ما يدل على قصور كلامه وعجزه ونقصان فضله وهو الغيبة.

فأما الكذب، فبهتان وكذلك لا يقدر على أن يحفظ لسانه عن التعرض لعرض من يعرض عن كلامه ويصغي إلى خصمه ويقبل عليه حتى ينسبه إلى الجهل والحماقة وقلة الفهم والبلادة.

ومنها تزكية النفس، قال الله سبحانه وتعالى ]فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى[ (النجم: 32) وقيل لحكيم: ما الصدق القبيح فقال: (ثناء المرء على نفسه). ولا يخلو المناظر من الثناء على نفسه بالقوة والغلبة والتقدم على الأقران ولا ينفك في أثناء المناظرة عن قوله لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور وأنا المتفنن في العلوم والمستقل بالأصول وحفظ الأحاديث وغير ذلك مما يتمدح به تارة على سبيل الصلف وتارة للحاجة إلى ترويج كلامه ومعلوم أن الصلف والتمدح مذمومان شرعا وعقلا.

ومنها التجسس، وتتبع عورات الناس وقد قال تعالى ]ولا تجسسوا[ (الحجرات: 12) والمناظر لا ينفك عن طلب عثرات أقرانه وتتبع عورات خصومه حتى إنه ليخبر بورود مناظر إلى بلده فيطلب من يخبر بواطن أحواله ويستخرج بالسؤال مقابحه حتى يعدها ذخيرة لنفسه في إفضاحه وتخجيله إذا مست إليه حاجة حتى إنه ليستكشف عن أحوال صباه وعن عيوب بدنه فعساه يعثر على هفوة أو على عيب به من قرع أو غيره ثم إذا أحس بأدنى غلبة من جهته عرض به إن كان متماسكا ويستحسن ذلك منه ويعد من لطائف التسبب ولا يمتنع عن الإفصاح به إن كان متبجحا بالسفاهة والاستهزاء كما حكى عن قوم من أكابر المناظرين المعدودين من فحولهم.

ومنها الفرح لمساءة الناس والغم لمسارهم، ومن لا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه فهو بعيد من أخلاق المؤمنين فكل من طلب المباهاة بإظهار الفضل يسره لا محالة ما يسوء أقرانه وأشكاله الذين يسامونه في الفضل ويكون التباغض بينهم كما بين الضرائر فكما أن إحدى الضرائر إذا رأت صاحبتها من بعيد ارتعدت فرائصها واصفر لونها فكذا ترى المناظر إذا رأى مناظرا تغير لونه واضطرب عليه فكره فكأنه يشاهد شيطانا ماردا أو سبعا ضاريا فأين الاستئناس والاسترواح الذي كان يجري بين علماء الدين عند اللقاء وما نقل عنهم من المؤاخاة والتناصر والتساهم في السراء والضراء حتى قال الشافعي رضي الله عنه العلم بين أهل الفضل والعقل رحم متصل فلا أدري كيف يدعي الاقتداء بمذهبه جماعة صار العلم بينهم عداوة قاطعة فهل يتصور أن ينسب الأنس بينهم مع طلب الغلبة والمباهاة هيهات هيهات وناهيك بالشر شرا أن يلزمك أخلاق المنافقين ويبرئك عن أخلاق المؤمنين والمتقين.

ومنها النفاق، فلا يحتاج إلى ذكر الشواهد في ذمه وهم مضطرون إليه فإنهم يلقون الخصوم ومحبيهم وأشياعهم ولا يجدون بدا من التودد إليهم باللسان وإظهار الشوق والاعتداد بمكانهم وأحوالهم ويعلم ذلك المخاطب والمخاطب وكل من يسمع منهم أن ذلك كذب وزور ونفاق وفجور فإنهم متوددون بالألسنة متباغضون بالقلوب نعوذ بالله العظيم منه فقد قال صلى الله عليه وسلم: (( إذا تعلم الناس العلم وتركوا العمل وتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا في الأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم))[124]. وقد صح ذلك بمشاهدة هذه الحالة.

ومنها الاستكبار عن الحق وكراهته، والحرص على المماراة فيه حتى إن أبغض شيء إلى المناظر أن يظهر على لسان خصمه الحق ومنهما ظهر تشمر لجحده وإنكاره بأقصى جهده وبذل غاية إمكانه في المخادعة والمكر والحيلة لدفعه حتى تصير المماراة فيه عادة طبيعية فلا يسمع كلاما إلا وينبعث من طبعه داعية الاعتراض عليه حتى يغلب ذلك على قلبه في أدلة القرآن وألفاظ الشرع فيضرب البعض منها بالبعض والمراء في مقابلة الباطل محذور إذ ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ترك المراء بالحق على الباطل قال صلى الله عليه وسلم : (( من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتا في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة))[125]. وقد سوى الله تعالى بين من افترى على الله كذبا وبين من كذب بالحق فقال تعالى: ]ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه[ (العنكبوت: 68). وقال تعالى: ]فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه[ (الزمر: 32).

ومنها الرياء، وملاحظة الخلق والجهد في استمالة قلوبهم وصرف وجوههم والرياء هو الداء العضال الذي يدعو إلى أكبر الكبائر كما سيأتي في كتاب الرياء والمناظر لا يقصد إلا الظهور عند الخلق وانطلاق ألسنتهم بالثناء عليه فهذه عشر خصال من أمهات الفواحش الباطنة سوى ما يتفق لغير المتماسكين منهم من الخصام المؤدي إلى الضرب واللكم واللطم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسب الوالدين وشتم الأستاذين والقذف الصريح فإن أولئك ليسوا معدودين في زمرة الناس المعتبرين وإنما الأكابر والعقلاء منهم هم الذين لا ينفكون عن هذه الخصال العشر نعم قد يسلم بعضهم من بعضها مع من هو ظاهر الانحطاط عنه أو ظاهر الارتفاع عليه أو هو بعيد عن بلده وأسباب معيشته ولا ينفك أحد منهم عنه مع أشكاله المقارنين له في الدرجة ثم يتشعب من كل واحدة من هذه الخصال العشر عشر أخرى من الرذائل لم نطول بذكرها وتفصيل آحادها مثل الأنفة والغضب والبغضاء والطمع وحب طلب المال والجاه للتمكن من الغلبة والمباهاة والأشر والبطر وتعظيم الأغنياء والسلاطين والتردد إليهم والأخذ من حرامهم والتجمل بالخيول والمراكب والثياب المحظورة والاستحقار للناس بالفخر والخيلاء والخوض فيما لا يعني وكثرة الكلام وخروج الخشية والخوف والرحمة من القلب واستيلاء الغفلة عليه حتى لا يدري المصلي منهم في صلاته ما صلى وما الذي يقرأ ومن الذي يناجيه ولايحس بالخشوع من قلبه مع استغراق العمر في العلوم التي تعين في المناظرة مع أنها لا تنفع في الآخرة من تحسين العبارة وتسجيع اللفظ وحفظ النوادر إلى غير ذلك من أمور لا تحصى والمناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم ولهم درجات شتى ولا ينفك أعظمهم دينا وأكثرهم عقلا عن جمل من مواد هذه الأخلاق وإنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها.

واعلم أن هذه الرذائل لازمة للمشتغل بالتذكير والوعظ أيضا إذا كان قصده طلب القبول وإقامة الجاه ونيل الثروة والعزة وهي لازمة أيضا للمشتغل بعلم المذهب والفتاوى إذا كان قصده طلب القضاء وولاية الأوقاف والتقدم على الأقران وبالجملة هي لازمة لكل من يطلب بالعلم غير ثواب الله تعالى في الآخرة فالعلم لا يهمل العالم بل يهلكه هلاك الأبد أو يحييه حياة الأبد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه))[126]. فلقد ضره مع أنه لم ينفعه وليته نجا منه رأسا برأس وهيهات هيهات فخطر العلم عظيم وطالبه طلب الملك المؤبد والنعيم السرمد فلا ينفك عن الملك أو الهلك وهو كطالب الملك في الدنيا فإن لم يتفق له الإصابة في الأموال لم يطمع في السلامة من الإذلال بل لا بد من لزوم أفضح الأحوال.

فإن قلت: في الرخصة في المناظرة فائدة وهي ترغيب الناس في طلب العلم إذ لولا حب الرياسة لاندرست العلوم فقد صدقت فيما ذكرته من وجه ولكنه غير مفيد إذ لولا الوعد بالكرة والصولجان واللعب بالعصافير ما رغب الصبيان في المكتب وذلك لا يدل على أن الرغبة فيه محمودة ولولا حب الرياسة لاندرس العلم ولا يدل ذلك على أن طالب الرياسة ناج بل هو من الذين قال صلى الله عليه وسلم فيهم: (( إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ))[127]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر))[128]. فطالب الرياسة في نفسه هالك وقد يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى ترك الدنيا وذلك فيمن كان ظاهر حاله في ظاهر الأمر ظاهر حال علماء السلف ولكنه يضمر قصد الجاه فمثاله مثال الشمع الذي يحترق في نفسه ويستضيء به غيره فصلاح غيره في هلاكه فأما إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثال النار المحرقة التي تأكل نفسها وغيرها فالعلماء ثلاثة إما مهلك نفسه وغيره وهم المصرحون بطلب الدنيا والمقبلون عليها وإما مسعد نفسه وغيره وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهرا وباطنا وإما مهلك نفسه مسعد غيره وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره وقصده في الباطن قبول الخلق وإقامة الجاه فانظر من أي الأقسام أنت ومن الذي اشتغلت بالاعتداد له فلا تظنن أن الله تعالى يقبل غير الخالص لوجهه تعالى من العلم والعمل وسيأتيك في كتاب الرياء بل في جميع ربع المهلكات ما ينفي عنك الريبة فيه إن شاء الله تعالى.

 

 

الباب الخامس

في آداب المتعلم والمعلم

أما المتعلم فآدابه ووظائفه الظاهرة كثيرة ولكن تنظم تفاريقها عشر جمل:

الوظيفة الأولى: تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف قال صلى الله عليه وسلم: (( بني الدين على النظافة))[129]. وهو كذلك باطنا وظاهرا قال الله تعالى: ]إنما المشركون نجس[ (التوبة: 28) تنبيها للعقول على الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر بالحس فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن ولكنه نجس الجوهر أي باطنه ملطخ بالخبائث والنجاسة عبارة عما يجتنب ويطلب البعد منه وخبائث صفات الباطن أهم بالاجتناب فإنها مع خبثها في الحال مهلكات في المآل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب))[130]. والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم والصفات الرديئة مثل والغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة ]وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء[ (الشورى: 51). وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها وهم المقدسون المطهرون المبرءون عن الصفات المذمومات فلا يلاحظون إلا طيبا ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيبا طاهرا ولست أقول المراد بلفظ البيت هو القلب وبالكلب هو الغضب والصفات المذمومة ولكني أقول هو تنبيه عليه وفرق بين تعبير الظواهر إلى البواطن وبين التنبيه للبواطن من ذكر الظواهر مع تقرير الظواهر ففارق الباطنية بهذه الدقيقة فإن هذه طريق الاعتبار وهو مسلك العلماء والأبرار إذ معنى الاعتبار أن يعبر ما ذكر إلى غيره فلا يقتصر عليه كما يرى العاقل مصيبة لغيره فيكون فيها له عبرة بأن يعبر منها إلى التنبه لكونه أيضا عرضة للمصائب وكون الدنيا بصدد الانقلاب فعبوره من غيره إلى نفسه ومن نفسه إلى أصل الدنيا عبرة محمودة فاعبر أنت أيضا من البيت الذي هو بناء الخلق إلى القلب الذي هو بيت من بناء الله تعالى ومن الكلب الذي ذم لصفته لا لصورته وهو ما فيه من سبعية ونجاسة إلى الروح الكلبية وهي السبعية.

واعلم أن القلب المشحون بالغضب والشره إلى الدنيا والتكلب عليها والحرص على التمزيق لأعراض الناس كلب في المعنى وقلب في الصورة فنور البصيرة يلاحظ المعاني لا الصور والصور في هذا العالم غالبة على المعاني والمعاني باطنة فيها وفي الآخرة تتبع الصور المعاني وتغلب المعاني فلذلك يحشر كل شخص على صورته المعنوية (( فيحشر الممزق لأعراض الناس كلبا ضاريا والشره إلى أموالهم ذئبا عاديا والمتكبر عليهم في صورة نمر وطالب الرياسة في صورة أسد))[131]. وقد وردت بذلك الأخبار وشهد به الاعتبار عند ذوي البصائر والأبصار.

فإن قلت: كم من طالب ردىء الأخلاق حصل العلوم فهيهات ما أبعده عن العلم الحقيقي النافع في الآخرة الجالب للسعادة فإن من أوائل ذلك العلم أن يظهر له أن المعاصي سموم قاتلة مهلكة وهل رأيت من يتناول سما مع علمه بكونه سما قاتلا إنما الذي تسمعه من المترسمين حديث يلفقونه بألسنتهم مرة ويرددونه بقلوبهم أخرى وليس ذلك من العلم في شيء قال ابن مسعود رضي الله عنه ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم نور يقذف في القلب وقال بعضهم إنما العلم الخشية لقوله تعالى: ]إنما يخشى الله من عباده العلماء[ (فاطر: 28). وكأنه أشار إلى أخص ثمرات العلم ولذلك قال بعض المحققين معنى قولهم تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله أن العلم أبى وامتنع علينا فلم تنكشف لنا حقيقته وإنما حصل لنا حديثه وألفاظه.

فإن قلت: أرى جماعة من العلماء والفقهاء المحققين برزوا في الفروع والأصول وعدوا من جملة الفحول وأخلاقهم ذميمة لم يتطهروا منها فيقال إذا عرفت مراتب العلوم وعرفت علم الآخرة استبان لك أن ما اشتغلوا به قليل الغناء من حيث كونه علما وإنما غناؤه من حيث كونه عملا لله تعالى إذا قصد به التقرب إلى الله تعالى وقد سبقت إلى هذا إشارة وسيأتيك فيه مزيد بيان وإيضاح إن شاء الله تعالى.

الوظيفة الثانية: أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن فإن العلائق شاغلة وصارفة ]ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه[ (الأحزاب: 4). ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيك كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزدرع.

الوظيفة الثالثة: أن لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على معلم بل يلقى إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته قال الشعبي: صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت إليه بغلته ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال: زيد خل عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: (( هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء))، فقبل زيد بن ثابت يده وقال: ((هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم))[132]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس من أخلاق المؤمن التملق إلا في طلب العلم))[133]. فلا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين وهو عين الحماقة فإن العلم سبب النجاة والسعادة ومن يطلب مهربا من سبع ضار يفترسه لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل وضراوة سباع النار بالجهال بالله تعالى أشد من ضراوة كل سبع فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائنا من كان فلذلك قيل العلم حرب للفتى المتعالي كالسيل حرب للمكان العالي فلا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع قال الله تعالى: ]إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد[ (ق:37). ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلا للعلم فهما ثم لا تعينه القدرة على الفهم حتى يلقى السمع وهو شهيد حاضر القلب ليستقيل كل ما ألقى إليه بحسن الإصغاء والضراعة والشكر والفرح وقبول المنة فليكن المتعلم لمعلمه كأرض دمثة نالت مطرا غزيرا فتشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فليقلده وليدع رأيه فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه إذ التجربة تطلع على دقائق يستغرب سماعها مع أنه يعظم نفعها فكم من مريض محرور يعالجه الطبيب في بعض أوقاته بالحرارة ليزيد في قوته إلى حد يحتمل صدمة العلاج فيعجب منه من لا خبرة له به وقد نبه الله تعالى بقصة الخضر وموسى عليهما السلام حيث قال الخضر: ]إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا[ (الكهف: 67 و68). ثم شرط عليه السكوت والتسليم فقال: ]فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا[ (الكهف: 70). ثم لم يصبر ولم يزل في مراودته إلى أن كان ذلك سبب الفراق بينهما وبالجملة كل متعلم استبقى لنفسه رأيا واختيارا دون اختيار المعلم فاحكم عليه بالإخفاق والخسران فإن قلت فقد قال الله تعالى: ]فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون[ (النحل: 43). فالسؤال مأمور به فاعلم أنه كذلك ولكن فيما يأذن المعلم في السؤال عنه فإن السؤال عما لم تبلغ مرتبتك إلى فهمه مذموم ولذلك منع الخضر موسى عليه السلام من السؤال أي دع السؤال قبل أوانه فالمعلم أعلم بما أنت أهل له وبأوان الكشف وما لم يدخل أوان الكشف في كل درجة من مراقي الدرجات لا يدخل أوان السؤال عنه وقد قال علي رضي الله عنه: (إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سرا، ولا تغتابن أحدا عنده، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته).

الوظيفه الرابعة أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإضغاء إلى اختلاف الناس سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه عن الإدراك والاطلاع بل ينبغي أن يتقن أولا الطريق الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه وإن لم يكن أستاذه مستقلا باختيار رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحذر منه فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم ومن هذا حاله يعد في عمى الحيرة وتيه الجهل ومنع المبتدىء عن الشبه يضاهي منع الحديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار وندب القوى إلى النظر في الاختلافات يضاهي حث القوى على مخالطة الكفار ولهذا يمنع الجبان عن التهجم على صف الكفار ويندب الشجاع له ومن الغفلة عن هذه الدقيقة ظن بعض الضعفاء أن الاقتداء بالأقوياء فيما ينقل عنهم من المساهلات جائز ولم يدر أن وظائف الأقوياء تخالف وظائف الضعفاء وفي ذلك قال بعضهم من رآني في البداية صار صديقا ومن رآني في النهاية صار زنديقا إذ النهاية ترد الأعمال إلى الباطن وتسكن الجوارح إلا عن رواتب الفرائض فيتراءى للناظرين أنها بطالة وكسل وإهمال وهيهات فذلك مرابطة القلب في عين الشهود والحضور وملازمة الذكر الذي هو أفضل الأعمال على الدوام وتشبه الضعيف بالقوي فيما يرى من ظاهره أنه هفوة يضاهي اعتذار من يلقى نجاسة يسيرة في كوز ماء ويتعلل بأن أضعاف هذه النجاسة قد يلقى في البحر والبحر أعظم من الكوز فما جاز للبحر فهو للكوز أجوز ولا يدري المسكين أن البحر بقوته يحيل النجاسة ماء فتنقلب عين النجاسة باستيلائه إلى صفته والقليل من النجاسة يغلب على الكوز ويحيله إلى صفته ولمثل هذا جوز للنبي صلى الله عليه وسلم ما لم يجوز لغيره حتى أبيح له تسع نسوة[134] إذ كان له من القوة ما يتعدى منه صفة العدل إلى نسائه وإن كثرن وأما غيره فلا يقدر على بعض العدل بل يتعدى ما بينهن من الضرار إليه حتى ينجر إلى معصية الله تعالى في طلبه رضاهن فما أفلح من قاس الملائكة بالحدادين.

الوظيفة الخامسة أن لا يدع طالب العلم فنا من العلوم المحمودة ولا نوعا من أنواعه إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله فإن الناس أعداء ما جهلوا قال تعالى: ]وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم[ (الأحقاف: 11). قال الشاعر:

ومن يكُ ذا فم مر مريضٍ                       يجد مرا به الماء الزلالا

فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى أو معينة على السلوك نوعا من الإعانة ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود والقوام بها حفظة كحفاظ الرباطات والثغور ولكل واحد رتبة وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى.

الوظيفة السادسة: أن لا يخوض في فن من فنون العلم دفعة بل يراعى الترتيب ويبتدىء بالأهم فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبا فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه ويصرف جمام قوته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة أعني قسمي المعاملة والمكاشفة فغاية المعاملة المكاشفة وغاية المكاشفة معرفة الله تعالى ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقفه العامي وراثة أو تلقفا ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة في تحصين الكلام عن مراوغات الخصوم كما هو غاية المتكلم بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان أبي بكر رضي الله عنه الذي لو وزن بإيمان العالمين لرجح[135]. كما شهد له به سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فما عندي أن ما يعتقده العامي ويرتبه المتكلم الذي لا يزيد على العامي إلا في صنعة الكلام ولأجله سميت صناعته كلاما وكان يعجز عنه عمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم حتى كان يفضلهم أبو بكر بالسر الذي وقر في صدره والعجب ممن يسمع مثل هذه الأقوال من صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه ثم يزدري ما يسمعه على وفقه ويزعم أنه من ترهات الصوفية وأن ذلك غير معقول فينبغي أن تتئد في هذا فعنده ضيعت رأس المال فكن حريصا على معرفة ذلك السر الخارج عن بضاعة الفقهاء والمتكلمين ولا يرشدك إليه إلا حرصك في الطلب وعلى الجملة فأشرف العلوم وغايتها معرفة الله عز وجل وهو بحر لا يدرك منتهى غوره وأقصى درجات البشر فيه رتبة الأنبياء ثم الأولياء ثم الذين يلونهم وقد روي أنه رؤي صورة حكيمين من الحكماء المتقدمين في مسجد وفي يد أحدهما رقعة فيها إن أحسنت كل شيء فلا تظنن أنك أحسنت شيئا حتى تعرف الله تعالى وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء وفي يد الآخر كنت قبل أن أعرف الله تعالى أشرب وأظمأ حتى إذا عرفته رويت بلا شرب.

الوظيفة السابعة: أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طريق إلى بعض والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج قال الله تعالى: ]الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته[ (البقرة:121). أي لا يجاوزون فنا حتى يحكموه علما وعملا وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه فينبغي ألا يحكم على علم بالفساد لوقوع الخلف بين أصحابه فيه ولا بخطأ واحد أو آحاد فيه ولا بمخالفتهم موجب علمهم بالعمل فترى جماعة تركوا النظر في العقليات والفقهيات متعللين فيها بأنها لو كان لها أصل لأدركه أربابها وقد مضى كشف هذه الشبه في كتاب معيار العلم وترى طائفة يعتقدون بطلان الطب لخطأ شاهدوه من طبيب وطائفة اعتقدوا صحة النجوم لصواب اتفق لواحد وطائفة اعتقدوا بطلانه لخطأ اتفق لآخر والكل خطأ بل ينبغي أن يعرف الشيء في نفسه فلا كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص ولذلك قال علي رضي الله عنه: (لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله).

الوظيفة الثامنة: أن يعرف السبب الذي به يدرك أشرف العلوم وأن ذلك يراد به شيئان أحدهما شرف الثمرة والثاني وثاقة الدليل وقوته وذلك كعلم الدين وعلم الطب فإن ثمرة أحدهما الحياة الأبدية وثمرة الآخر الحياة الفانية فيكون علم الدين أشرف ومثل علم الحساب وعلم النجوم فإن علم الحساب أشرف لوثاقة أدلته وقوتها وإن نسب الحساب إلى الطب كان الطب أشرف باعتبار ثمرته والحساب أشرف باعتبار أدلته وملاحظة الثمرة أولى ولذلك كان الطب أشرف وإن كان أكثره بالتخمين وبهذا تبين أن أشرف العلوم العلم بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله والعلم بالطريق الموصل إلى هذه العلوم فإياك أن ترغب إلا فيه وأن تحرص إلا عليه.

الوظيفة التاسعة: أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة وفي المآل القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ الأعلى من الملائكة والمقربين ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران وإن كان هذا مقصده طلب لا محالة الأقرب إلى مقصوده وهو علم الآخرة ومع هذا فلا ينبغي له أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم أعني علم الفتاوى وعلم النحو واللغة المتعلقين بالكتاب والسنة وغير ذلك مما أوردناه في المقدمات والمتممات من ضروب العلوم التي هي فرض كفاية ولا تفهمن من غلونا في الثناء على علم الآخرة تهجين هذه العلوم فالمتكفلون بالعلوم كالمتكفلين بالثغور والمرابطين بها والغزاة المجاهدين في سبيل الله فمنهم المقاتل ومنهم الردء ومنهم الذي يسقيهم الماء ومنهم الذي يحفظ دوابهم ويتعهدهم ولا ينفك أحد منهم عن أجر إذا كان قصده إعلاء كلمة الله تعالى دون حيازة الغنائم فكذلك العلماء قال الله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال تعالى هم درجات عند الله والفضيلة نسبية واستحقارنا للصيارفة عند قياسهم بالملوك لا يدل على حقارتهم إذا قيسوا بالكناسين فلا تظن أن ما نزل عن الرتبة القصوى ساقط القدر بل الرتبة العليا للأنبياء ثم الأولياء ثم العلماء الراسخين في العلم ثم للصالحين على تفاوت درجاتهم وبالجملة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ومن قصد الله تعالى بالعلم أي علم كان نفعه ورفعه لا محالة.

الوظيفة العاشرة: أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد كيما يؤثر الرفيع القريب على البعيد والمهم على غيره ومعنى المهم ما يهمك ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن وشهد له من نور البصائر ما يجري مجرى العيان فالأهم ما يبقى أبد الآباد وعند ذلك تصير الدنيا منزلا والبدن مركبا والأعمال سعيا إلى المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون والعلوم بالإضافة إلى سعادة لقاء الله سبحانه والنظر إلى وجهه الكريم أعني النظر الذي طلبه الأنبياء وفهموه دون ما سبق إلى فهم العوام والمتكلمين على ثلاث مراتب تفهمها بالموازنة بمثال وهو أن العبد الذي علق عتقه وتمكينه من الملك بالحج وقيل له إن حججت وأتممت وصلت إلى العتق والملك جميعا وإن ابتدأت بطريق الحج والاستعداد له وعافك في الطريق مانع ضروري فلك العتق والخلاص من شقاء الرق فقط دون سعادة الملك فله ثلاثة أصناف من الشغل الأول تهيئة الأسباب بشراء الناقة وخرز الراوية وإعداد الزاد والراحلة والثاني السلوك ومفارقة الوطن بالتوجه إلى الكعبة منزلا بعد منزل والثالث الاشتغال بأعمال الحج ركنا بعد ركن ثم بعد الفراغ والنزوع عن هيئة الإحرام وطواف الوداع استحق التعرض للملك والسلطنة وله في كل مقام منازل من أول إعداد الأسباب إلى آخره من أول سلوك البوادي إلى آخره ومن أول أركان الحج إلى آخره وليس قرب من ابتدأ بأركان الحج من السعادة كقرب من هو بعد في إعداد الزاد والراحلة ولا كقرب من ابتدأ بالسلوك بل هو أقرب منه فالعلوم أيضا ثلاثة أقسام قسم يجري مجرى إعداد الزاد والراحلة وشراء الناقة وهو علم الطب والفقه وما يتعلق بمصالح البدن في الدنيا وقسم يجري مجرى سلوك البوادي وقطع العقبات وهو تطهير الباطن عن كدورات الصفات وطلوع تلك العقبات الشامخة التي عجز عنها الأولون والآخرون إلا الموفقين فهذا سلوك الطريق وتحصيل علمه كتحصيل علم جهات الطريق ومنازله وكما لا يغني علم المنازل وطرق البوادي دون سلوكها كذلك لا يغني علم تهذيب الأخلاق دون مباشرة التهذيب ولكن المباشرة دون العلم غير ممكن وقسم ثالث يجري مجرى نفس الحج وأركانه وهو العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وأفعاله وجميع ما ذكرناه في تراجم المكاشفة وههنا نجاة وفوز بالسعادة والنجاة حاصلة لكل سالك للطريق إذا كان غرضه المقصد الحق وهو السلامة.

وأما الفوز بالسعادة فلا يناله إلا العارفون بالله تعالى، وهم المقربون المنعمون في جوار الله تعالى بالروح والريحان وجنة النعيم وأما الممنوعون دون ذروة الكمال فلهم النجاة والسلامة كما قال الله عز وجل فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وكل من لم يتوجه إلى المقصد ولم ينتهض له أو انتهض إلى جهته لا على قصد الامتثال والعبودية بل لغرض عاجل فهو من أصحاب الشمال ومن الضالين فله نزل من حميم وتصلية جحيم.

واعلم أن هذا هو حق اليقين عند العلماء الراسخين أعني أنهم أدركوه بمشاهدة من الباطن هي أقوى وأجلى من مشاهدة الأبصار وترقوا فيه عن حد التقليد لمجرد السماع وحالهم حال من أخبر فصدق ثم شاهد فحقق وحال غيرهم حال من قبل بحسن التصديق والإيمان ولم يحظ بالمشاهدة والعيان فالسعادة وراء علم المكاشفة وعلم المكاشفة وراء علم المعاملة التي هي سلوك طريق الآخرة وقطع عقبات الصفات وسلوك طريق محو الصفات المذمومة وراء علم الصفات وعلم طريق المعالجة وكيفية السلوك في ذلك وراء علم سلامة البدن ومساعدة أسباب الصحة وسلامة البدن بالاجتماع والتظاهر والتعاون الذي يتوصل به إلى الملبس والمطعم والمسكن وهو منوط بالسلطان وقانونه في ضبط الناس على منهج العدل والسياسة في ناصية الفقيه وأما أسباب الصحة ففي ناصية الطبيب ومن قال العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان وأشار به إلى الفقه أراد به العلوم الظاهرة الشائعة لا للعلوم العزيزة الباطنة.

فإن قلت لم شبهت علم الطب والفقه بإعداد الزاد والراحلة؟

فاعلم، أن الساعي إلى الله تعالى لينال قربه هو القلب دون البدن ولست أعني بالقلب اللحم المحسوس بل هو من أسرار الله عز وجل لا يدركه الحس ولطيفة من لطائفه تارة يعبر عنه بالروح وتارة بالنفس المطمئنة والشرع يعبر عنه بالقلب لأنه المطية الأولى لذلك السر وبواسطته صار جميع البدن مطية وآلة لتلك اللطيفة وكشف الغطاء عن ذلك السر من علم المكاشفة وهو مضنون به بل لا رخصة في ذكره وغاية المأذون فيه أن يقال هو جوهر نفيس ودر عزيز أشرف من هذه الأجرام المرئية وإنما هو أمر إلهي كما قال تعالى: ]ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي [ (الإسراء: 85). وكل المخلوقات منسوبة إلى الله تعالى ولكن نسبته أشرف من نسبة سائر أعضاء البدن فلله الخلق والأمر جميعا والأمر أعلى من الخلق وهذه الجوهرة النفيسة الحاملة لأمانة الله تعالى المتقدمة بهذه الرتبة على السموات والأرضين والجبال إذ أبين أن يحملنها وأشفقن منها من عالم الأمر ولا يفهم من هذا أنه تعريض بقدمها فإن القائل بقدم الأرواح مغرور جاهل لا يدري ما يقول فلنقبض عنان البيان عن هذا الفن فهو وراء ما نحن بصدده والمقصود أن هذه اللطيفة هي الساعية إلى قرب الرب لأنها من أمر الرب فمنه مصدرها وإليه مرجعها وأما البدن فمطيتها التي تركبها وتسعى بواسطتها فالبدن لها في طريق الله تعالى كالناقة للبدن في طريق الحج وكالراوية الخازنة للماء الذي يفتقر إليه البدن فكل علم مقصده مصلحة البدن فهو من جملة مصالح المطية ولا يخفى أن الطب كذلك فإنه قد يحتاج إليه في حفظ الصحة على البدن ولو كان الإنسان وحده لاحتاج إليه والفقه يفارقه في أنه لو كان الإنسان وحده ربما كان يستغنى عنه ولكنه خلق على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده إذ لا يستقل بالسعي وحده في تحصيل طعامه بالحراثة والزرع والخبز والطبخ وفي تحصيل الملبس والمسكن وفي إعداد آلات ذلك كله فاضطر إلى المخالطة والاستعانة ومهما اختلط الناس وثارت شهواتهم تجاذبوا أسباب الشهوات وتنازعوا وتقاتلوا وحصل من قتالهم هلاكهم بسبب التنافس من خارج كما يحصل هلاكهم بسبب تضاد الأخلاط من داخل وبالطب يحفظ الاعتدال في الأخلاط المتنازعة من داخل وبالسياسة والعدل يحفظ الاعتدال في التنافس من خارج وعلم طريق اعتدال الأخلاط طب وعلم طريق اعتدال أحوال الناس في المعاملات والأفعال فقه وكل ذلك لحفظ البدن الذي هو مطية فالمتجرد لعلم الفقه أو الطب إذا لم يجاهد نفسه ولا يصلح قلبه كالمتجرد لشراء الناقة وعلفها وشراء الراوية وخرزها إذا لم يسلك بادية الحج والمستغرق عمره في دقائق الكلمات التي تجري في مجادلات الفقه كالمستغرق عمره في دقائق الأسباب التي بها تستحكم الخيوط التي تخرز بها الراوية للحج ونسبة هؤلاء من السالكين لطريق إصلاح القلب الموصل إلى علم المكاشفة كنسبة أولئك إلى سالكي طريق الحج أو ملابسي أركانه فتأمل هذا أولا واقبل النصيحة مجانا ممن قام عليه ذلك غالبا ولم يصل إليه إلا بعد جهد جهيد وجراءة تامة على مباينة الخلق العامة والخاصة في النزوع من تقليدهم بمجرد الشهوة فهذا القدر كاف في وظائف المتعلم.

بيان وظائف المرشد المعلم:

اعلم أن للإنسان في علمه أربعة أحوال كحاله في اقتناء الأموال إذ لصاحب المال حال استفادة فيكون مكتسبا وحال ادخار لما اكتسبه فيكون به غنيا عن السؤال وحال إنفاق على نفسه فيكون منتفعا وحال بذل لغيره فيكون به سخيا متفضلا وهو أشرف أحواله فكذلك العلم يقتنى كما يقتنى المال فله حال طلب واكتساب وحال تحصيل يغني عن السؤال وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع به وحال تبصير وهو أشرف الأحوال فمن علم وعمل وعلم فهو الذي يدعى عظيما في ملكوت السموات فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها وكالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب والذي يعلم ولا يعمل به كالدفتر الذي يفيد غيره وهو خال عن العلم وكالمسن الذي يشحذ غيره ولا يقطع والإبرة التي تكسو غيرها وهي عارية وذبالة المصباح تضيء لغيرها وهي تحترق كما قيل:

ما هو إلا ذبالة وقدت                  تضيء للناس وهي تحترق

ومهما اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمرا عظيما وخطرا جسيما فليحفظ آدابه ووظائفه.

الوظيفة الأولى: الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنما أنا لكم مثل الوالد لولده))[136]. بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية والمعلم سبب الحياة الباقية ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة أعني معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك نعوذ بالله منه وكما أن حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابوا ويتعاونوا على المقاصد كلها فكذلك حق تلامذة الرجل الواحد التحاب والتوادد ولا يكون إلا كذلك إن كان مقصدهم الآخرة ولا يكون إلا التحاسد والتباغض إن كان مقصدهم الدنيا فإن العلماء وأبناء الآخرة مسافرون إلى الله تعالى وسالكون إليه الطريق من الدنيا وسنوها وشهورها منازل الطريق والترافق في الطريق بين المسافرين إلى الأمصار سبب التواد والتحاب فكيف السفر إلى الفردوس الأعلى والترافق في طريقه ولا ضيق في سعادة الآخرة فلذلك لا يكون بين أبناء الآخرة تنازع ولا سعة في سعادات الدنيا فلذلك لا ينفك عن ضيق التزاحم والعادلون إلى طلب الرياسة بالعلوم خارجون عن موجب قوله تعالى: ]إنما المؤمنون إخوة [ (الحجرات: 10) وداخلون في مقتضى قوله تعالى: ]الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين[ (الزخرف: 67).

الوظيفة الثانية: أن يقتدى بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فلا يطلب على إفادة العلم أجرا ولا يقصد به جزاء ولا شكرا بل يعلم لوجه الله تعالى وطلبا للتقرب إليه ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها كالذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك زراعة فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض فكيف تقلده منة وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى ولولا المتعلم ما نلت هذا الثواب فلا تطلب الأجر إلا من الله تعالى، كما قال عز وجل: ]ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ن[ (هود: 29) فإن المال وما في الدنيا خادم البدن، والبدن مركب النفس ومطيتها، والمخدوم هو العلم، إذ به شرف النفس؛ فمن طلب بالعلم المال كان كمن مسح أسفل مداسه بوجهه لينظفه فجعل المخدوم خادما والخادم مخدوما وذلك هو الانتكاس على أم الرأس ومثله هو الذي يقوم في العرض الأكبر مع المجرمين ناكسي رءوسهم عند ربهم وعلى الجملة فالفضل والمنة للمعلم فانظر كيف انتهى أمر الدين إلى قوم يزعمون أن مقصودهم التقرب إلى الله تعالى بما هم فيه من علم الفقه والكلام والتدريس فيهما وفي غيرهما فإنهم يبذلون المال والجاه ويتحملون أصناف الذل في خدمة السلاطين لاستطلاق الجرايات ولو تركوا ذلك لتركوا ولم يختلف إليهم ثم يتوقع المعلم من المتعلم أن يقوم له في كل نائبة وينصر وليه ويعادي عدوه وينتهض جهارا له في حاجاته ومسخرا بين يديه في أوطاره فإن قصر في حقه ثار عليه وصار من أعدى أعدائه فأخسس بعالم يرضى لنفسه بهذه المنزلة ثم يفرح بها ثم لا يستحي من أن يقول غرضي من التدريس نشر العلم تقربا إلى الله تعالى ونصرة لدينه فانظر إلى الأمارات حتى ترى ضروب الاغترارات.

الوظيفة الثالثة: أن لا يدع من نصح المتعلم شيئا وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلى ثم ينبهه على أن الغرض بطلب العلوم القرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة والمنافسة ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده فإن علم من باطنه أنه لا يطلب العلم إلا للدنيا نظر إلى العلم الذي يطلبه فإن كان هو علم الخلاف في الفقه والجدل في الكلام والفتاوى في الخصومات والأحكام فيمنعه من ذلك فإن هذه العلوم ليست من علوم الآخرة ولا من العلوم التي قيل فيها تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله وإنما ذلك علم التفسير وعلم الحديث وما كان الأولون يشتغلون به من علم الآخرة ومعرفة أخلاق النفس وكيفية تهذيبها فإذا تعلمه الطالب وقصد به الدنيا فلا بأس أن يتركه فإنه يثمر له طمعا في الوعظ والاستتباع ولكن قد يتنبه في أثناء الأمر أو آخره إذ فيه العلوم المخوفة من الله تعالى المحقرة للدنيا المعظمة للآخرة وذلك يوشك أن يؤدي إلى الصواب في الآخرة حتى يتعظ بما يعظ به غيره ويجري حب القبول والجاه مجرى الحب الذي ينثر حوالي الفخ ليقتنص به الطير وقد فعل الله ذلك بعباده إذ جعل الشهوة ليصل الخلق بها إلى بقاء النسل وخلق أيضا حب الجاه ليكون سببا لإحياء العلوم وهذا متوقع في هذه العلوم.

فأما الخلافيات المحضة ومجادلات الكلام ومعرفة التفاريع الغريبة فلا يزيد التجرد لها مع الإعراض عن غيرها إلا قسوة القلب وغفلة عن الله تعالى وتماديا في الضلال وطلبا للجاه إلا من تداركه الله تعالى برحمته أو مزج به غيره من العلوم الدينية ولا برهان على هذا كالتجربة والمشاهدة فانظر واعتبر واستبصر لتشاهد تحقيق ذلك في العباد والبلاد والله المستعان. وقد رؤي سفيان الثوري رحمه الله حزينا فقيل له: ما لك؟ فقال صرنا متجرا لأبناء الدنيا، يلزمنا أحدهم حتى إذا تعلم جعل قاضيا أو عاملا أو قهرمانا.

الوظيفة الرابعة: وهي من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح يهتك حجاب الهيئة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار إذ قال صلى الله عليه وسلم وهو مرشد كل معلم: (( لو منع الناس عن فت البعر لفتوه وقالوا ما نهينا عنه إلا وفيه شيء))[137] وينبهك على هذا قصة آدم وحواء عليهما السلام وما نهيا عنه فما ذكرت القصة معك لتكون سمرا بل لتتنبه بها على سبيل العبرة ولأن التعريض أيضا يميل النفوس الفاضلة والأذهان الذكية إلى استنباط معانيه فيفيد فرح التفطن لمعناه رغبة في العلم به ليعلم أن ذلك مما لا يعزب عن فطنته.

الوظيفة الخامسة: أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه ومعلم الفقه عادته تقبيح علم الحديث والتفسير وأن ذلك نقل محض وسماع وهو شأن العجائز ولا نظر للعقل فيه ومعلم الكلام ينفر عن الفقه ويقول ذلك فروع وهو كلام في حيض النسوان فأين ذلك من الكلام في صفة الرحمن فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين ينبغي أن تجتنب بل المتكفل بعلم واحد ينبغي أن يوسع على المتعلم طريق التعلم في غيره وإن كان متكفلا بعلوم فينبغي أن يراعى التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة.

الوظيفة السادسة: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم))[138] فليبث إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها وقال صلى الله عليه وسلم : (( ما أحد يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم))[139]. وقال علي رضي الله عنه وأشار إلى صدره: ((إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها حملة)). وصدق رضي الله عنه فقلوب الأبرار قبور الأسرار، فلا ينبغي أن يفشي العالم كل ما يعلم إلى كل أحد هذا إذا كان يفهمه المتعلم ولم يكن أهلا للانتفاع به فكيف فيما لا يفهمه؟ وقال عيسى عليه السلام: لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير، فإن الحكمة خير من الجوهر، ومن كرهها فهو شر من الخنازير. ولذلك قيل: كل لكل عبد بمعيار عقله، وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار. وسئل بعض العلماء عن شيء فلم يجب فقال السائل: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كتم علما نافعا جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار))[140]. فقال اترك اللجام واذهب فإن جاء من يفقه وكتمته فليلجمني فقد قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم تنبيها على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى وليس الظلم في إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم في منع المستحق:

أأنثر دّراً بين سارحةِ النَّعمِ             فأصبح مخزوناً براعيةِ الغنمْ

لأنهم أمسوا بجهلٍ لقدرهِ               فلا أنا أضحى أن أطوقهُ البهمْ

فإن لطفَ اللهِ اللطيفُ بلطفهِ           وصادفتُ أهلاً للعلوم وللحكمْ

نشرتُ مفيداً واستفدتُ مواة          وإلا فمخزونٌ لدي ومكتتمْ

فمَن منحَ الجهالَ علماً أضاعهُ           ومَن منعَ المستوجبين فقد ظلمْ

 

الوظيفة السابعة:  أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقى إليه الجلى اللائق به ولا يذكر له وراء هذا تدقيقا وهو يدخره عنه فإن ذلك يفتر رغبته في الجلى ويشوش عليه قلبه ويوهم إليه البخل به عنه إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق فما من أحد إلا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلا هو أفرحهم بكمال عقله وبهذا يعلم أن من تقيد من العوام بقيد الشرع ورسخ في نفسه العقائد المأثورة عن السلف من غير تشبيه ومن غير تأويل وحسن مع ذلك سريرته ولم يحتمل عقله أكثر من ذلك فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده بل ينبغي أن يخلى وحرفته فإنه لو ذكر له تأويلات الظاهر اتحل عنه قيد العوام ولم يتيسر قيده بقيد الخوض فيرتفع عنه السد الذي بينه وبين المعاصي وينقلب شيطانا مريدا بهلك نفسه وغيره بل لا ينبغي أن يخاض مع العوام في حقائق العلوم الدقيقة بل يقتصر معهم على تعليم العبادات وتعليم الأمانة في الصناعات التي هم بصددها ويملأ قلوبهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار كما نطق به القرآن ولا يحرك عليهم شبهة فإنه ربما تعلقت الشبهة بقلبه ويعسر عليه حلها فيشقى ويهلك وبالجملة لا ينبغي أن يفتح للعوام باب البحث فإنه يعطل عليهم صناعاتهم التي بها قوام الخلق ودوام عيش الخواص.

الوظيفة الثامنة: أن يكون المعلم عاملا بعلمه فلا يكذب قوله فعله لأن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر فإذا خالف العمل العلم منع الرشد وكل من تناول شيئا وقال للناس لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر الناس به واتهموه وزاد حرصهم على ما نهوا عنه فيقولون لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به ومثل المعلم المرشد من المسترشدين مثل النقش من الطين والظل من العود فكيف ينتقش الطين بما لا نقش فيه ومتى استوى الظل والعود أعوج ولذلك قيل في المعنى:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله                       عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ

وقال الله تعالى: ]أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم[ (البقرة: 44). ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل إذ يزل بزلته عالم كثير ويقتدون به ((ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها))[141] ولذلك قال علي رضي الله عنه: (( قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك))، فالجاهل يغر الناس بتنسكه والعالم يغرهم بتهتكه. والله أعلم.

 

 

الباب السادس

في آفات العلم وبيان علامات علما الآخرة والعلماء السوء

قد ذكرنا ما ورد من فضائل العلم والعلماء وقد ورد في العلماء السوء تشديدات عظيمة دلت على أنهم أشد الخلق عذابا يوم القيامة فمن المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه))[142]. وعنه صلى الله عليه وسلم: (( أنه قال لا يكون المرء عالما حتى يكون بعلمه عاملا))[143]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((العلم علمان علم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على خلقه، وعلم في القلب فذلك العلم النافع))[144]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( يكون في آخر الزمان عباد جهال وعلماء فساق))[145]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السفهاء ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم فمن فعل ذلك فهو في النار))[146]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((  من كتم علما عنده ألجمه الله بلجام من نار))[147]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((  لأنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال فقيل وما ذلك فقال من الأئمة المضلين))[148]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا))[149]. وقال عيسى عليه السلام: إلى متى تصفون الطريق للمدلجين وأنتم مقيمون مع المتحيرين!

فهذا وغيره من الأخبار يدل على عظيم خطر العلم، فإن العالم إما متعرض لهلاك الأبد، أو لسعادة الأبد وإنه بالخوض في العلم قد حرم السلامة إن لم يدرك السعادة.

وأما الآثار: فقد قال عمر رضي الله عنه: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم قالوا وكيف يكون منافقا عليما قال عليم اللسان جاهل القلب والعمل وقال الحسن، رحمه الله: لا تكن ممن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء. وقال رجل لأبي هريرة، رضي الله عنه: أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه، فقال: كفى بترك العلم إضاعة له. وقيل لإبراهيم بن عيينة: أي الناس أطول ندماً؟ قال: أما في عاجل الدنيا، فصانع المعروف إلى من لا يشكره، وأما عند الموت، فعالم مفرّط. وقال الخليل بن أحمد: الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه. وقال سفيان الثوري، رحمه الله: يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.

وقال ابن المبارك: لا يزال المرء عالما ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل وقال الفضيل ابن عياض رحمه الله إني لأرحم ثلاثة عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر وعالما تلعب به الدنيا وقال الحسن عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة وأنشدوا:

عجبتُ لمبتاعٍ الضلالةِ بالهدى          ومن يشتري دنياهُ بالدين أعجبُ

وأعجبُ من هذينِ مَن باعَ ديَنهُ                 بدُنيا سواهُ فهو من ذينِ أعجبُ

وقال صلى الله عليه وسلم: (( إن العالم ليعذب عذابا يطيف به أهل النار استعظاما لشدة عذابه))[150]. أراد به العالم الفاجر، وقال أسامة بن زيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يقول يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيطيف به أهل النار فيقولون ما لك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه))[151]. وإنما يضاعف عذاب العالم في معصيته لأنه عصى من علم ولذلك قال الله عز وجل: ]إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار[ (النساء:145). لأنهم جحدوا بعد العلم وجعل اليهود شرا من النصارى مع أنهم ما جعلوا لله سبحانه ولدا ولا قالوا إنه ثالث ثلاثة إلا أنهم أنكروا بعد المعرفة إذ قال الله ]يعرفونه كما يعرفون أبناءهم[ (البقرة:146) (الأنعام:20). وقال تعالى: ]فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين[ (البقرة:89). وقال تعالى في قصة بلعام بن باعوراء ]واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين[ (الأعراف:175) حتى قال ]فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث[(الأعراف:176). فكذلك العالم الفاجر فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات فشبه بالكلب أي سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت فهو يلهث إلى الشهوات.

وقال عيسى، عليه السلام: مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى.

فهذه الأخبار والآثار تبين أن العالم الذي هو من أبناء الدنيا أخس حالا وأشد عذابا من الجاهل وأن الفائزين المقربين هم علماء الآخرة ولهم علامات:

فمنها: أن لا يطلب الدنيا بعلمه فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من احدهما بعدت عن الآخر وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلىء يفرغ الآخر فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غير مطمع فهو جاهل بشرائع الأنبياء كلهم بل هو كافر بالقرآن كله من أوله إلى آخر فكيف يعد من زمرة العلماء ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته؟

وفي أخبار داود عليه السلام حكاية عن الله تعالى: إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي يا داود لا تسأل عني عالما قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي يا داود إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما يا داود من رد إلي هاربا كتبته جهبذا ومن كتبته جهبذا لم أعذبه أبدا ولذلك قال الحسن رحمه الله عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة ولذلك قال يحيى بن معاذ إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا وقال سعيد بن المسيب رحمه الله إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص وقال عمر رضي الله عنه إذا رأيتم للعالم محبا للدنيا فاتهموه على دينكم فإن كل محب يخوض فيما أحب وقال مالك بن دينار رحمه الله قرأت في بعض الكتب السالفة إن الله تعالى يقول إن أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه وكتب رجل إلى أخ له إنك قد أوتيت علما فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم. وكان يحيى بن معاذ الرازي، رحمه الله يقول لعلماء الدنيا: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأثوابكم ظاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين الشريعة المحمدية! قال الشاعر:

وراعى الشاة يحمي الذئبُ عنها        فكيف إذا الرعاةُ لها ذئاب

وقال الآخر:

يا معشرَ القراء يا ملحَ البلدِ           مايصلحُ الملح إذا الملحُ فسدْ

وقيل لبعض العارفين: أترى أن من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله قال لا شك أن من تكون الدنيا عنده آثر من الآخرة أنه لا يعرف الله تعالى وهذا دون ذلك بكثير ولا تظنن أن ترك المال يكفي في اللحوق بعلماء الآخرة فإن الجاه أضر من المال ولذلك قال بشر حدثنا باب من أبواب الدنيا فإذا سمعت الرجل يقول حدثنا فإنما يقول أوسعوا لي ودفن بشر بن الحرث بضعة عشر ما بين قمطرة وقوصرة من الكتب وكان يقول أنا أشتهي أن أحدث ولو ذهبت عني شهوة الحديث لحدثت وقال هو وغيره إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت فإذا لم تشته فحدث وهذا لأن التلذذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد أعظم لذة من كل تنعم في الدنيا فمن أجاب شهوته فيه فهو من أبناء الدنيا ولذلك قال الثوري فتنة الحديث أشد من فتنة الأهل والمال والولد وكيف لا تخاف فتنته وقد قيل لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: ]ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا[ (الإسراء: 74)

وقال سهل رحمه الله: العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل كله هباء إلا الإخلاص وقال الناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجل حتى يدري ماذا يختم له به وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا وإنما أراد به طلب الأسانيد العالية أو طلب الحديث الذي لا يحتاج إليه في طلب الآخرة وقال عيسى عليه السلام كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على طريق دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به وقال صالح بن كيسان البصري أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من طلب علما مما يبتغي به وجه الله تعالى ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.[152]))

وقد وصف الله علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد فقال عز وجل في علماء الدنيا ]وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا[ (آل عمران: 187). وقال تعالى في علماء الآخرة: ]وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم[ (آل عمران:199) وقال بعض السلف: العلماء يحشرون في زمرة الأنبياء والقضاة يحشرون في زمرة السلاطين وفي معنى القضاة كل فقيه قصده طلب الدنيا بعلمه.

وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( أوحى الله عز وجل إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون للناس مسوك الكباش وقلوبهم كقلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر إياي يخادعون وبي يستهزئون لأفتحن لهم فتنة تذر الحليم حيراناً))[153].

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( علماء هذه الأمة رجلان رجل آتاه الله علما فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعا ولم يشتر به ثمنا فذلك يصلي عليه طير السماء وحيتان الماء ودواب الأرض والكرام الكاتبون يقدم على الله عز وجل يوم القيامة سيدا شريفا حتى يوافق المرسلين ورجل آتاه الله علما في الدنيا فضن به على عباد الله وأخذ عليه طمعا واشترى به ثمنا فذلك يأتي يوم القيامة ملجما بلجام من نار ينادي مناد على رؤوس الخلائق هذا فلان بن فلان آتاه الله علما في الدنيا فضن به على عباده وأخذ به طمعا واشترى به ثمنا فيعذب حتى يفرغ من حساب الناس))[154].

وأشد من هذا ما روي أن رجلا كان يخدم موسى عليه السلام فجعل يقول حدثني موسى صفي الله حدثني موسى نجي الله حدثني موسى كليم الله حتى أثرى وكثر ماله ففقده موسى عليه السلام فجعل يسأل عنه ولا يحس له خبرا حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود فقال له موسى عليه السلام أتعرف فلانا قال نعم قال هو هذا الخنزير فقال موسى يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله بم أصابه هذا فأوحى الله عز وجل إليه لو دعوتني بالذي دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه ولكن أخبرك لم صنعت هذا به لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.

وأغلظ من هذا ما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع))[155].  وفي الكلام تنميق وزيادة ولا يؤمن على صاحبه الخطأ وفي الصمت سلامة وعلم ومن العلماء من يخزن علمه فلا يحب أن يوجد عند غيره فذلك في الدرك الأول من النار ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان إن رد عليه شيء من علمه أو تهوون بشيء من حقه غضب فذلك في الدرك الثاني من النار ومن العلماء من يجعل علمه وغرائب حديثه لأهل الشرف واليسار ولا يرى أهل الحاجة له أهلا فذلك في الدرك الثالث من النار ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي بالخطأ والله تعالى يبغض المتكلفين فذلك في الدرك الرابع من النار ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغزر به علمه فذلك في الدرك الخامس من النار ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة ونبلا وذكرا في الناس فذلك في الدرك السادس من النار ومن العلماء من يستفزه الزهو والعجب فإن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذلك في الدرك السابع من النار فعليك يا أخي بالصمت فيه تغلب الشيطان وإياك أن تضحك من غير عجب أو تمشي في غير أرب.

وفي خبر آخر: (( إن العبد لينشر له من الثناء ما يملأ ما بين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة))[156]. وروى أن الحسن حمل إليه رجل من خراسان كيسا بعد انصرافه من مجلسه فيه خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب من رقيق البز وقال يا أبا سعيد هذه نفقة وهذه كسوة فقال الحسن عافاك الله تعالى ضم إليك نفقتك وكسوتك فلا حاجة لنا بذلك إنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقى الله تعالى يوم القيامة ولا خلاق له وعن جابر رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا تجلسوا عند كل عالم إلا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس من الشك إلى اليقين ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد ومن الكبر إلى التواضع ومن العداوة إلى النصيحة))[157]. وقال تعالى: ]فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن… الآية[ (القصص: 79-80) فعرف أهل العلم بإيثار الآخرة على الدنيا.

ومنها أن لا يخالف فعله قوله بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به قال الله تعالى: ]أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم[ (البقرة: 44) وقال تعالى: ]كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون[ (الصف: 3) وقال تعالى في قصة شعيب: ]وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه[ (هود: 88) وقال تعالى: ]واتقوا الله ويعلمكم الله[ (البقرة: 282) وقال تعالى: ]واتقوا الله واعلموا[ (البقرة: 194) ]واتقوا الله واسمعوا[ (المائدة: 108). وقال تعالى لعيسى عليه السلام: ((يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من أنتم، فقالوا: كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه))[158]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((هلاك أمتي عالم فاجر وعابد جاهل وشر الشرار شرار العلماء وخير الخيار خيار العلماء))[159].

وقال الأوزاعي رحمه الله: شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار فأوحى الله إليها بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات. وقال الشعبي: يطلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم فيقولون إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله وننهى عن الشر ونفعله. وقال حاتم الأصم رحمه الله: ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علما فعملوا به ولم يعمل هو به ففازوا بسببه وهلك هو. وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا وأنشدوا:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً     إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها

أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً     فالموبقات لعمري أنت جانيها

تعيب دنيا وناسا راغبين لها                     وأنت أكثر منهم رغبة فيها

وقال آخر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله             عار عليك إذا فعلت عظيمُ

وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: مررت بحجر بمكة مكتوب عليه اقلبني تعتبر فقلبته فإذا عليه مكتوب أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لم تعلم وقال ابن السماك رحمه الله كم من مذكر بالله ناس لله وكم من مخوف بالله جرىء على الله وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله وكم من داع إلى الله فار من الله وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله.

وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن ولحنا في أعمالنا فلم نعرب. وقال الأوزاعي: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع.

وروى مكحول عن عبد الرحمن بن غنم أنه قال حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كنا ندرس العلم في مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا))[160]. وقال عيسى عليه السلام: مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت فظهر حملها فافتضحت فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رءوس الأشهاد. وقال معاذ رحمه الله: احذروا زلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم فيتبعونه على زلته. وقال عمر رضي الله عنه: إذا زل العالم زل بزلته عالم من الخلق. وقال عمر رضي الله عنه: ثلاث بهن ينهدم الزمان إحداهن زلة العالم. وقال ابن مسعود: سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب فلا ينتفع بالعلم يومئذ عالمه ولا متعلمه فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح ينزل عليها قطر السماء فلا يوجد لها عذوبة وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة ويطفىء مصابيح الهدى من قلوبهم فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه والفجور ظاهر في عمله فما أخصب الألسن يومئذ وما أجدب القلوب فوالله الذي لا إله إلا هو ما ذلك إلإ لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى. وفي التوراة والإنجيل مكتوب: لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما علمتم. وقال حذيفة رضي الله عنه: إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك وسيأتي زمان من عمل فيه بعشر ما يعلم نجا وذلك لكثرة البطالين.

واعلم أن مثل العالم مثل القاضي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (( القضاة ثلاثة قاض قضى بالحق وهو يعلم فذلك في الجنة وقاض قضى بالجور وهو يعلم أو لا يعلم فهو في النار وقاض قضى بغير ما أمر الله به فهو في النار))[161]. وقال كعب رحمه الله: يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ويخوفون الناس ولا يخافون وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم ويؤثرون الدنيا على الآخرة يأكلون بألسنتهم يقربون الأغنياء دون الفقراء يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال يغضب أحدهم على جليسه إذا جالس غيره أولئك الجبارون أعداء الرحمن. وقال صلى الله عليه وسلم: (( إن الشيطان ربما يسوفكم بالعلم، فقيل يا رسول الله وكيف ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: يقول اطلب العلم ولا تعمل حتى تعلم فلا يزال للعلم قائلا وللعمل مسوفا حتى يموت وما عمل))[162].

وقال سرى السقطي: اعتزل رجل للتعبد كان حريصا على طلب علم الظاهر فسألته فقال رأيت في النوم قائلا يقول لي إلى كم تضيع العلم ضيعك الله فقلت إني لأحفظه فقال حفظ العلم العمل به فتركت الطلب وأقبلت على العمل. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية. وقال الحسن: تعلموا ما شئتم أن تعلموا فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية والعلماء همتهم الرعاية. وقال مالك رحمه الله: إن طلب العلم لحسن وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فلا تؤثرن عليه شيئا.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملا وسيأتي قوم يثقفونه مثل القناة ليسوا بخياركم والعالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء وكالجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة ولا يجدها وفي مثله قوله تعالى: ]ولكم الويل مما تصفون[ (الأنبياء: 18). وفي الخبر: (( إنما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق في القرآن))[163].

ومنها: أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات مجتنبا للعلوم التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدال والقيل والقال فمثال من يعرض عن علم الأعمال ويشتغل بالجدال مثل رجل مريض به علل كثيرة وقد صادف طبيبا حاذقا في وقت ضيق يخشى فواته فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به وذلك محض السفه. وقد روي: (( أن رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علمني من غرائب العلم فقال له ما صنعت في رأس العلم فقال وما رأس العلم فقال صلى الله عليه وسلم هل عرفت الرب تعالى قال نعم قال فما صنعت في حقه قال ما شاء الله فقال صلى الله عليه وسلم هل عرفت الموت قال نعم قال فما أعددت له قال ما شاء الله قال صلى الله عليه وسلم إذهب فأحكم ما هناك ثم تعال نعلمك من غرائب العلم ))[164].

بل ينبغي أن يكون المتعلم من جنس ما روى عن حاتم الأصم تلميذ شقيق البلخي رضي الله عنهما: أنه قال له شقيق: منذ كم صحبتني؟ قال حاتم منذ ثلاث وثلاثين سنة. قال: فما تعلمت مني في هذه المدة؟ قال: ثماني مسائل. قال شقيق له: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل! قال: يا أستاذ لم أتعلم غيرها وإني لا أحب أن أكذب. فقال: هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها.

[الأول] قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوبا فهو مع محبوبه إلى القبر فإذا وصل إلى القبر فارقه فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي. فقال: أحسنت يا حاتم فما الثانية.

فقال: نظرت في قول الله عز وجل ]وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى~ فإن الجنة هي المأوى[ (النازعات: 40، 41)  فعلمت أن قوله سبحانه وتعالى هو الحق فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى.

الثالثة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل ممن معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: ]ما عندكم ينفذ وما عند الله باق[ (النحل: 96) فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظا.

الرابعة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله تعالى ]إن أكرمكم عند الله أتقاكم[ (الحجرات: 13) فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريما.

الخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض ويلعن بعضهم بعضا وأصل هذا كله الحسد ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: ]نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا[ (الزخرف: 32) فتركت الحسد واجتنبت الخلق وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني.

السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضا فرجعت إلى قول الله عز وجل: ]إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا[ (فاطر: 6) فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي فتركت عداوة الخلق غيره.

السابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة فيذل فيها نفسه ويدخل فيما لا يحل له ثم نظرت إلى قوله تعالى: ]وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها[ (هود: 6) فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده.

الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق هذا على ضيعته وهذا على تجارته وهذا على صناعته وهذا على صحة بدنه وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله فرجعت إلى قوله تعالى: ]ومن يتوكل على الله فهو حسبه[ (الطلاق: 3) فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي. قال شقيق: يا حاتم وفقك الله تعالى فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذه الثمان مسائل فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة.

فهذا الفن من العلم لا يهتم بإدراكه والتفطن له إلا علماء الآخرة فأما علماء الدنيا فيشتغلون بما يتيسر به اكتساب المال والجاه ويهملون أمثال هذه العلوم التي بعث الله بها الأنبياء كلهم عليهم السلام وقال الضحاك بن مزاحم أدركتهم وما يتعلم بعضهم من بعض إلا الورع وهم اليوم ما يتعلمون إلا الكلام.

ومنها: أن يكون غير مائل إلى الترفه في المطعم والمشرب والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث والمسكن بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك ويتشبه فيه بالسلف رحمهم الله تعالى ويميل إلى الاكتفاء بالأقل في جميع ذلك وكلما زاد إلى طرف القلة ميله ازداد من الله قربه وارتفع في علماء الآخرة حزبه ويشهد لذلك ما حكي عن أبي عبد الله الخواص وكان من أصحاب حاتم الأصم قال دخلت مع حاتم إلى الري ومعنا ثلثمائة وعشرون رجلا يريد الحج وعليهم الزرمانقات وليس معهم جراب ولا طعام فدخلنا على رجل من التجار متقشف يحب المساكين فأضافنا تلك الليلة فلما كان من الغد قال لحاتم ألك حاجة فإني أريد أن أعود فقيها لنا هو عليل قال حاتم عيادة المريض فيها فضل والنظر إلى الفقيه عبادة وأنا أيضا أجيء معك وكان العليل محمد بن مقاتل قاضي الري فلما جئنا إلى الباب فإذا قصر مشرف حسن فبقي حاتم متفكرا يقول باب عالم على هذه الحالة ثم أذن لهم فدخلوا فإذا دار حسناء فوراء واسعة نزهة وإذا بزة وستور فبقي حاتم متفكرا ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه وإذا بفرش وطيئة وهو راقد عليها وعند رأسه غلام وبيده مذبة فقعد الزائر عند رأسه وسأل عن حاله وحاتم قائم فأومأ إليه ابن مقاتل أن اجلس فقال لا أجلس فقال لعل لك حاجة فقال نعم قال وما هي قال مسئلة أسألك عنها قال سل قال قم فاستو جالسا حتى أسألك فاستوى جالسا قال حاتم: علمك هذا من أين أخذته فقال من الثقات حدثوني به، قال: عمن، قال: عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن، قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمن، قال: عن جبرائيل عليه السلام، عن الله عز وجل، قال حاتم: ففيما أداه جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأداه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأصحابه إلى الثقات، وأداه الثقات إليك، هل سمعت فيه من كان في داره إشراف، وكانت سعتها أكثر كان له عند الله عز وجل المنزلة أكبر؟ قال: لا، قال: فكيف سمعت، قال: سمعت أنه من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحب المساكين وقدم لآخرته كانت له عند الله المنزلة، قال له حاتم: فأنت بمن اقتديت ابالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والصالحين رحمهم الله، أم بفرعون ونمروذ، أول من بنى بالجص والآجر يا علماء السوء مثلكم يراه الجاهل المتكالب على الدنيا الراغب فيها فيقول العالم على هذه الحالة أفلا أكون أنا شرا منه؟ وخرج من عنده فازداد ابن مقاتل مرضا.

وبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل فقالوا له: إن الطنافسي بقزوين أكثر توسعا منه، فسار حاتم متعمدا فدخل عليه، فقال: رحمك الله أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني مبتدأ ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضأ للصلاة؟ قال: نعم وكرامة يا غلام هات إناء فيه ماء، فأتي به فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: هكذا فتوضأ، فقال حاتم: مكانك حتى أتوضأ بين يديك فيكون أوكد لما أريد، فقام الطنافسي وقعد حاتم فتوضأ ثم غسل ذراعيه أربعا أربعا، فقال الطنافسي: يا هذا أسرفت ! قال له حاتم: فبماذا؟ قال: غسلت ذراعيك أربعا! فقال حاتم: يا سبحان الله العظيم أنا في كف من ماء أسرفت وأنت في جميع هذا كله لم تسرف؟ فعلم الطنافسي أنه قصد ذلك دون التعلم، فدخل منزله فلم يخرج إلى الناس أربعين يوماً.

فلما دخل حاتم بغداد اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا يا أبا عبد الرحمن أنت رجل ولكن أعجمي وليس يكلمك أحد إلا قطعته قال معي ثلاث خصال أظهر بهن على خصمي أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن إذا أخطأ وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال سبحان الله ما أعقله قوموا بنا إليه فلما دخلوا عليه قال له يا أبا عبد الرحمن ما السلامة من الدنيا قال يا أبا عبد الله لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال تغفر للقوم جهلهم وتمنع جهلك منهم وتبذل لهم شيئك وتكون من شيئهم آيسا فإذا كنت هكذا سلمت.

ثم سار إلى المدينة فاستقبله أهل المدينة فقال يا قوم أية مدينة هذه قالوا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصلي فيه قالوا ما كان له قصر إنما كان له بيت لاطىء بالأرض قال فأين قصور أصحابه رضي الله عنهم قالوا ما كان لهم قصور إنما كان لهم بيوت لاطئة بالأرض قال حاتم يا قوم فهذه مدينة فرعون فأخذوه وذهبوا به إلى السلطان وقالوا هذا العجمي يقول هذه مدينة فرعون قال الوالي ولم ذلك قال حاتم لا تعجل علي أنا رجل أعجمي غريب دخلت البلد فقلت مدينة من هذه فقالوا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت فأين قصر وقص القصة ثم قال وقد قال الله تعالى: ]لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة[ (الأحزاب: 21) فأنتم بمن تأسيتم أبرسول الله صلى الله عليه وسلم أم بفرعون أول من بنى بالجص والآجر فخلوا عنه وتركوه فهذه حكاية حاتم الأصم رحمه الله تعالى وسيأتي من سيرة السلف في البذاذة وترك التجمل ما يشهد لذلك في مواضعه.

والتحقيق فيه أن التزين بالمباح ليس بحرام ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه واستدامة الزينة لا تمكن إلا بمباشرة أسباب في الغالب يلزم من مراعاتها ارتكاب المعاصي من المداهنة ومراعاة الخلق ومراءاتهم وأمور أخر هي محظورة والحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها ألبتة ولو كانت السلامة مبذولة مع الخوض فيها لكان صلى الله عليه وسلم لا يبالغ في ترك الدنيا حتى نزع القميص المطرز بالعلم[165]. ونزع خاتم الذهب في أثناء الخطبة[166]. إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه.

وقد حكى أن يحيى بن يزيد النوفلي كتب إلى مالك ابن أنس رضي الله عنهما:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على رسوله محمد في الأولين والآخرين. من يحيى ابن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس أما بعد: فقد بلغني أنك تليس الدقاق وتأكل الرقاق وتجلس على الوطىء وتجعل على بابك حاجبا وقد جلست مجلس العلم وقد ضربت إليك المطى وارتحل إليكالناس واتخذوك إماما ورضوا بقولك فاتق الله تعالى يا مالك وعليك بالتواضع كتبت إليك بالنصيحة مني كتابا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى والسلام.

فكتب إليه مالك:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد سلام الله عليك أما بعد فقد وصل إلي كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب أمتعك الله بالتقوى وجزاك بالنصيحة خيرا وأسأل الله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق وأحتجب وأجلس على الوطىء فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى فقد قال الله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا والسلام.

فانظر إلى إنصاف مالك إذ اعترف أن ترك ذلك خير من الدخول فيه وأفتى بأنه مباح وقد صدق فيهما جميعا ومثل مالك في منصبه إذا سمحت نفسه بالإنصاف والاعتراف في مثل هذه النصيحة فتقوى أيضا نفسه على الوقوف على حدود المباح حتى لا يحمله ذلك على المراءاة والمداهنة والتجاوز إلى المكروهات وأما غيره فلا يقدر عليه فالتعريج على التنعم بالمباح خطر عظيم وهو بعيد من الخوف والخشية وخاصية علماء الله تعالى الخشية وخاصية الخشية التباعد من مظان الخطر.

ومنها: أن يكون مستقصيا عن السلاطين فلا يدخل عليهم ألبتة ما دام يجد إلى الفرار عنهم سبيلا بل ينبغي أن يحترز عن مخالطتهم وإن جاءوا إليه فإن الدنيا حلوة خضرة وزمامها بأيدي السلاطين والمخالط لا يخلو عن تكلف في طيب مرضاتهم واستمالة قلوبهم مع أنهم ظلمة ويجب على كل متدين الإنكار عليهم وتضييق صدرهم بإظهار ظلمهم وتقبيح فعلهم فالداخل عليهم إما أن يلتفت إلى تجملهم فيزدري نعمة الله عليه أو يسكت عن الإنكار عليهم فيكون مداهنا لهم أو يتكلف في كلامه كلاما لمرضاتهم وتحسين حالهم وذلك هو البهت الصريح أو أن يطمع في أن ينال من دنياهم وذلك هو السحت وسيأتي في كتاب الحلال والحرام ما يجوز أن يؤخذ من أموال السلاطين وما لا يجوز من الإدرار والجوائز وغيرها وعلى الجملة فمخالطتهم مفتاح للشرور وعلماء الآخرة طريقهم الاحتياط.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((من بدا جفا -يعني من سكن البادية جفا- ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن))[167]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون فمن أنكر فقد برىء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع أبعده الله تعالى قيل أفلا نقاتلهم قال صلى الله عليه وسلم لا ما صلوا))[168].

وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وقال حذيفة: إياك ومواقف الفتن، قيل وما هي، قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول فيه ما ليس فيه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العلماء أمناء الرسل على عباد الله تعالى ما لم يخالطوا السلاطين فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم))[169].

وقيل للأعمش: لقد أحييت العلم لكثرة من يأخذه عنك فقال لا تعجلوا ثلث يموتون قبل الإدراك وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهم شر الخلق والثلث الباقي لا يفلح منه إلا القليل ولذلك قال سعيد ابن المسيب رحمه الله إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه فإنه لص وقال الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( شرار العلماء الذين يأتون الأمراء وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء))[170].

وقال مكحول الدمشقي رحمه الله: من تعلم القرآن وتفقه في الدين ثم صحب السلطان تملقا إليه وطمعا فيما لديه خاض في بحر من نار جهنم بعدد خطاه وقال سمنون ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسئل عنه فيقال هو عند الأمير قال وكنت أسمع أنه يقال إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك إذ ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك وأنتم ترون ما ألقاه به من الغلظة والفظاظة وكثرة المخالفة لهواه ولوددت أن أنجو من الدخول عليه كفافا مع أني لا آخذ منه شيئا ولا أشرب له شربة ماء ثم قال وعلماء زماننا شر من علماء بني إسرائيل يخبرون السلطان بالرخص وبما يوافق هواه ولو أخبروه بالذي عليه وفيه نجاته لاستثقلهم وكره دخولهم عليه وكان ذلك نجاة لهم عند ربهم.

وقال الحسن: كان فيمن كان قبلكم رجل له قدم في الإسلام وصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن المبارك عنى به سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال وكان لا يغشى السلاطين وينفر عنهم فقال له بنوه يأتي هؤلاء من ليس هو مثلك في الصحبة والقدم في الإسلام فلو أتيتهم فقال يا بني آتي جيفة قد أحاط بها قوم والله لئن استطعت لا أشاركهم فيها قالوا يا أبانا إذن نهلك هزالا قال يا بني لأن أموت مؤمنا مهزولا أحب إلى من أن أموت منافقا سمينا قال الحسن خصمهم والله إذ علم أن التراب يأكل اللحم والسمن دون الإيمان وفي هذا إشارة إلى أن الداخل على السلطان لا يسلم من النفاق ألبتة وهو مضاد للإيمان وقال أبو ذر لسلمة يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب شيئا من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم لا سيما من له لهجة مقبولة وكلام حلو إذ لا يزال الشيطان يلقى إليه أن في وعظك لهم ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم شعائر الشرع إلى أن يخيل إليه أن الدخول عليهم من الدين ثم إذا دخل لم يلبث أن يتلطف في الكلام ويداهن ويخوض في الثناء والإطراء وفيه هلاك الدين وكان يقال العلماء إذا علموا عملوا فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا.

وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الحسن:

أما بعد فأشر علي بأقوام أستعين بهم على أمر الله تعالى، فكتب إليه:

أما أهل الدين فلا يريدونك وأما أهل الدنيا فلن تريدهم ولكن عليك بالأشراف فإنهم يصونون شرفهم أن يدنسوه بالخيانة.

هذا في عمر بن عبد العزيز رحمه الله وكان أزهد أهل زمانه فإذا كان شرط أهل الدين الهرب منه فكيف يستنسب طلب غيرهم ومخالطته ولم يزل السلف العلماء مثل الحسن والثوري وابن المبارك والفضيل وإبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط يتكلمون في علماء الدنيا من أهل مكة والشام وغيرهم إما لميلهم إلى الدنيا وإما لمخالطتهم السلاطين.

ومنها: أن لا يكون مسارعا إلى الفتيا بل يكون متوقفا ومحترزا ما وجد إلى الخلاص سبيلا فإن سئل عما يعلمه تحقيقا بنص كتاب الله أو بنص حديث أو إجماع أو قياس جلي أفتى وإن سئل عما يشك فيه قال لا أدري وإن سئل عما يظنه باجتهاد وتخمين احتاط ودفع عن نفسه وأحال على غيره إن كان في غيره غنية هذا هو الحزم لأن تقلد خطر الاجتهاد عظيم وفي الخبر: ((العلم ثلاثة كتاب ناطق وسنة قائمة ولا أدري))[171]. قال الشعبي لا أدري نصف العلم ومن سكت حيث لا يدرى لله تعالى فليس بأقل أجرا ممن نطق لأن الاعتراف بالجهل أشد على النفس فهكذا كانت عادة الصحابة والسلف رضي الله عنهم.

كان ابن عمر إذا سئل عن الفتيا قال اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلد أمور الناس فضها في عنقه وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون وقال جنة العالم لا أدري فإن أخطأها فقد أصيبت مقاتله وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله ليس شيء أشد على الشيطان من عالم يتكلم بعلم ويسكت بعلم يقول انظروا إلى هذا سكوته أشد علي من كلامه ووصف بعضهم الأبدال فقال أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة أي لا يتكلمون حتى يسألوا وإذا سئلوا ووجدوا من يكفيهم سكتوا فإن اضطروا أجابوا وكانوا يعدون الابتداء قبل السؤال من الشهوة الخفية للكلام ومر علي وعبد الله رضي الله عنهما برجل يتكلم على الناس فقال هذا يقول اعرفوني وقال بعضهم إنما العالم الذي إذا سئل عن المسئلة فكأنما يقلع ضرسه وكان ابن عمر يقول تريدون أن تجعلونا جسرا تعبرون علينا إلى جهنم وقال أبو حفص النيسابوري العالم هو الذي يخاف عند السؤال أن يقال له يوم القيامة من أين أجبت وكان إبراهيم التيمي إذا سئل عن مسئلة يبكي ويقول لم تجدوا غيري حتى احتجتم إلي وكان أبو العالية الرياحي وإبراهيم بن أدهم والثوري يتكلمون على الاثنين والثلاثة والنفر اليسير فإذا كثروا انصرفوا. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أدري أعزير نبي أم لا وما أدري أتبع ملعون أم لا وما أدري ذو القرنين نبي أم لا ))[172].

ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير البقاع في الأرض وشرها قال: لا أدري، حتى نزل عليه جبريل عليه السلام فسأله فقال: لا أدري، إلى أن أعلمه الله عز وجل أنَّ خير البقاع المساجد وشرها الأسواق[173].

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسئل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت عن تسع وكان ابن عباس رضي الله عنهما يجيب عن تسع ويسكت عن واحدة وكان في الفقهاء من يقول لا أدري أكثر مما يقول أدري منهم سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفضيل ابن عياض وبشر بن الحرث وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم أحد يسئل عن حديث أو فتيا إلا ود أن أخاه كفاه ذلك وفي لفظ آخر كانت المسئلة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر ويردها الآخر إلى الآخر حتى تعود إلى الأول.

وروي أن أصحاب الصفة أهدى إلى واحد منهم رأس مشوي وهو في غاية الضر فأهداه إلى الآخر وأهداه الآخر إلى الآخر هكذا دار بينهم حتى رجع إلى الأول فانظر الآن كيف انعكس أمر العلماء فصار المهروب منه مطلوبا والمطلوب مهروبا عنه ويشهد لحسن الاحتراز من تقلد الفتاوى ما روي مسندا عن بعضهم أنه قال لايفتى الناس إلا ثلاثة أمير أو مأمور أو متكلف وقال بعضهم كان الصحابة يتدافعون أربعة أشياء الإمامة والوصية والوديعة والفتيا وقال بعضهم كان أسرعهم إلى الفتيا أقلهم علما وأشدهم دفعا لها أورعهم وكان شغل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في خمسة أشياء قراءة القرآن وعمارة المساجد وذكر الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك لما سمعوه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثة أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى))[174].

وقال تعالى: ]لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس… الآية[ (النساء:114) ورأى بعض العلماء بعض أصحاب الرأي من أهل الكوفة في المنام فقال ما رأيت فيما كنت عليه من الفتيا والرأي فكره وجهه وأعرض عنه وقال ما وجدناه شيئا وما حمدنا عافيته وقال ابن حصين إن أحدهم ليفتي في مسئلة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر فلم يزل السكوت دأب أهل العلم إلا عند الضرورة. وفي الحديث: (( إذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتا وزهدا فاقتربوا منه فإنه يلقن الحكمة))[175].

وقيل العالم إما عالم عامة وهو المفتي وهم أصحاب السلاطين أو عالم خاصة وهو العالم بالتوحيد وأعمال القلوب وهم أصحاب الزوايا المتفرقون المنفردون.

وكان يقال مثل أحمد بن حنبل مثل دجلة كل أحد يغترف منها ومثل بشر بن الحرث مثل بئر عذبة مغطاة لا يقصدها إلا واحد بعد واحد وكانوا يقولون فلان عالم وفلان متكلم وفلان أكثر كلاما وفلان أكثر عملا وقال أبو سليمان المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى الكلام وقيل إذا كثر العلم قل الكلام وإذا كثر الكلام قل العلم. وكتب سلمان إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما، وكان قد آخى[176] بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا أخي بلغني أنك قعدت طبيبا تداوي المرضى فانظر فإن كنت طبيبا فتكلم فإن كلامك شفاء وإن كنت متطببا فالله الله لا تقتل مسلما فكان أبو الدرداء يتوقف بعد ذلك إذا سئل. وكان أنس رضي الله عنه إذا سئل يقول سلوا مولانا الحسن وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا سئل يقول سلوا حارثة ابن زيد وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول سلوا سعيد بن المسيب وحكى أنه روى صحابي في حضرة الحسن عشرين حديثا فسئل عن تفسيرها فقال ما عندي إلا ما رويت فأخذ الحسن في تفسيرها حديثا حديثا فتعجبوا من حسن تفسيره وحفظه فأخذ الصحابي كفا من حصى ورماهم به وقال تسألوني عن العلم وهذا الحبر بين أظهركم.

ومنها: أن يكون أكثر اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه وصدق الرجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة فإن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة ودقائق علوم القلب تنفجر بها ينابيع الحكمة من القلب وأما الكتب والتعليم فلا تفي بذلك بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد إنما تتفتح بالمجاهدة والمراقبة ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس مع الله عز وجل في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة والانقطاع إلى الله تعالى عما سواه فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف فكم من متعلم طال تعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة وكم من مقتصر على المهم في التعلم ومتوفر على العمل ومراقبة القلب فتح الله له من لطائف الحكمة ما تحار فيه عقول ذوي الألباب. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم))[177].

وفي بعض الكتب السالفة يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به إلى الأرض ولا في تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء البحار من يعبر به العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا لي بأخلاق الصديقين أظهر العلم في قلوبكم حتى يغطيكم ويغمركم.

وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: خرج العلماء والعباد والزهاد من الدنيا وقلوبهم مقفلة ولم تفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء ثم تلا قوله تعالى: ]وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو… الآية[ (الأنعام: 59). ولولا أن إدراك قلب من له قلب بالنور الباطن حاكم على علم الظاهر لما قال صلى الله عليه وسلم: (( استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك))[178]. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى: (( لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به… الحديث))[179].

فكم من معان دقيقة من أسرار القرآن تخطر على قلب المتجردين للذكر والفكر تخلو عنها كتب التفاسير ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين وإذا انكشف ذلك للمريد المراقب وعرض على المفسرين استحسنوه وعلموا أن ذلك من تنبيهات القلوب الزكية وألطاف الله تعالى بالهمم العالية المتوجهة إليه وكذلك في علوم المكاشفة وأسرار علوم المعاملة ودقائق خواطر القلوب فإن كل علم من هذه العلوم بحر لا يدرك عمقه وإنما يخوضه كل طالب بقدر ما رزق منه وبحسب ما وفق له من حسن العمل.

وفي وصف هؤلاء العلماء قال علي رضي الله عنه في حديث طويل القلوب أوعية وخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة وهمج رعاع أتباع لكل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم يزكو على الإنفاق والمال ينقصه الإنفاق والعلم دين يدان به تكتسب به الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته العلم حاكم والمال محكوم عليه ومنفعة المال تزول بزواله مات خزان الأموال وهم أحياء والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر ثم تنفس الصعداء وقال هاه إن ههنا علما جما لو وجدت له حملة بل أجد طالبا غير مأمون يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا ويستطيل بنعم الله على أوليائه ويستظهر بحجته على خلقه أو منقادا لأهل الحق لكن ينزرع الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا بصيرة له لا ذا ولا ذاك أو منهوما باللذات سلس القياد في طلب الشهوات أو مغرى بجمع الأموال والادخار منقادا لهواه أقرب شبها بهم الأنعام السائمة اللهم هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه ثم لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته وكم وأين أولئك هم الأقلون عددا الأعظمون قدرا أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعوها من وراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما استوعر منه المترفون وأنسوا بما استوحش منه الغافلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه وأمناؤه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه ثم بكى وقال واشوقاه إلى رؤيتهم فهذا الذي ذكره أخيرا هو وصف علماء الآخرة وهو العلم الذي يستفاد أكثره من العمل والمواظبة على المجاهدة.

ومنها: أن يكون شديد العناية بتقوية اليقين فإن اليقين هو رأس مال الدين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( اليقين الإيمان كله))[180]. فلا بد من تعلم علم اليقين أعني أوائله ثم ينفتح للقلب طريقه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (( تعلموا اليقين))[181]. ومعناه جالسوا الموقنين واستمعوا منهم علم اليقين وواظبوا على الاقتداء بهم ليقوى يقينكم كما قوي يقينهم وقليل من اليقين خير من كثير من العمل.

وقال صلى الله عليه وسلم لما قيل له: رجل حسن اليقين كثير الذنوب ورجل مجتهد في العبادة قليل اليقين، فقال صلى الله عليه وسلم: (( ما من آدمي إلا وله ذنوب))[182]. ولكن من كان غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب لأنه كلما أذنب تاب واستغفر وندم فتكفر ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنة. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار))[183].

وفي وصية لقمان لابنه يا بني لا يستطاع العمل إلا باليقين ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه ولا يقصر عامل حتى ينقص يقينه وقال يحيى بن معاذ إن للتوحيد نورا وللشرك نارا وإن نور التوحيد أحرق لسيئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين وأراد به اليقين وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى ذكر الموقنين في مواضع دل بها على أن اليقين هو الرابطة للخيرات والسعادات.

فإن قلت: فما معنى اليقين وما معنى قوته وضعفه فلا بد من فهمه أولا ثم الاشتغال بطلبه وتعلمه فإن ما لا تفهم صورته لا يمكن طلبه؟

فاعلم: أن اليقين لفظ مشترك يطلقه فريقان لمعنيين مختلفين أما النظار والمتكلمون فيعبرون به عن عدم الشك إذ ميل النفس إلى التصديق بالشيء له أربع مقامات:

الأول: أن يعتدل التصديق والتكذيب ويعبر عنه بالشك كما إذا سئلت عن شخص معين أن الله تعالى يعاقبه أم لا وهو مجهول الحال عندك فإن نفسك لا تميل إلى الحكم فيه بإثبات ولا نفي بل يستوي عندك إمكان الأمرين فيسمى هذا شكا.

الثاني: أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه ولكنه إمكان لا يمنع ترجيح الأول كما إذا سئلت عن رجل تعرفه بالصلاح والتقوى أنه بعينه لو مات على هذه الحالة هل يعاقب فإن نفسك تميل إلى أنه لايعاقب أكثر من ميلها إلى العقاب وذلك لظهور علامات الصلاح ومع هذا فأنت تجوز اختفاء أمر موجب للعقاب في باطنه وسريرته فهذا التجويز مساو لذلك الميل ولكنه غير دافع رجحانه فهذه الحالة تسمى ظنا.

الثالث: أن تميل النفس إلى التصديق بشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله ولكن ليس ذلك مع معرفة محققة إذ لو أحسن صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز اتسعت نفسه للتجويز وهذا يسمى اعتقادا مقاربا لليقين وهو اعتقاد العوام في الشرعيات كلها إذ رسخ في نفوسهم بمجرد السماع حتى إن كل فرقة تثق بصحة مذهبها وإصابة إمامها ومتبوعها ولو ذكر لأحدهم إمكان خطأ إمامه نفر عن قبوله.

الرابع: المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق البرهان الذي لا يشك فيه ولا يتصور الشك فيه فإذا امتنع وجود الشك وإمكانه يسمى يقينا عند هؤلاء ومثاله أنه إذا قيل للعاقل هل في الوجود شيء هو قديم فلا يمكنه التصديق به بالبديهة لأن القديم غير محسوس لا كالشمس والقمر فإنه يصدق بوجودهما بالحس وليس العلم بوجوده شيء قديم أزلي ضروريا مثل العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ومثل العلم بأن حدوث حادث بلا سبب محال فإن هذا أيضا ضروري فحق غريزة العقل أن تتوقف عن التصديق بوجود القديم على الارتجال والبديهة ثم من الناس من يسمع ذلك ويصدق بالسماع تصديقا جزما ويستمر عليه وذلك هو الاعتقاد وهو حال جميع العوام ومن الناس من يصدق به بالبرهان وهو أن يقال له إن لم يكن في الوجود قديم فالموجودات كلها حادثة فإن كانت كلها حادثة فهي حادثة بلا سبب أو فيها حادث بلا سبب وذلك محال فالمؤدي إلى المحال محال فيلزم في العقل التصديق بوجود شيء قديم بالضرورة لأن الأقسام ثلاثة وهي أن تكون الموجودات كلها قديمة أو كلها حادثة أو بعضها قديمة وبعضها حادثة فإن كانت كلها قديمة فقد حصل المطلوب إذ ثبت على الجملة قديم وإن كان الكل حادثا فهو محال إذ يؤدي إلى حدوث بغير سبب فيثبت القسم الثالث أو الأول وكل علم حصل على هذا الوجه يسمى يقينا عند هؤلاء سواء حصل بنظر مثل ما ذكرناه أو حصل بحس أو بغريزة العقل كالعلم باستحالة حادث بلا سبب أو بتواتر كالعلم بوجود مكة أو بتجربة كالعلم بأن السقمونيا المطبوخ مسهل أو بدليل كما ذكرنا.

فشرط إطلاق هذا الاسم عندهم عدم الشك فكل علم لا شك فيه يسمى يقينا عند هؤلاء وعلى هذا لا يوصف اليقين بالضعف إذ لا تفاوت في نفي الشك.

الإصطلاح الثاني: اصطلاح الفقهاء والمتصوفة وأكثر العلماء وهو أن لا يلتفت فيه إلى اعتبار التجويز والشك بل إلى استيلائه وغلبته على العقل حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت مع أنه لا شك فيه ويقال فلان قوي اليقين في إتيان الرزق مع أنه قد يجوز أنه لا يأتيه فمهما مالت النفس إلى التصديق بشيء وغلب ذلك على القلب واستولى حتى صار هو المتحكم والمتصرف في النفس بالتجويز والمنع سمى ذلك يقينا ولا شك في أن الناس يشتركون في القطع بالموت والانفكاك عن الشك فيه ولكن فيهم من لا يلتفت إليه ولا إلى الاستعداد له وكأنه غير موقن به ومنهم من استولى ذلك على قلبه حتى استغرق جميع همه بالاستعداد له ولم يغادر فيه متسعا لغيره فيعبر عن مثل هذه الحالة بقوة اليقين ولذلك قال بعضهم ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت وعلى هذا الإصطلاح يوصف اليقين بالضعف والقوة ونحن إنما أردنا بقولنا إن من شأن علماء الآخرة صرف العناية إلى تقوية اليقين بالمعنيين جميعا وهو نفي الشك ثم تسليط اليقين على النفس حتى يكون هو الغالب المتحكم عليها المتصرف فيها.

فإذا فهمت هذا علمت أن المراد من قولنا إن اليقين ينقسم ثلاثة أقسام بالقوة والضعف والكثرة والقلة والخفاء والجلاء فأما بالقوة والضعف فعلى الإصطلاح الثاني وذلك في الغلبة والاستيلاء على القلب ودرجات معاني اليقين في القوة والضعف لا تتناهى وتفاوت الخلق في الاستعداد للموت بحسب تفاوت اليقين بهذه المعاني وأما التفاوت بالخفاء والجلاء في الإصطلاح الأول فلا ينكر أيضا أما فيما يتطرق إليه التجويز فلا ينكر أعني الإصطلاح الثاني وفيما انتفى الشك أيضا عنه لا سبيل إلى إنكاره فإنك تدرك تفرقة بين تصديقك بوجود مكة ووجود فدك مثلا وبين تصديقك بوجود موسى ووجود يوشع عليهما السلام مع أنك لا تشك في الآمرين جميعا فمستندهما جميعا التواتر ولكن ترى أحدهما أجلى وأوضح في قلبك من الثاني لأن السبب في أحدهما أقوى وهو كثرة المخبرين وكذلك يدرك الناظر هذا في النظريات المعروفة بالأدلة فإنه ليس وضوح ما لاح له بدليل واحد كوضوح ما لاح له بالأدلة الكثيرة مع تساويهما في نفي الشك وهذا قد ينكره المتكلم الذي يأخذ العلم من الكتب والسماع ولا يراجع نفسه فيما يدركه من تفاوت الأحوال واما القلة والكثرة فذلك بكثرة متعلقات اليقين كما يقال فلان أكثر علما من فلان أي معلوماته أكثر ولذلك قد يكون العالم قوي اليقين في جميع ما ورد الشرع به وقد يكون قوي اليقين في بعضه.

فإن قلت: قد فهمت اليقين وقوته وضعفه وكثرته وقلته وجلاءه وخفاءه بمعنى نفي الشك أو بمعنى الاستيلاء على القلب فما معنى متعلقات اليقين ومجاريه وفي ماذا يطلب اليقين فإني ما لم أعرف ما يطلب فيه اليقين لم أقدر على طلبه؟

فاعلم: أن جميع ما ورد به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أوله إلى آخره هو من مجاري اليقين فإن اليقين عبارة عن معرفة مخصوصة ومتعلقه المعلومات التي وردت بها الشرائع فلا مطمع في إحصائها ولكني أشير إلى بعضها وهي أمهاتها:

فمن ذلك التوحيد: وهو أن يرى الأشياء كلها من مسبب الأسباب ولا يلتفت إلى الوسائط بل يرى الوسائط مسخرة لا حكم لها فالمصدق بهذا موقن فإن انتفى عن قلبه مع الإيمان إمكان الشك فهو موقن بأحد المعنيين فإن غلب على قلبه مع الإيمان غلبة أزالت عنه الغضب على الوسائط والرضا عنهم والشكر لهم ونزل الوسائط في قلبه منزلة القلم واليد في حق المنعم بالتوقيع فإنه لا يشكر القلم ولا اليد ولا يغضب عليهما بل يراهما آلتين مسخرتين وواسطتين فقد صار موقنا بالمعنى الثاني وهو الإشراف وهو ثمرة اليقين الأول وروحه وفائدته ومهما تحقق أن الشمس والنجوم والجمادات والنبات والحيوان وكل مخلوق فهي مسخرات بأمره حسب تسخير القلم في يد الكاتب وأن القدرة الأزلية هي المصدر للكل استولى على قلبه غلبة التوكل والرضا والتسليم وصار موقنا بريئا من الغضب والحقد والحسد وسوء الخلق فهذا أحدد أبواب اليقين.

ومن ذلك الثقة بضمان الله سبحانه بالرزق في قوله تعالى: ]وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها[ (هود: 6) واليقين بأن ذلك يأتيه وأن ما قدر له سيساق إليه ومهما غلب ذلك على قلبه كان مجملا في الطلب ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على ما فاته وأثمر هذا اليقين أيضا جملة من الطاعات والأخلاق الحميدة.

ومن ذلك أن يغلب على قلبه أن ]من يعمل مثقال ذرة خيرا يرهُ ~ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره[ (الزلزة: 8،7) وهو اليقين بالثواب والعقاب حتى يرى نسبة الطاعات إلى الثواب كنسبة الخبز إلى الشبع ونسبة المعاصي إلى العقاب كنسبة السموم والأفاعي إلى الهلاك فكما يحرص على التحصيل للخبز طلبا للشبع فيحفظ قليله وكثيره فكذلك يحرص على الطاعات كلها قليلها وكثيرها وكما يجتنب قليل السموم وكثيرها فكذلك يجتنب المعاصي قليلها وكثيرها وصغيرها وكبيرها فاليقين بالمعنى الأول قد يوجد لعموم المؤمنين أما بالمعنى الثاني فيختص به المقربون وثمرة هذا اليقين صدق المراقبة في الحركات والسكنات الخطرات والمبالغة في التقوى والتحرز عن كل السيئات وكلما كان اليقين أغلب كان الاحتراز أشد والتشمير أبلغ.

ومن ذلك اليقين بأن الله تعالى مطلع عليك في كل حال ومشاهد لهواجس ضميرك وخفايا خواطرك وفكرك فهذا متيقن عند كل مؤمن بالمعنى الأول وهو عدم الشك وأما بالمعنى الثاني وهو المقصود فهو عزيز يختص به الصديقون وثمرته أن يكون الإنسان في خلوته متأدبا في جميع أحواله كالجالس بمشهد ملك معظم ينظر إليه فإنه لا يزال مطرقا متأدبا في جميع أعماله متماسكا محترزا عن كل حركة تخالف هيئة الأدب ويكون في فكرته الباطنة كهو في أعماله الظاهرة إذ يتحقق أن الله تعالى مطلع على سريرته كما يطلع الخلق على ظاهره فتكون مبالغته في عمارة باطنه وتطهيره وتزيينه بعين الله تعالى الكائنة أشد من مبالغته في تزيين ظاهره لسائر الناس وهذا المقام في اليقين يورث الحياء والخوف والانكسار والذل والاستكانة والخضوع وجملة من الأخلاق المحمودة وهذه الأخلاق تورث أنواعا من الطاعات رفيعة فاليقين في كل باب من هذه الأبواب مثل الشجرة وهذه الأخلاق في القلب مثل الأغصان المتفرعة منها وهذه الأعمال والطاعات الصادرة من الأخلاق كالثمار وكالأنوار المتفرعة من الأغصان فاليقين هو الأصل والأساس وله مجار وأبواب أكثر مما عددناه وسيأتي ذلك في ربع المنجيات إن شاء الله تعالى وهذا القدر كاف في معنى اللفظ الآن.

ومنها: أن يكون حزينا منكسرا مطرقا صامتا يظهر أثر الخشية على هيئته وكسوته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته لا ينظر إليه ناظر إلا وكان نظره مذكرا لله تعالى وكانت صورته دليلا على عمله فالجواد عينه مرآته وعلماء الآخرة يعرفون بسيماهم في السكينة والذلة والتواضع وقد قيل ما ألبس الله عبدا لبسة أحسن من خشوع في سكينة فهي لبسة الأنبياء وسيما الصالحين والصديقين والعلماء.

وأما التهافت في الكلام والتشدق والاستغراق في الضحك والحدة في الحركة والنطق فكل ذلك من آثار البطر والأمن والغفلة عن عظيم عقاب الله تعالى وشديد سخطه وهو دأب أبناء الدنيا الغافلين عن الله دون العلماء به وهذا لأن العلماء ثلاثة كما قال سهل التستري رحمه الله: عالم بأمر الله تعالى لا بأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام وهذا العلم لا يورث الخشية وعالم بالله تعالى لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم عموم المؤمنين وعالم بالله تعالى وبأمر الله تعالى وبأيام الله تعالى وهم الصديقون والخشية والخشوع إنما تغلب عليهم وأراد بأيام الله أنواع عقوباته الغامضة ونعمه الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه وظهر خشوعه.

وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم وتواضعوا لمن تتعلمون منه وليتواضع لكم من يتعلم منكم ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم ويقال: ما آتى الله عبدا علما إلا آتاه معه حلما وتواضعا وحسن خلق ورفقا فذلك هو العلم النافع وفي الأثر: (من آتاه الله علما وزهدا وتواضعا وحسن خلق فهو إمام المتقين). وفي الخبر: (( إن من خيار أمتي قوما يضحكون جهرا من سعة رحمة الله ويبكون سرا من خوف عذابه أبدانهم في الأرض وقلوبهم في السماء أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة يتمشون بالسكينة ويتقربون بالوسيلة))[184].

وقال الحسن: الحلم وزير العلم والرفق أبوه والتواضع سرباله. وقال بشر بن الحارث: من طلب الرياسة بالعلم فتقرب إلى الله تعالى ببغضه فإنه ممقوت في السماء والأرض. ويروى في الإسرائيليات: أن حكيما صنف ثلثمائة وستين مصنفا في الحكمة حتى وصف بالحكيم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل لفلان قد ملأت الأرض نفاقا ولم تردني من ذلك بشيء وإني لا أقبل من نفاقك شيئا فندم الرجل وترك ذلك وخالط العامة في الأسواق وواكل بني إسرائيل وتواضع في نفسه فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له الآن وفقت لرضاي.

وحكى الأوزاعي رحمه الله عن بلال بن سعد: أنه كان يقول: ينظر أحدكم إلى الشرطي فيستعيذ بالله منه وينظر إلى علماء الدنيا المتصنعين للخلق المتشوفين إلى الرياسة فلا يمقتهم وهم أحق بالمقت من ذلك الشرطي. وروي أنه قيل: يا رسول الله أي الأعمال أفضل، قال: (( اجتناب المحارم ولا يزال فوك رطبا من ذكر الله تعالى)) قيل: فأي الأصحاب خير قال صلى الله عليه وسلم: ((صاحب إن ذكرت الله أعانك وإن نسيته ذكرك)) قيل: فأي الأصحاب شر، قال صلى الله عليه وسلم: ((صاحب إن نسيت لم يذكرك وإن ذكرت لم يعنك)) قيل: فأي الناس أعلم، قال: (( أشدهم لله خشية)) قيل: فأخبرنا بخيارنا نجالسهم، قال صلى الله عليه وسلم: ((الذين إذا رؤوا ذكر الله قيل فأي الناس شر قال اللهم غفرا)) قالوا: أخبرنا يا رسول الله، قال: (( العلماء إذا فسدوا )). حديث: (( قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال اجتناب المحارم ولا يزال فوك رطبا من ذكر الله… الحديث))[185]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( إن أكثر الناس أمانا يوم القيامة أكثرهم فكرا في الدنيا وأكثر الناس ضحكا في الآخرة أكثرهم بكاء في الدنيا وأشد الناس فرحا في الآخرة أطولهم حزنا في الدنيا))[186].

وقال علي رضي الله عنه في خطبة له: ذمتي رهينة وأنا به زعيم إنه لا يهيج على التقوى زرع قوم ولا يظمأ على الهدى سنخ أصل وإن أجهل الناس من لا يعرف قدره وإن أبغض الخلق إلى الله تعالى رجل قمش علما أغار به في أغباش الفتنة سماه أشباه له من الناس وأرذالهم عالما ولم يعش في العلم يوما سالما تكثر واستكثر فما قل منه وكفى خير مما كثر وألهى حتى إذا ارتوى من ماء آجن وأكثر من غير طائل جلس للناس معلما لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المهمات هيأ لها من رأيه حشو الرأي فهو ومن قطع الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أخطأ أم أصاب ركاب جهالات خباط عشوات لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ولا يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم تبكي منه الدماء وتستحل بقضائه الفروج الحرام لا ملىء والله بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل لما فوض إليه أولئك الذين حلت عليهم المثلات وحقت عليهم النياحة والبكاء أيام حياة الدنيا وقال علي رضي الله عنه إذا سمعتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب.

وقال بعض السلف العالم إذا ضحك ضحكة مج من العلم مجة وقيل إذا جمع المعلم ثلاثا تمت النعمة بها على المتعلم الصبر والتواضع وحسن الخلق وإذا جمع المتعلم ثلاثا تمت النعمة بها على المعلم العقل والأدب وحسن الفهم.

وعلى الجملة فالأخلاق التي ورد بها القرآن لا ينفك عنها علماء الآخرة لأنهم يتعلمون القرآن للعمل لا للرياسة.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (( لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وأوامرها وزواجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها ولقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لايدرى ما آمره وما زاجره وما ينبغي أن يقف عنده ينثره الدقل))[187]. وفي خبر آخر بمثل معناه: (( كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتينا الإيمان قبل القرآن وستأتي بعدكم قوم يؤتون القرآن قبل الإيمان يقيمون حروفه ويضيعون حدوده وحقوقه يقولون قرأنا فمن أقرأ منا وعلمنا فمن أعلم منا فذلك حظهم))[188]. وفي لفظ آخر: (( أولئك شرار هذه الأمة)).

وقيل: خمس من الأخلاق هي من علامات علماء الآخرة مفهومة من خمس آيات من كتاب الله عز وجل الخشية والخشوع والتواضع وحسن الخلق وإيثار الآخرة على الدنيا وهو الزهد فأما الخشية فمن قوله تعالى: ]إنما يخشى الله من عباده العلماء[ (فاطر: 28) وأما الخشوع فمن قوله تعالى: ]خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا[ (آل عمران: 199) وأما التواضع فمن قوله تعالى: ]واخفض جناحك للمؤمنين[ (الحج: 88) وأما حسن الخلق فمن قوله تعالى: ]فبما رحمة من الله لنت لهم[ (آل عمران: 159) وأما الزهد فمن قوله تعالى: ]وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا[ (القصص: 80) ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ]فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام[ (الأنعام: 125) فقيل له ما هذا الشرح فقال إن النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح قيل فهل لذلك من علامة قال صلى الله عليه وسلم نعم: ((التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله))[189].

ومنها: أن يكون أكثر بحثه عن علم الأعمال وعما يفسدها ويشوش القلوب ويهيج الوسواس ويثير الشر فإن أصل الدين التوقي من الشر ولذلك قيل:

عرفت الشر لا               للشر لكن لتوقيه

ومن لا يعرف الشرَّ          من الناس يقع فيه

ولأن الأعمال الفعلية قريبة وأقصاها بل أعلاها المواظبة على ذكر الله تعالى بالقلب واللسان وإنما الشأن في معرفة ما يفسدها ويشوشها وهذا مما تكثر شعبه ويطول تفريعه وكل ذلك مما يغلب مسيس الحاجة إليه وتعم به البلوى في سلوك طريق الآخرة.

واما علماء الدنيا فإنهم يتبعون غرائب التفريعات في الحكومات والأقضية ويتعبون في وضع صور تنقضي الدهور ولا تقع أبدا وإن وقعت فإنما تقع لغيرهم لا لهم وإذا وقعت كان في القائمين بها كثرة ويتركون ما يلازمهم ويتكرر عليهم آناء الليل وأطراف النهار في خواطرهم ووساوسهم وأعمالهم وما أبعد عن السعادة من باع مهم نفسه اللازم يمهم غيره النادر إيثارا للتقرب والقبول من الخلق على التقرب من الله سبحانه وشرها في أن يسميه البطالون من أبناء الدنيا فاضلا محققا عالما بالدقائق وجزاؤه من الله أن لا ينتفع في الدنيا بقبول الخلق بل يتكدر عليه صفوه بنوائب الزمان ثم يرد القيامة مفلسا متحسرا على ما يشاهده من ربح العاملين وفوز المقربين وذلك هو الخسران المبين.

ولقد كان الحسن البصري رحمه الله أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأقربهم هديا من الصحابة رضي الله عنهم اتفقت الكلمة في حقه على ذلك وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساس النفوس والصفات الخفية الغامضة من شهوات النفس وقد قيل له يا أبا سعيد إنك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك فمن أين أخذته؟ قال من حذيفة بن اليمان: وقيل لحذيفة نراك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك من الصحابة فمن أين أخذته؟ قال: (( خصني به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه وعلمت أن الخير لا يسبقني علمه))[190]. وقال مرة: ((فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير)) وفي لفظ آخر (( كانوا يقولون يا رسول الله ما لمن عمل كذا وكذا يسألونه عن فضائل الأعمال وكنت أقول يا رسول الله ما يفسد كذا وكذا فلما رآني أسأله عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم.))

وكان حذيفة رضي الله عنه أيضا قد خص بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق وأسبابه ودقائق الفتن فكان عمر وعثمان وأكابر الصحابة رضي الله عنهم يسألونه عن الفتن العامة والخاصة وكان يسأل عن المنافقين فيخبر بعدد من بقي منهم ولا يخبر بأسمائهم وكان عمر رضي الله عنه يسأل عن نفسه هل يعلم فيه شيئا من النفاق فبرأه من ذلك وكان عمر رضي الله عنه إذا دعي إلى جنازة ليصلي عليها نظر فإن حضر حذيفة صلى عليها وإلا ترك وكان يسمى صاحب السر.

فالعناية بمقامات القلب وأحواله دأب علماء الآخرة لأن القلب هو الساعي إلى قرب الله تعالى وقد صار هذا الفن غريبا مندرسا وإذا تعرض العالم لشيء منه استغرب واستبعد وقيل هذا تزويق المذكرين فأين التحقيق ويرون أن التحقيق في دقائق المجادلات ولقد صدق من قال:

الطرق شتى وطرق الحق مفردة                  والسالكون طريق الحق أفرادُ

لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم                 فهم على مهل يمشون قصادُ

والناس في غفلة عما يراد بهم                    فجلهم عن سبيل الحق رقادُ

وعلى الجملة فلا يميل أكثر الخلق إلا إلى الأسهل والأوفق لطباعهم فإن الحق مر والوقوف عليه صعب وإدراكه شديد وطريقه مستوعر ولا سيما معرفة صفات القلب وتطهيره عن الأخلاق المذمومة فإن ذلك نزع للروح على الدوام وصاحبه ينزل منزلة الشارب للدواء يصبر على مرارته رجاء الشفاء وينزل منزلة من جعل مدة العمر صومه فهو يقاسي الشدائد ليكون فطره عند الموت ومتى تكثر الرغبة في هذا الطريق ولذلك قيل إنه كان في البصرة مائة وعشرين متكلما في الوعظ والتذكير ولم يكن من يتكلم في علم اليقين وأحوال القلوب وصفات الباطن إلا ثلاثة منهم سهل التستري والصبيحي وعبد الرحيم وكان يجلس إلى أولئك الخلق الكثير الذي لا يحصى وإلى هؤلاء عدد يسير قلما يجاوز العشرة لأن النفيس العزيز لا يصلح إلا لأهل الخصوص وما يبذل للعموم فأمره قريب.

ومنها: أن يكون اعتماده في علومه على بصيرته وإدراكه بصفاء قلبه لا على الصحف والكتب ولا على تقليد ما يسمعه من غيره وإنما المقلد صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فيما أمر به وقاله وإنما يقلد الصحابة رضي الله عنهم من حيث إن فعلهم يدل على سماعهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إذا قلد صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم في تلقي أقواله وأفعاله بالقبول فينبغي أن يكون حريصا على فهم أسراره فإن المقلد إنما يفعل الفعل لأن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم فعله وفعله لا بد وأن يكون لسر فيه فينبغي أن يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال والأقوال فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم ولا يكون عالما ولذلك كان يقال فلان من أوعية العلم فلا يسمى عالما إذا كان شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار ومن كشف عن قلبه الغطاء واستنار بنور الهداية صار في نفسه متبوعا مقلدا فلا ينبغي أن يقلد غيره.

ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم))[191]. وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه وقرأ على أبي بن كعب ثم خالفهما في الفقه والقراءة جميعا وقال بعض السلف ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه على الرأس والعين وما جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم فنأخذ منه ونترك وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.

وإنما فضل الصحابة لمشاهدتهم قرائن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتلاق قلوبهم أمورا أدركت بالقرائن فسددهم ذلك إلى الصواب من حيث لا يدخل في الرواية والعبارة إذ فاض عليهم من نور النبوة ما يحرسهم في الأكثر عن الخطأ وإذا كان الاعتماد على المسموع من الغير تقليدا غير مرضي فالاعتماد على الكتب والتصانيف أبعد بل الكتب والتصانيف محدثة لم يكن شيء منها في زمن الصحابة وصدر التابعين وإنما حدثت بعد سنة مائة وعشرين من الهجرة وبعد وفاة جميع الصحابة وجملة التابعين رضي الله عنهم وبعد وفاة سعيد بن المسيب والحسن وخيار التابعين بل كان الأولون يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ وعن القرآن وعن التدبر والتذكر وقالوا احفظوا كما كنا نحفظ ولذلك كره أبو بكر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم تصحيف القرآن في مصحف وقالوا كيف نفعل شيئا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وخافوا اتكال الناس على المصاحف وقالوا نترك القرآن يتلقاه بعضهم من بعض بالتلقين والإقراء ليكون هذا شغلهم وهمهم حتى أشار عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة بكتب القرآن خوفا من تخاذل الناس وتكاسلهم وحذرا من أن يقع نزاع فلا يوجد أصل يرجع إليه في كلمة أو قراءة من المتشابهات فانشرح صدر أبي بكر رضي الله عنه لذلك فجمع القرآن في مصحف واحد.

وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك في تصنيفه الموطأ ويقول ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضي الله عنهم.

وقيل: أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف التفاسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس رضي الله عنهم بمكة ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن جمع فيه سننا مأثورة نبوية ثم كتاب ((الموطأ)) بالمدينة لمالك بن أنس ثم ((جامع)) سفيان الثوري.

ثم في القرن الرابع حدثت مصنفات الكلام وكثر الخوض في الجدال والغوص في إبطال المقالات ثم مال الناس إليه وإلى القصص والوعظ بها فأخذ علم اليقين في الاندراس من ذلك الزمان فصار بعد ذلك يستغرب علم القلوب والتفتيش عن صفات النفس ومكايد الشيطان وأعرض عن ذلك إلا الأقلون فصار يسمى المجادل المتكلم عالما والقاص المزخرف كلامه بالعبارات المسجعة عالما وهذا لأن العوام هم المستمعون إليهم فكان لا يتميز لهم حقيقة العلم من غيره ولم تكن سيرة الصحابة رضي الله عنهم وعلومهم ظاهرة عندهم حتى كانوا يعرفون بها مباينة هؤلاء لهم فاستمر عليهم اسم العلماء وتوارث اللقب خلف عن سلف وأصبح علم الآخرة مطويا وغاب عنهم الفرق بين العلم والكلام إلا عن الخواص منهم كانوا إذا قيل لهم فلان أعلم أم فلان يقولون فلان أكثر علما وفلان أكثر كلاما فكان الخواص يدركون الفرق بين العلم وبين القدرة على الكلام هكذا ضعف الدين في قرون سالفة فكيف الظن بزمانك هذا وقد انتهى الأمر إلى أن مظهر الإنكار يستهدف لنسبته إلى الجنون فالأولى أن يشتغل الإنسان بنفسه ويسكت.

ومنها: أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور وإن اتفق عليها الجمهور فلا يغرنه إطباق الخلق على ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم وليكن حريصا على التفتيش عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم وما كان فيه أكثر همهم أكان في التدريس والتصنيف والمناظرة والقضاء والولاية وتولي الأوقاف والوصايا وأكل مال الأيتام ومخالطة السلاطين ومجاملتهم في العشرة أم كان في الخوف والحزن والتفكر المجاهدة ومراقبة الظاهر والباطن واجتناب دقيق الإثم وجليله والحرص على إدراك خفايا شهوات النفوس ومكايد الشيطان إلى غير ذلك من علوم الباطن واعلم تحقيقا أن أعلم أهل الزمان وأقربهم إلى الحق أشبههم بالصحابة وأعرفهم بطريق السلف فمنهم أخذ الدين ولذلك قال علي رضي الله عنه خيرنا أتبعنا لهذا الدين لما قيل له خالفت فلانا فلا ينبغي أن يكترث بمخالفة أهل العصر في موافقة أهل عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الناس رأوا رأيا فيما هم فيه لميل طباعهم إليه ولم تسمح نفوسهم بالاعتراف بأن ذلك سبب الحرمان من الجنة فادعوا أنه لا سبيل إلى الجنة سواه.

ولذلك قال الحسن محدثان أحدثا في الإسلام رجل ذو رأي سيىء زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه ومترف يعبد الدنيا لها يغضب ولها يرضى وإياها يطلب فارفضوهما إلى النار وإن رجلا أصبح في هذه الدنيا بين مترف يدعوه إلى دنياه وصاحب هوى يدعوه إلى هواه وقد عصمه الله تعالى منهما يحن إلى السلف الصالح يسأل عن أفعالهم ويقتفي آثارهم متعرض لأجر عظيم فكذلك كونوا.

وقد روي عن ابن مسعود موقوفا ومسندا أنه قال: (( إنما هما اثنتان الكلام والهدى فأحسن الكلام كلام الله تعالى وأحسن الهدى هدى رسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها وأن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم ألا كل ما هو آت قريب ألا إن البعيد ما ليس بآت))[192]. وفي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية وخالط أهل الفقه والحكم وجانب أهل الزلل والمعصية طوبى لمن ذل في نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شره طوبى لمن عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم يعدها إلى بدعة))[193].

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: حسن الهدى في آخر الزمان خير من كثير من العمل وقال أنتم في زمان خيركم فيه المسارع في الأمور وسيأتي بعدكم زمان يكون خيرهم فيه المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات وقد صدق فمن لم يتوقف في هذا الزمان ووافق الجماهير فيما هم عليه وخاض فيما خاضوا فيه هلك كما هلكوا وقال حذيفة رضي الله عنه أعجب من هذا أن معروفكم اليوم منكر زمان قد مضى وأن منكركم اليوم معروف زمان قد أتى وإنكم لا تزالون بخير ما عرفتم الحق وكان العالم فيكم غير مستخف به ولقد صدق فإن أكثر معروفات هذه الأعصار منكرات في عصر الصحابة رضي الله عنهم إذ من غرر المعروفات في زماننا تزيين المساجد وتنجيدها وإنفاق الأموال العظيمة في دقائق عماراتها وفرش البسط الرفيعة فيها.

ولقد كان يعد فرش البواري في المسجد بدعة وقيل إنه من محدثات الحجاج فقد كان الأولون قلما يجعلون بينهم وبين التراب حاجزاً.

وكذلك الاشتغال بدقائق الجدل والمناظرة من أجل علوم أهل الزمان ويزعمون أنه من أعظم القربات وقد كان من المنكرات.

ومن ذلك التلحين في القرآن والآذان.

ومن ذلك التعسف في النظافة والوسوسة في الطهارة وتقدير الأسباب البعيدة في نجاسة الثياب مع التساهل في حل الأطعمة وتحريمها إلى نظائر ذلك.

ولقد صدق ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: أنتم اليوم في زمان الهوى فيه تابع للعلم وسيأتي عليكم زمان يكون العلم فيه تابعا للهوى وقد كان أحمد بن حنبل يقول تركوا العلم وأقبلوا على الغرائب ما أقل العلم فيهم والله المستعان وقال مالك بن أنس رحمه الله لم تكن الناس فيما مضى يسألون عن هذه الأمور كما يسأل الناس اليوم ولم يكن العلماء يقولون حرام ولا حلال ولكن أدركتهم يقولون مستحب ومكروه ومعناه أنهم كانوا ينظرون في دقائق الكراهة والاستحباب فأما الحرام فكان فحشه ظاهرا وكان هشام بن عروة يقول لا تسألوهم اليوم عما أحدثوه بأنفسهم فإنهم قد أعدوا له جوابا ولكن سلوهم عن السنة فإنهم لا يعرفونها.

وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله يقول لا ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمع به في الأثر فيحمد الله تعالى إذا وافق ما في نفسه وإنما قال هذا لأن ما قد أبدع من الآراء قد قرع الأسماع وعلق بالقلوب وربما يشوش صفاء القلب فيتخيل بسببه الباطل حقا فيحتاط فيه بالاستظهار بشهادة الآثار ولهذا لما أحدث مروان المنبر في صلاة العيد عند المصلى قام إليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فقال يا مروان ما هذه البدعة فقال إنها ليست ببدعة إنها خير مما تعلم إن الناس قد كثروا فأردت أن يبلغهم الصوت فقال أبو سعيد والله لا تأتون بخير مما أعلم أبدا ووالله لا صليت وراءك اليوم وإنما أنكر ذلك عليه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كان يتوكأ في خطبة العيد والاستسقاء على قوس أو عصا))[194] لا على المنبر. وفي الحديث المشهور: ((من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد))[195].  وفي خبر آخر: (( من غش أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، قيل: يا رسول الله وما غش أمتك، قال: أن يبتدع بدعة يحمل الناس عليها))[196]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن لله عز وجل ملكا ينادى كل يوم من خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تنله شفاعته ))[197].

ومثال الجاني على الدين بإبداع ما يخالف السنة بالنسبة إلى من يذنب ذنبا مثال من عصى الملك في قلب دولته بالنسبة إلى من خالف أمره في خدمة معينة وذلك قد يغفر له فأما في قلب الدولة فلا وقال بعض العلماء ما تكلم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف وقال غيره الحق ثقيل من جاوزه ظلم ومن قصر عنه عجز ومن وقف معه اكتفى وقال صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه العالي ويرتفع إليه التالي))[198].

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها. قال الله تعالى: ]وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا[ (الأنعام: 70) وقال تعالى: ]أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا[ (فاطر: 8) فكل ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم مما جاوز قدر الضرورة والحاجة فهو من اللعب واللهو.

وحكى عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة رضي الله عنهم فرجعوا إليه محسورين فقال ما شأنكم قالوا ما رأينا مثل هؤلاء ما نصيب منهم شيئا وقد أتعبونا فقال إنكم لا تقدرون عليهم قد صحبوا نبيهم وشهدوا تنزيل ربهم ولكن سيأتى بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا إليه منكسين فقالوا ما رأينا أعجب من هؤلاء نصبب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب فإذا كان آخر النهار أخذوا في الاستغفار فيبدل الله سيئاتهم حسنات فقال إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئا لصحة توحيدهم واتباعهم لسنة نبيهم ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقر أعينكم بهم تلعبون بهم لعبا وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم إن استغفروا لم يغفر لهم ولا يتوبون فيبدل الله سيئاتهم حسنات قال فجاء قوم بعد القرن الأول فبث فيهم الأهواء وزين لهم البدع فاستحلوها واتخذوها دينا لا يستغفرون الله منها ولا يتوبون عنها فسلط عليهم الأعداء وقادوهم أين شاءوا

فإن قلت: من أين عرف قائل هذا ما قاله إبليس ولم يشاهد إبليس ولا حدثه بذلك؟

فاعلم أن أرباب القلوب يكاشفون بأسرار الملكوت تارة على سبيل الإلهام بأن يخطر لهم على سبيل الورود عليهم من حيث لا يعلمون وتارة على سبيل الرؤيا الصادقة وتارة في اليقظة على سبيل كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة كما يكون في المنام وهذا أعلى الدرجات وهي من درجات النبوة العالية كما أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.

فإياك أن يكون حظك من هذا العلم إنكار ما جاوز حد قصورك ففيه هلك المتحذلقون من العلماء الزاعمون أنهم أحاطوا بعلوم العقول فالجهل خير من عقل يدعو إلى إنكار مثل هذه الأمور لأولياء الله تعالى ومن أنكر ذلك للأولياء لزمه إنكار الأنبياء وكان خارجا عن الدين بالكلية قال بعض العارفين إنما انقطع الأبدال في أطراف الأرض واستتروا عن أعين الجمهور لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء الوقت لأنهم عندهم جهال بالله تعالى وهم عند أنفسهم وعند الجاهلين علماء قال سهل التستري رضي الله عنه إن من أعظم المعاصي الجهل بالجهل والنظر إلى العامة واستماع كلام أهل الغفلة وكل عالم خاض في الدنيا فلا ينبغي أن يصغي إلى قوله بل ينبغي أن يتهم في كل ما يقول لأن كل إنسان يخوض فيما أحب ويدفع ما لا يوافق محبوبه ولذلك قال الله عز وجل: ]ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا[ (الكهف: 28) والعوام العصاة أسعد حالا من الجهال بطريق الدين المعتقدين أنهم من العلماء لأن العامي العاصي معترف بتقصيره فيستغفر ويتوب وهذا الجاهل الظان أنه عالم وأن ما هو مشتغل به من العلوم التي هي وسائله إلى الدنيا عن سلوك طريق الدين فلا يتوب ولا يستغفر بل لا يزال مستمرا عليه إلى الموت.

وإذ غلب هذا على أكثر الناس إلا من عصمه الله تعالى وانقطع الطمع من إصلاحهم فالأسلم لذي الدين المحتاط العزلة والانفراد عنهم كما سيأتي في كتاب العزلة بيانه إن شاء الله تعالى ولذلك كتب يوسف بن أسباط إلى حذيفة المرعشي ما ظنك بمن بقي لا يجد أحدا يذكر الله تعالى معه إلا كان آثما أو كانت مذاكرته معصية وذلك أنه لا يجد أهله ولقد صدق فإن مخالطة الناس لا تنفك عن غيبة أو سماع غيبة أو سكوت على منكر وأن أحسن أحواله أن يفيد علما أو يستفيده ولو تأمل هذا المسكين وعلم أن إفادته لا تخلو عن شوائب الرياء وطلب الجمع والرياسة علم أن المستفيد إنما يريد أن يجعل ذلك آلة إلى طلب الدنيا ووسيلة إلى الشر فيكون هو معينا له على ذلك وردءا وظهيرا ومهيئا لأسبابه كالذي يبيع السيف من قطاع الطريق فالعلم كالسيف وصلاحه للخير كصلاح السيف للغزو ولذلك لا يرخص له في البيع ممن يعلم بقرائن أحواله أنه يريد به الاستعانة على قطع الطريق.

فهذه اثنتا عشرة علامة من علامات علماء الآخرة تجمع كل واحدة منها جملة من أخلاق علماء السلف فكن أحد رجلين إما متصفا بهذه الصفات أو معترفا بالتقصير مع الإقرار به وإياك أن تكون الثالث فتلبس على نفسك بأن تبدل آلة الدنيا بالدين وتشبه سيرة البطالين بسيرة العلماء الراسخين وتلتحق بجهلك وإنكارك بزمرة الهالكين الآيسين نعوذ بالله من خدع الشيطان فبها هلك الجمهور فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن لا تغره الحياة الدنيا ولا يغره بالله الغرور.

 

 

الباب السابع

في العقل وشرفه وحقيقته وأقسامه

 

بيان شرف العقل

اعلم أن هذا مما لا يحتاج إلى تكلف في إظهاره لا سيما وقد ظهر شرف العلم من قبل العقل والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس والرؤية من العين فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة أو كيف يستراب فيه والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل حتى إن أعظم البهائم بدنا وأشدها ضراوة وأقواها سطوة إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه لشعوره باستيلائه عليه لما خص به من إدراك الحيل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الشيخ في قومه كالنبي في أمته)[199]. وليس ذلك لكثرة ماله ولا لكبر شخصه ولا لزيادة قوته بل لزيادة تجربته التي هي ثمرة عقله ولذلك ترى الأتراك والأكراد وأجلاف العرب وسائر الخلق مع قرب منزلتهم من رتبة البهائم يوقرون المشايخ بالطبع ولذلك حين قصد كثير من المعاندين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وقعت أعينهم عليه واكتحلوا بغرته الكريمة هابوه وتراءى لهم ما كان يتلألأ على ديباجة وجهه من نور النبوة وإن كان ذلك باطنا في نفسه بطون العقل فشرف العقل ما يدرك بالضرورة، وإنما القصد أن نورد ما وردت به الأخبار والآيات في ذكر شرفه. وقد سماه الله نورا في قوله تعالى: ]الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة[ وسمى العلم المستفاد منه روحا ووحيا وحياة فقال تعالى: ]وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا[ وقال سبحانه ]أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس[ وحيث ذكر النور والظلمة أراد به العلم والجهل كقوله ]يخرجهم من الظلمات إلى النور[.

وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم واعلموا أن العاقل من أطاع الله وإن كان دميم المنظر حقير الخطر دنىء المنزلة رث الهيئة وأن الجاهل من عصى الله تعالى وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر شريف المنزلة حسن الهيئة فصيحا نطوقا فالقردة والخنازير أعقل عند الله تعالى ممن عصاه ولا تغتر بتعظيم أهل الدنيا إياهم فإنهم من الخاسرين)[200]. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال الله عز وجل وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم على منك بك آخذ وبك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب)[201].

فإن قلت فهذا العقل إن كان عرضا فكيف خلق قبل الأجسام وإن كان جوهرا فكيف يكون جوهر قائم بنفسه ولا يتحيز فأعلم أن هذا من علم المكاشفة فلا يليق ذكره بعلم المعاملة وغرضنا الآن ذكر علوم المعاملة.

وعن أنس رضي الله عنه قال: ( أثنى قوم على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى بالغوا فقال صلى الله عليه وسلم كيف عقل الرجل فقالوا نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله فقال صلى الله عليه وسلم إن الأحمق يصيب بجهله أكثر من فجور الفاجر وإنما يرتفع العباد غدا في الدرجات الزلفى من ربهم على قدر عقولهم)[202]. وعن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله)[203].

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك تم إيمانه وأطاع ربه وعصى عدوه إبليس)[204].

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار في النار: ]لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير[ (الملك: 10) ))[205].

وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لتميم الدارى: ما السودد فيكم؟ قال: العقل، قال: صدقت، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتك فقال كما قلت، ثم قال: (( سألت جبريل عليه السلام ما السودد؟ فقال: العقل ))[206].

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال كثرت المسائل يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إن لكل شيء مطية ومطية المرء العقل وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة أفضلكم عقلا)[207].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد سمع الناس يقولون فلان أشجع من فلان وفلان أبلى ما لم يبل فلان ونحو هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فلا علم لكم به قالوا وكيف ذلك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم إنهم قاتلوا على قدر ما قسم الله لهم من العقل وكانت نصرتهم ونيتهم على قدر عقولهم فأصيب منهم من أصيب على منازل شتى فإذا كان يوم القيامة اقتسموا المنازل على قدر نياتهم وقدر عقولهم)[208].

وعن البراء بن عازب أنه صلى الله عليه وسلم قال: (جد الملائكة واجتهدوا في طاعة الله سبحانه وتعالى بالعقل وجد المؤمنون من بني آدم على قدر عقولهم فأعملهم بطاعة الله عز وجل أوفرهم عقلا)[209]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله بم يتفاضل الناس في الدنيا قال بالعقل قلت وفي الآخرة قال بالعقل قلت أليس إنما يجزون بأعمالهم فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم عز وجل من العقل فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم وبقدر ما عملوا يجزون)[210]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء آلة وعدة وإن آلة المؤمن العقل ولكل شيء مطية ومطية المرء العقل ولكل شيء دعامة ودعامة الدين العقل ولكل قوم غاية وغاية العباد العقل ولكل قوم داع وداعى العابدين العقل ولكل تاجر بضاعة وبضاعة المجتهدين العقل ولكل أهل بيت قيم وقيم بيوت الصديقين العقل ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل ولكل امرىء عقب ينسب إليه ويذكر به وعقب الصديقين الذيينسبون إليه ويذكرون به العقل ولكل سفر فسطاط وفسطاط المؤمنين العقل)[211]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحب المؤمنين إلى الله عز وجل من نصب في طاعة الله عز وجل ونصح لعباده وكمل عقله ونصح نفسه فأبصر وعمل به أيام حياته فأفلح وأنجح)[212]. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أتمكم عقلا أشدكم لله تعالى خوفا وأحسنكم فيما أمركم به ونهى عنه نظرا وإن كان أقلكم تطوعا)[213].

 

بيان حقيقة العقل وأقسامه

اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة فصار ذلك سبب اختلافهم والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان كما يطلق اسم العين مثلا على معان عدة وما يجري هذا المجرى فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد بل يفرد كل قسم بالكشف عنه فالأول الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية وكأنه نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء ولم ينصف من أنكر هذا ورد العقل إلى مجرد العلوم الضرورية فإن الغافل عن العلوم والنائم يسميان عاقلين باعتبار وجود هذه الغريزة فيهما مع فقد العلوم وكما أن الحياة غريزة بها يتهيأ الجسم للحركات الاختيارية والإدراكات الحسية فكذلك العقل غريزة بها تتهيأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية ولو جاز أن يسوى بين الإنسان والحمار في الغريزة والإدراكات الحسية فيقال لا فرق بينهما إلا أن الله تعالى بحكم إجراء العادة يخلق في الإنسان علوما وليس يخلقها في الحمار والبهائم لجاز أن يسوى بين الحمار والجماد في الحياة ويقال لا فرق إلا أن الله عز وجل يخلق في الحمار حركات مخصوصة بحكم إجراء العادة فإنه لو قدر الحمار جمادا ميتا لوجب القول بأن كل حركة تشاهد منه فالله سبحانه وتعالى قادر على خلقها فيه على الترتيب المشاهد وكما وجب أن يقال لم يكن مفارقته للجماد في الحركات إلا بغريزة اختصت به عبر عنها بالحياة فكذا مفارقة الإنسان البهيمة في إدراك العلوم النظرية بغريزة يعبر عنها بالعقل وهو كالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصور والألوان بصفة اختصت بها وهي الصقالة وكذلك العين تفارق الجبهة في صفات وهيئات بها استعدت للرؤية فنسبه هذه الغريزة إلى العلوم كنسبة العين إلى الرؤية ونسبة القرآن والشرع إلى هذه الغريزة في سياقها إلى انكشاف العلوم لها كنسبة نور الشمس إلى البصر فهكذا ينبغي أن تفهم هذه الغريزة الثاني هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حد العقل إنه بعض العلوم الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وهو أيضا صحيح في نفسه لأن هذه العلوم موجودة وتسميتها عقلا ظاهر وإنما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة ويقال لا موجود إلا هذه العلوم الثالث علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال فإن من حنكته التجارب وهذبته المذاهب يقال إنه عاقل في العادة ومن لا يتصف بهذه الصفة فيقال إنه غبي غمر جاهل فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا الرابع أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها فإذا حصلت هذه القوة سمى صاحبها عاقلا من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة وهذه أيضا من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان فالأول هو الأس والسنخ والمنبع والثاني هو الفرع الأقرب إليه والثالث فرع الأول والثاني إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب والرابع هو الثمرة الأخيرة وهو الغاية القصوى فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب ولذلك قال علي كرم الله وجهه رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع والأول هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما خلق الله عز وجل خلقا أكرم عليه من العقل)[214]. والأخير هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تقرب الناس بأبواب البر والأعمال الصالحة فتقرب أنت بعقلك)[215]. وهو المراد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء رضي الله عنه: (ازدد عقلا تزدد من ربك قربا) فقال بأبي أنت وأمي وكيف لي بذلك فقال: (اجتنب محارم الله تعالى وأد فرائض الله سبحانه تكن عاقلا واعمل بالصالحات من الأعمال تزدد في عاجل الدنيا رفعة وكرامة وتنل في آجل العقبى بها من ربك عز وجل القرب والعز)[216].

وعن سعيد بن المسيب أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة رضي الله عنهم دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أعلم الناس فقال صلى الله عليه وسلم: (العاقل) قالوا فمن أعبد الناس قال: (العاقل) قالوا فمن أفضل الناس قال: (العاقل) قالوا أليس: العاقل من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته، فقال صلى الله عليه وسلم: ]وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين[ إن العاقل هو المتقي وإن كان في الدنيا خسيسا ذليلا)[217]. قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (( إنما العاقل من آمن بالله وصدق رسله وعمل بطاعته))[218].

ويشبه أن يكون أصل الاسم في أصل اللغة لتلك الغريزة وكذلك في الاستعمال وإنما أطلق على العلوم من حيث إنها ثمرتها كما يعرف الشيء بثمرته فيقال العلم هو الخشية والعالم من يخشى الله تعالى فإن الخشية ثمرة العلم فتكون كالمجاز لغير تلك الغريزة ولكن ليس الغرض البحث عن اللغة والمقصود أن هذه الأقسام الأربعة موجودة والاسم يطلق على جميعها ولا خلاف في وجود جميعها إلا في القسم الأول والصحيح وجودها بل هي الأصل وهذه العلوم كأنها مضمنة في تلك الغريزة بالفطرة ولكن تظهر في الوجود إذا جرى سبب يخرجها إلى الوجود حتى كأن هذه العلوم ليست بشيء وارد عليها من خارج وكأنها كانت مستكنة فيها فظهرت ومثاله الماء في الأرض فإنه يظهر بحفر البئر ويجتمع ويتميز بالحس لا بأن يساق إليها شيء جديد وكذلك الدهن في اللوز وماء الورد في الورد ولذلك قال تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فالمراد به إقرار نفوسهم لا إقرار الألسنة فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث وجدت الألسنة والأشخاص إلى مقر وإلى جاحد ولذلك قال تعالى: ]ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله[ معناه إن اعتبرت أحوالهم شهدت بذلك نفوسهم وبواطنهم فطرة الله التي فطر الناس عليها أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله عز وجل بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه أعني أنها كالمضمنة فيها لقرب استعدادها للإدراك ثم لما كان الإيمان مركوزا في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى قسمين إلى من أعرض فنسي وهم الكفار وإلى من أجال خاطره فتذكر فكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها ولذلك قال عز وجل: (لعلهم يتذكرون) ، (وليتذكر أولوا الألباب)، (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به)، (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)؛ وتسمية هذا النمط تذكرا ليس ببعيد فكأن التذكر ضربان أحدهما أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه لكن غابت بعد الوجود الآخر.

والآخر أن يذكر صورة كانت مضمنة فيه بالفطرة وهذه حقائق ظاهرة للناظر بنور البصيرة ثقيلة على من يستروجه قوله يستروجه من الرواج أي يكون السماع والتقليد رائجا عنده فتأمل اه مصححه السماع والتقليد دون الكشف والعيان ولذلك تراه يتخبط في مثل هذه الآيات ويتعسف وفي تأويل التذكر بإقرار النفوس أنواعا من التعسفات ويتخايل إليه في الأخبار والآيات ضروب من المناقضات وربما يغلب ذلك عليه حتى ينظر إليها بعين الاستحقار ويعتقد فيها التهافت ومثاله مثال الأعمى الذي يدخل دارا فيعثر فيها بالأواني المصفوفة في الدار فيقول ما لهذه الأواني لا ترفع من الطريق وترد إلى مواضعها فيقال له إنها في مواضعها وإنما الخلل في بصرك فكذلك خلل البصيرة يجري مجراه وأطم منه وأعظم إذ النفس كالفارس والبدن كالفرس وعمى الفارس أضر من عمى الفرس ولمشابهة بصيرة الباطن لبصيرة الظاهر قال الله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى وقال تعالى وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض الآية وسمى ضده عمى فقال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا وهذه الأمور التي كشفت للأنبياء بعضها كان بالبصر وبعضها كان بالبصيرة وسمى الكل رؤية وبالجملة من لم تكن بصيرته الباطنة ثاقبة لم يعلق به من الدين إلا قشوره وأمثلته دون لبابه وحقائقه فهذه أقسام ما ينطلق اسم العقل عليها بيان تفاوت النفوس في العقل قد اختلف الناس في تفاوت العقل ولا معنى للاشتغال بنقل كلام من قل تحصيله بل الأولى والأهم المبادرة إلى التصريح بالحق والحق الصريح فيه أن يقال إن التفاوت يتطرق إلى الأقسام الأربعة سوى القسم الثاني وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات فإن من عرف أن الاثنين أكثر من الواحد عرف أيضا استحالة كون الجسم في مكانين وكون الشيء الواحد قديما حادثا وكذا سائر النظائر وكل ما يدركه إدراكا محققا من غير شك وأما الأقسام الثلاثة فالتفاوت يتطرق إليها أما القسم الرابع وهو استيلاء القوة على قمع الشهوات فلا يخفى تفاوت الناس فيه بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد فيه وهذا التفاوت يكون تارة لتفاوت الشهوة إذ قد يقدر العاقل ترك بعض الشهوات دون بعض ولكن غير مقصور عليه فإن الشاب قد يعجز عن ترك الزنا وإذا كبر وتم عقله قدر عليه وشهوة الرياء والرياسة تزداد قوة بالكبر لا ضعفا وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف لغائلة تلك الشهوة ولهذا يقدر الطبيب على الاحتماء عن بعض الأطعمة المضرة وقدم من يساويه في العقل على ذلك إذا لم يكن طبيبا وإن كان يعتقد على الجملة فيه مضرة لكن إذا كان علم الطبيب أتم كان خوفه أشد فيكون الخوف جندا للعقل وعدة له في قمع الشهوات وكسرها وكذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصي من الجاهل لقوة علمه بضرر المعاصي وأعني به العالم الحقيقي دون أرباب الطيالسة وأصحاب الهذيان فإن كان التفاوت من جهة الشهوة لم يرجع إلى تفاوت العقل وإن كان من جهة العلم فقد سمينا هذا الضرب من العلم عقلا أيضا فإنه يقوي غريزة العقل فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه وقد يكون بمجرد التفاوت في غريزة العقل فإنها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشد وأما القسم الثالث وهو علوم التجارب فتفاوت الناس فيها لا ينكر فإنهم يتفاوتون بكثرة الإصابة وسرعة الإدراك ويكون سببه إما تفاوتا في الغريزة وإما تفاوتا في الممارسة فأما الأول وهو الأصل أعني الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده فإنه مثل نور يشرق على النفس ويطلع صبحه ومبادىء إشراقه عند سن التمييز ثم لا يزال ينمو ويزداد نموا خفي التدريج إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة ومثاله نور الصبح فإن أوائله تخفى خفاء يشق إدراكه ثم يتدرج إلى الزيادة إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس وتفاوت نور البصيرة كتفاوت نور البصر والفرق مدرك بين الأعمش وبين حاد البصر بل سنة الله عز وجل جارية في جميع خلقه بالتدريج في الإيجاد حتى إن غريزة الشهوة لا تظهر في الصبي عند البلوغ دفعة وبغتة بل تظهر شيئا فشيئا على التدريج وكذلك جميع القوى والصفات ومن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنه منخلع عن ربقة العقل.

ومن ظن أن عقل النبي صلى الله عليه وسلم مثل عقل آحاد السوادية وأجلاف البوادي فهو أخس في نفسه من آحاد السوادية وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم بالتفهيم إلا بعد تعب طويل من المعلم وإلى ذكي يفهم بأدنى رمز وإشارة وإلى كامل تنبعث من نفسه حقائق الأمور بدون التعليم كما قال تعالى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور وذلك مثل الأنبياء عليهم السلام إذ يتضح لهم في بواطنهم أمور غامضة من غير تعلم وسماع ويعبر عن ذلك بالإلهام وعن مثله عبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به)[219].

وهذا النمط من تعريف الملائكة للأنبياء يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع الصوت بحاسة الأذن ومشاهدة الملك بحاسة البصر ولذلك أخبر عن هذا بالنفث في الروع ودرجات الوحي كثيرة والخوض فيها لا يليق بعلم المعاملة بل هو من علم المكاشفة ولا تظنن أن معرفة درجات الوحي تستدعي منصب الوحي إذ لا يبعد أن يعرف الطبيب المريض درجات الصحة ويعلم العالم الفاسق درجات العدالة وإن كان خاليا عنها فالعلم شيء ووجود المعلوم شيء آخر فلا كل من عرف النبوة والولاية كان نبيا ولا وليا ولا كل من عرف التقوى والورع ودقائقه كان تقيا وانقسام الناس إلى من يتنبه من نفسه ويفهم وإلى من لا يفهم إلا بتنبيه وتعليم وإلى من لا ينفعه التعليم أيضا ولا التنبيه كانقسام الأرض إلى ما يجتمع فيه الماء فيقوى فيتفجر بنفسه عيونا وإلى ما يحتاج إلى الحفر ليخرج إلى القنوات وإلى ما لا ينفع فيه الحفر وهو اليابس وذلك لاختلاف جواهر الأرض في صفاتها فكذلك اختلاف النفوس في غريزة العقل ويدل على تفاوت العقل من جهة النقل ما روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل في آخره وصف عظم العرش وأن الملائكة قالت يا ربنا هل خلقت شيئا أعظم من العرش قال نعم العقل قالوا وما بلغ من قدره قال هيهات لا يحاط بعلمه هل لكم علم بعدد الرمل قالوا لا قال الله عز وجل فإني خلقت العقل أصنافا شتى كعدد الرمل فمن الناس من أعطى حبة ومنهم من أعطى حبتين ومنهم من أعطى الثلاث والأربع ومنهم من أعطى فرقا ومنهم من أعطى وسقا ومنهم من أعطى أكثر من ذلك)[220].

فإن قلت فما بال أقوام من المتصوفة يذمون العقل بالمعقول فاعلم أن السبب فيه أن الناس نقلوا اسم العقل المعقول إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات وهو صنعة الكلام فلم يقدروا على أن يقرروا عندهم أنكم أخطأتم في التسمية إذ كان لا ينمحي عن قلوبهم بعد تداول الألسنة به ورسوخه في القلوب فذموا العقل والمعقول وهو المسمى به عندهم فأما نور البصيرة التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله فكيف يتصور ذمه وقد أثنى الله تعالى عليه وإن ذم فما الذي بعده يحمد فإن كان المحمود هو الشرع فبم علم صحة الشرع فإن علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به فيكون الشرع أيضا مذموما ولا يلتفت إلى من يقول إنه يدرك بعين اليقين ونور الإيمان لا بالعقل فإنا نريد بالعقل ما يريده بعين اليقين ونور الإيمان وهي الصفة الباطنة التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور وأكثر هذه التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ فهذا القدر كاف في بيان العقل والله أعلم تم كتاب العلم بحمد الله تعالى ومنه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب قواعد العقائد والحمد لله وحده أولا وآخرا .

 


[1] حديث ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده)) متفق عليه ( البخاري:71 ومسلم: 1073-175) من حديث معاوية دون قوله (ويلهمه رشده) وهذه الزيادة عند الطبراني في الكبير.

[2] حديث (العلماء ورثة الأنبياء) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي الدرداء.

[3] حديث (يستغفر للعالم ما في السموات والأرض) هو بعض حديث أبي الدرداء المتقدم.

[4] حديث (الحكمة تزيد الشريف شرفا… الحديث) أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في بيان العلم وعبد الغني الأزدي في آداب المحدث من حديث أنس بإسناد ضعيف.

[5] حديث (خصلتان لا تجتمعان في منافق… الحديث) أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حديث غريب.

[6] حديث (أفضل الناس المؤمن العالم… الحديث) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان موقوفا على أبي الدرداء بإسناد ضعيف ولم أره مرفوعا.

[7] حديث (الإيمان عريان… الحديث) أخرجه الحاكم في تاريخ نيسابور من حديث أبي الدرداء بإسناد ضعيف.

[8] حديث (أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد… الحديث) أخرجه أبو نعيم في فضل العالم العفيف من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف.

[9] حديث (لموت قبيلة أيسر من موت عالم) أخرجه الطبراني وابن عبد البر من حديث أبي الدرداء، وأصل الحديث عند أبي الدرداء.

[10] حديث (الناس معادن… الحديث) متفق عليه من حديث أبي هريرة.

[11] حديث (يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء) أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف.

[12] حديث (من حفظ على أمتي أربعين حديثا من السنة حتى يؤديها إليهم كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة) أخرجه ابن عبد البر في العلم من حديث ابن عمر وضعفه.

[13] حديث (من حمل من أمتي أربعين حديثا لقي الله يوم القيامة فقيها عالما) أخرجه ابن عبد البر من حديث أنس وضعفه.

[14] حديث (من تفقه في دين الله كفاه الله همه… الحديث) رواه الخطيب في التاريخ من حديث عبد الله بن جزء الزبيدي بإسناد ضعيف.

[15] حديث (أوحى الله إلى إبراهيم يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم) ذكر ابن عبد البر تعليقا ولم أظفر له بإسناد.

[16] حديث (العالم أمين الله في الأرض) أخرجه ابن عبد البر من حديث معاذ بسند ضعيف.

[17] حديث (صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس) الحديث أخرجه ابن عبد البر وأبو نعيم من حديث ابن عباس بسند ضعيف.

[18] حديث (إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني… الحديث) أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في العلم من حديث عائشة بإسناد ضعيف.

[19] حديث (فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي) أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وقال حسن صحيح.

[20] حديث (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وهو قطعة من حديث أبي الدرداء المتقدم.

[21] حديث (يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء) رواه ابن ماجه من حديث عثمان بن عفان بإسناد ضعيف.

[22] حديث (ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين… الحديث) رواه الطبراني في الأوسط وأبو بكر الآجري في كتاب فضل العلم وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف وعند الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس بسند ضعيف (فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد).

[23] حديث (خير دينكم أيسره وأفضل العبادة الفقه) أخرجه ابن عبد البر من حديث أنس بسند ضعيف والشطر الأول عند أحمد من حديث محجن ابن الأدرع بإسناد جيد والشطر الثاني عند الطبراني من حديث ابن عمر بسند ضعيف.

[24] حديث (فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد بسبعين درجة) الحديث أخرجه ابن عدي من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف ولأبي يعلى نحوه من حديث عبد البر بن عوف.

[25] حديث إنكم أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه … الحديث). أخرجه الطبراني من حديث حزام بن حكيم عن عمه وقيل عن أبيه وإسناده ضعيف.

[26] حديث (بين العالم والعابد مائة درجة) الحديث. أخرجه الأصفهاني في الترغيب والترهيب من حديث ابن عمر عن أبيه وقال: (سبعون درجة) بسند ضعيف وكذا رواه صاحب مسند الفردوس من حديث أبي هريرة.

[27] حديث (قيل يا رسول الله: أي الأعمال أفضل؟ فقال: العلم بالله… الحديث). أخرجه ابن عبد البر من حديث أنس بسند ضعيف.

[28] حديث (يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يبعث العلماء… الحديث). رواه الطبراني من حديث أبي موسى بسند ضعيف.

[29] السفاد: الجماع.

[30] لم أقف عليه في الكتب التسعة (محقق أحد طبعات الاحياء) ولم يذكره الحافظ العراقي .

[31] في بعض الطبعات : واقفاً

[32] قد يكون حديثاً نبوي شريف، أنظر كتاب ذكر الموت وما بعده وهو آخر كتب الإحياء و كتاب المنقذ من الضلال للمؤلف رحمه الله.

[33] حديث (من سلك طريقا يطلب فيه علما… الحديث). أخرجه مسلم (2699/38) من حديث أبي هريرة.

[34] حديث (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع) أخرجه أحمد (4/240،239) وابن حبان والحاكم وصححه من حديث صفوان بن عسال.

[35] حديث (لأن تغدو فتتعلم بابا من الخير خير من أن تصلي مائة ركعة) أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي ذر وليس إسناده بذاك والحديث عند ابن ماجه(219) بلفظ آخر.

[36] حديث (باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا) أخرجه ابن حبان في روضة العقلاء وابن عبد البر موقوفا على الحسن البصري ولم أره مرفوعا إلا بلفظ (خير له من مائة ركعة) رواه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف من حديث أبي ذر.

[37] حديث (اطلبوا العلم ولو بالصين) أخرجه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب من حديث أنس، وقال البيهقي: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة.

[38] حديث (العلم خزائن مفاتيحها السؤال… الحديث). رواه أبو نعيم من حديث علي مرفوعا بإسناد ضعيف.

[39] حديث (لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله) أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه في التفسير وابن السني وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث جابر بسند ضعيف.

[40] حديث أبي ذر (حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة… الحديث). ذكره ابن الجوزي في الموضوعات من حديث عمر ولم أجده من طريق أبي ذر.

[41] حديث (من جاءه الموت وهو يطلب العلم… الحديث). أخرجه الدارمي(354) وابن السني في رياضة المتعلمين من حديث الحسن فقيل هو ابن علي وقيل هو ابن يسار البصري مرسلا.

[42] حديث (ما آتى الله عالما علما إلا أخذ عليه من الميثاق ما أخذ على النبيين أن يبينوه للناس ولا يكتموه) أخرجه أبو نعيم في فضل العالم العفيف من حديث ابن مسعود بنحوه وفي الخلعيات نحوه من حديث أبي هريرة.

[43] حديث (قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك… الحديث). أخرجه أحمد(238/5) من حديث معاذ وفي الصحيحين (البخاري:2942 ومسلم: 2407/34) من حديث سهل ابن سعد أنه قال ذلك لعلي.

[44] حديث (( من تعلم بابا من العلم ليعلم الناس أعطي ثواب سبعين صديقا)) رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن مسعود بسند ضعيف.

[45] حديث ((إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى للعابدين والمجاهدين ادخلوا الجنة … الحديث)) أخرجه أبو العباس الذهبي في العلم من حديث ابن عباس بسند ضعيف.

[46] حديث (( إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا من الناس… الحديث)) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو.

[47] حديث (( من علم علما فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة قال الترمذي: حديث حسن.

[48] حديث (( نعم العطية ونعم الهدية كلمة حكمة تسمعها … الحديث)) أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس نحوه بإسناد ضعيف.

[49] حديث (( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها … الحديث)) أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال الترمذي: حسن غريب.

[50] حديث (( إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير )) أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وقال: غريب وفي نسخة: حسن صحيح.

[51] حديث (( ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن… الحديث)) أخرجه ابن عبد البر من رواية محمد بن المنكدر مرسلا نحوه ولأبي نعيم من حديث عبد الله بن عمرو (( ما أهدى مسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة تزيده هدى أو ترده عن ردى)).

[52] حديث (( كلمة من الحكمة يسمعها المؤمن فيعمل بها ويعلمها… الحديث)) أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق من رواية زيد بن أسلم مرسلا نحوه وفي مسند الفردوس من حديث أبي هريرة بسند ضعيف (( كلمة حكمة يسمعها الرجل خير له من عبادة سنة)).

[53] حديث ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله… الحديث)) أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بسند ضعيف.

[54] حديث ((مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى… الحديث)) متفق عليه من حديث أبي موسى اه.

[55] حديث (( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث… الحديث)) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة

[56] حديث ((الدال على الخير كفاعله)) أخرجه الترمذي من حديث أنس وقال: غريب. ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي مسعود البدري بلفظ (من دل على خير فله مثل أجر فاعله).

[57] حديث ((لا حسد إلا في اثنتين… الحديث)) متفق عليه من حديث ابن مسعود.

[58] حديث ((على خلفائي رحمة الله… الحديث)) رواه ابن عبد البر في العلم، والهروي في ذم الكلام من حديث الحسن، فقيل هو ابن علي وقيل ابن يسار البصري فيكون مرسلاً، ولابن السني وأبي نعيم في رياضة المتعلمين من حديث علي نحوه.

[59] حديث معاذ ((تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة… الحديث بطوله)) رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب، وابن عبد البر وقال: ليس له إسناد قوي.

[60] حديث ((بني الإسلام على خمس… الحديث)) متفق عليه من حديث ابن عمر.

[61] حديث: اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل: مشهور في كتب السير والحديث؛ فعند مسلم قصة ضمام بن ثعلبة.

[62] حديث ((ثلاث مهلكات: شح مطاع… الحديث)) أخرجه البزار والطبراني وأبو نعيم والبيهقي في الشعب من حديث أنس بإسناد ضعيف.

[63] حديث ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) متفق عليه من حديث أبي بكرة.

[64] حديث ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا أي لا يحسن الكتابة)) أخرجه ابن مردويه في التفسير من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا ((أنا محمد النبي الأمي)) وفيه ابن لهيعة، ولابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه من حديث ابن مسعود: ((قولوا اللهم صل على محمد النبي الأمي)) وللبخاري من حديث البراء ((وأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب )).

[65] حديث (( لا يفتي الناس إلا ثلاثة… الحديث)) أخرجه ابن ماجه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ((لا يقض على الناس)) وإسناده حسن.

[66] حديث (( هلا شققت عن قلبه)) أخرجه مسلم من حديث أسامة بن زيد.

[67] حديث ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله… الحديث)) متفق عليه من حديث أبي هريرة وعمر وابن عمر.

[68] حديث (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن حبان من حديث الحسن بن علي.

[69] حديث (( الإثم حزاز القلوب )) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن مسعود ورواه العدني في مسنده موقوفا عليه.

[70] حديث (( لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به… الحديث)) أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث عطية السعدي.

[71] حديث (( استفت قلبك وإن أفتوك )) أخرجه أحمد من حديث وابصة.

[72] اللمة: الخطرة في القلب.

[73] حديث (( إن من العلم كهيئة المكنون… الحديث)) رواه أبو عبد الرحمن السلمي في الأربعين له في التصوف من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف.

[74] حديث (( قيل له كيف نفعل إذا جاء أمر لم نجده في كتاب الله ولا سنة رسوله؟ … الحديث)) رواه الطبراني من حديث ابن عباس وفيه عبد الله بن كيسان ضعفه الجمهور.

[75] حديث (( ما فضل أبو بكر الناس بكثرة صلاة ولا كثرة صيام… الحديث)) أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر من قول أبي بكر بن عبد الله المزني ولم أجده مرفوعاً.

[76] وجد في النص: <فإنه قيل لجالينوس: إنك تأمر للداء الواحد بالأدوية الكثيرة المجمعة، فقال: (إنما المقصود منها واحد، وإنما يجعل معه غيره لتسكن حدته لأن الإفراد قاتل)>

[77] حديث (( اختلاف أمتي رحمة )) ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية تعليقا وأسنده في المدخل من حديث ابن عباس بلفظ: (( اختلاف أصحابي لكم رحمة )) وإسناده ضعيف.

[78] حديث (( المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )) متفق عليه من حديث سفيان ابن أبي زهير.

[79] حديث (( المدينة تنفي خبثها… الحديث )) متفق عليه من حديث أبي هريرة.

[80] حديث (( سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم )) متفق عليه من حديث عائشة.

[81] حديث (( إذا ذكر القدر فأمسكوا …  الحديث )) رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد حسن.

[82] حديث (( أخاف على أمتي بعدي ثلاثا حيف الأئمة … الحديث )) أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي محجن بإسناد ضعيف.

[83] حديث: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل والناس مجتمعون فقال: (( ما هذا؟ فقالوا رجل علامة…  الحديث)) أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي هريرة وضعفه. وفي آخر الحديث (( إنما العلم آية محكمة… إلى آخره)) وهذه القطعة عند أبي داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو.

[84] ليس له تخريج عند الحافظ العراقي! محمدحزيّن

[85] حديث (( نعوذ بالله من علم لا ينفع )) أخرجه ابن عبد البر من حديث جابر بسند حسن، وهو عند ابن ماجه بلفظ (( تعوذوا )) وقد تقدم.

[86] حديث (( إن من العلم جهلاً… الحديث)) رواه أبو داود من حديث بريدة وفي إسناده من يجهل.

[87] حديث (( قليل من التوفيق خير من كثير من العلم)) لم أجد له أصلاً، وقد ذكره صاحب الفردوس من حديث أبي الدرداء، وقال: (( العقل بدل العلم )) ، ولم يخرجه ولده في مسنده.

[88] حديث ((علماء (حكماء لا يوجد هذه اللفظ) فقهاء)) رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد، والخطيب في التاريخ من حديث سويد بن الحارث بإسناد ضعيف.

[89] حديث (( ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه… الحديث )) رواه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق، وأبو بكر بن السني وابن عبد البر من حديث علي. وقال ابن عبد البر: أكثرهم يوقفونه عن علي.

[90] حديث أنس (( لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من غدوة إلى طلوع الشمس… الحديث )) رواه أبو داود بإسناد حسن.

[91] حديث (( لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله… الحديث )) أخرجه ابن عبد البر من حديث شداد بن أوس وقال: لا يصح مرفوعا.

[92] حديث (( أبغض إله عبد في الأرض عند الله هو الهوى )) أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف.

[93] حديث (( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا… الحديث )) أخرجه الترمذي من حديث أنس وحسنه.

[94] حديث (( إن لله ملائكة سياحين في الهواء سوى ملائكة الخلق… الحديث)). متفق عليه من حديث أبي هريرة دون قوله في الهواء والترمذي ((سياحين في الأرض)) وقال مسلم سيارة.

[95] حديث ((لم تكن القصص في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم )). رواه ابن ماجه من حديث عمر بإسناد حسن.

[96] حديث أبي ذر ((حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة)) تقدم في الباب الأول.

[97] حديث (( إياك والسجع يا ابن رواحة)) لم أجده هكذا ولأحمد وأبي علي وابن السني وأبي نعيم في كتاب الرياضة من حديث عائشة بإسناد صحيح أنها قالت للسائب (( إياك والسجع فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا لا يسجعون)) ولابن حبان (واجتنب السجع) وفي البخاري نحوه من قول ابن عباس.

[98] حديث (( أسجع كسجع الأعراب)) أخرجه مسلم من حديث المغيرة.

[99] حديث (( إن من الشعر لحكمة )) أخرجه البخاري من حديث أبي بن كعب.

[100] حديث (( ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفهمونه إلا كان فتنة عليهم)) رواه العقيلي في الضعفاء وابن السني وأبو نعيم في الرياء من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف، ولمسلم في مقدمة صحيحه موقوفا على ابن مسعود.

[101] حديث (( كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون… الحديث )). رواه البخاري موقوفا على علي ورفعه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم.

[102] حديث (( تسحروا فإن في السحور بركة)) متفق عليه من حديث أنس.

[103] حديث (( تناول الطعام في السحور )) رواه البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت (تسحرا).

[104] حديث ((هلموا إلى الغذاء المبارك)) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث العرباض بن سارية وضعفه ابن القطان.

[105] حديث ((من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه، وهو عند أبي داود من رواية ابن العبد، وعند النسائي في الكبرى.

[106] حديث (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل))، قاله لابن عباس رواه البخاري من حديث ابن عباس دون قوله (وعلمه التأويل) وهو بهذه الزيادة عند أحمد وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد.

[107] حديث ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) متفق عليه من حديث أبي هريرة وعلي وأنس.

[108] حديث ((كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير له من الدنيا)) تقدم بنحوه.

[109] حديث لما سئل عن شر الخلق أبي وقال ((اللهم اغفر) الحديث. رواه الدارمي بنحوه من رواية الأحوص بن حكيم عن أبيه مرسلا وهو ضعيف، ورواه البزار في مسنده من حديث معاذ بسند ضعيف.

[110] حديث (( بدأ الإسلام غريبا… الحديث)) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مختصراً، وهو بتمامه عند الترمذي من حديث عمرو بن عوف وحسنه.

[111] حديث (( هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم))  يقوله في وصف الغرباء، لم أر له أصلاً.

[112] حديث ((الغرباء ناس قليلون صالحون)) أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو.

[113] حديث: (( ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ))، رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي أمامة قال الترمذي حسن صحيح.

[114] حديث (( هم أهل الجدل الذين عنى الله بقوله فاحذرهم))، متفق عليه من حديث عائشة.

[115] حديث ((إنكم في زمان ألهمتم فيه العمل وسيأتي قوم يلهمون الجدل)) لم أجده.

[116] حديث ((أبغض الخلق إلى الله الألد الخصم))، متفق عليه من حديث عائشة.

[117] حديث ((ما أوتي قوم المنطق إلا منعوا العمل))،لم أجد له أصلاً.

[118] حديث أنس ((قيل يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… الحديث)) أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن.

[119] حديث ((الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب))، أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة وقال البخاري لا يصح وهو عند ابن ماجه من حديث أنس بإسناد ضعيف وفي تاريخ بغداد بإسناد حسن.

[120] حديث ((من تكبر وضعه الله … الحديث))، أخرجه الخطيب من حديث عمر بإسناد صحيح وقال: غريب من حديث الثوري، ولابن ماجه نحوه من حديث أبي سعيد بسند حسن.

[121] حديث ((الكبرياء ردائي والعظمة إزاري … الحديث))، أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة وهو عند مسلم بلفظ: (الكبرياء رداؤه) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.

[122] حديث (( نهى المؤمن عن إذلال نفسه))، أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجه من حديث حذيفة ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه)).

[123] حديث ((المؤمن ليس بحقود)) لم أقف له على أصل.

[124] حديث ((إذا تعلم الناس العلم وتركوا العمل وتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب … الحديث))، أخرجه الطبراني من حديث سلمان بإسناد ضعيف رواه الحسن.

[125] حديث ((من ترك المراء وهو مبطل … الحديث))، أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أنس مع اختلاف قال الترمذي: حسن.

[126] بدون تخريج

[127] حديث (( إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم))، أخرجه النسائي من حديث أنس بإسناد صحيح.

[128] حديث (( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر))، متفق عليه من حديث أبي هريرة.

[129] حديث ((بني الدين على النظافة))، لم أجده هكذا، وفي الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة: (تنظفوا فإن الإسلام نظيف) وللطبراني في الأوسط بسند ضعيف جدا من حديث ابن مسعود: (النظافة تدعو إلى الإيمان).

[130] حديث ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب)) متفق عليه من حديث أبي طلحة الأنصاري.

[131] حديث ((حشر الممزق لأعراض الناس في صورة كلب ضار… الحديث))، أخرجه الثعلبي في التفسير من حديث البراء بسند ضعيف.

[132] حديث أخذ ابن عباس بركاب زيد بن ثابت وقوله: (هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء)، أخرجه الطبراني والحاكم والبيهقي في المدخل إلا أنهم قالوا: (هكذا نفعل) قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم.

[133] حديث ((ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم))، أخرجه ابن عدي من حديث معاذ وأبي أمامة بإسنادين ضعيفين.

[134] حديث (( أبيح له صلى الله عليه وسلم تسعة نسوة))، وهو معروف وفي الصحيحين من حديث ابن عباس(( كان عند النبي صلى الله عليه وسلم تسع… الحديث)).

[135] حديث ((لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح))، أخرجه ابن عدي من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف ورواه البيهقي في الشعب موقوفا على عمر بإسناد صحيح.

[136] حديث ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده))، أخرجه أبو داود (8) والنسائي (38:1) وابن ماجه (313) وابن حبان (1140) من حديث أبي هريرة.

[137] حديث: ((لو منع الناس عن فت البعر لفتوه … الحديث)) لم أجده.

[138] حديث: ((نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم… الحديث)) رويناه في جزء من حديث أبي بكر بن الشخير من حديث عمر أقصر منه وعند أبي داود من حديث عائشة: ((أنزلوا الناس منازلهم)).

[139] لم يخرجه.

[140] حديث:  ((من كتم علما نافعا جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار)) أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد بإسناد ضعيف وتقدم حديث أبي هريرة بنحوه.

[141] قطعة من حديث لم يخرجه لعله في الأربعين النووية.

[142] لم يخرجه.

[143] حديث: ((لا يكون المرء عالما حتى يكون بعلمه عاملا)). أخرجه ابن حبان في كتاب روضة العقلاء والبيهقي في المدخل موقوفا على أبي الدرداء ولم أجده مرفوعا.

[144] حديث: ((العلم علمان علم على اللسان…الحديث))، أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر وابن عبد البر من حديث الحسن مرسلا بإسناد صحيح وأسنده الخطيب في التاريخ من رواية الحسن عن جابر بإسناد جيد وأعله ابن الجوزي.

[145] حديث: (( يكون في آخر الزمان عباد جهال وعلماء فسقة)) أخرجه الحاكم من حديث أنس وهو ضعيف.

[146] حديث: (( لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء)) أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بإسناد صحيح.

[147] تقدم أخراجه – صحيح.

[148] حديث: ((  لأنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال… الحديث)) أخرجه أحمد من حديث أبي ذر بإسناد جيد.

[149] حديث: (( من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا)) أخرجه أبو منصور الديلمي في (مسند الفردوس). وحديث علي بإسناد ضعيف، إلا أنه قال (زهدا). وروى ابن حبان في (روضة العقلاء) موقوفا على الحسن: ((من ازداد علما ثم ازداد على الدنيا حرصا لم يزدد من الله إلا بعدا)) وروى أبو الفتح الأزدي في ((الضعفاء)) من حديث علي ((من ازداد بالله علما ثم ازداد للدنيا حبا ازداد الله عليه غضبا)).

[150] حديث: (( إن العالم يعذب عذابا يطيف به أهل النار… الحديث)) لم أجده بهذا اللفظ وهو معنى حديث أسامة المذكور بعده.

[151] حديث أسامة بن زيد: ((يؤتى بالعالم يوم القيامة ويلقى في النار فتندلق أقتابه… الحديث)) متفق عليه، بلفظ: (الرجل) بدل (العالم).

[152] حديث أبي هريرة: ((من طلب علما مما يبتغي به وجه الله ليصيب به عرضا… الحديث)) ، أخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد جيد.

[153] حديث أبي الدرداء: (( أوحى الله إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين… الحديث)) أخرجه ابن عبد البر بإسناد ضعيف.

[154] حديث ابن عباس: ((علماء هذه الأمة رجلان… الحديث)) أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف.

[155] حديث معاذ: ((من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع)) الحديث أخرجه أبو نعيم وابن الجوزي في الموضوعات.

[156] حديث: ((إن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة)) لم أجده هكذا وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: ((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)).

[157] حديث جابر: ((لا تجلسوا عند كل عالم… الحديث)) أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن الجوزي في الموضوعات

[158] حديث: ((مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار… الحديث)) أخرجه ابن حبان من حديث أنس.

[159] حديث: ((هلاك أمتي عالم فاجر وشر الشرار شرار العلماء… الحديث)) أخرجه الدارمي من رواية الأحوص بن حكيم عن أبيه مرسلا بآخر الحديث نحوه وقد تقدم ولم أجد صدر الحديث.

[160] حديث عبد الرحمن بن غنم: عن عشرة من الصحابة ((تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا)) علقه ابن عبد البر وأسنده ابن عدي وأبو نعيم والخطيب في كتاب اقتضاء العلم للعمل من حديث معاذ فقط بسند ضعيف ورواه الدارمي موقوفا على معاذ بسند صحيح.

[161] حديث: (( القضاة ثلاثة… الحديث)) أخرجه أصحاب السنن من حديث بريدة وهو صحيح.

[162] حديث ((إن الشيطان ربما يسوفكم بالعلم… الحديث)) في الجامع من حديث أنس بسند ضعيفظ.

[163] حديث: ((إنما أخاف على أمتي زلة عالم… الحديث)) أخرجه الطبراني من حديث أبي الدرداء ولابن حبان نحوه من حديث عمران بن حصين.

[164] حديث: (( أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علمني من غرائب العلم… الحديث)) رواه ابن السني وأبو نعيم في كتاب الرياضة لهما وابن عبد البر من حديث عبد الله بن المسور مرسلا وهو ضعيف جدا.

[165] حديث: ((نزع القميص المعلم)) متفق عليه من حديث عائشة.

[166] حديث: ((نزع الخاتم الذهب في أثناء الخطبة)) متفق عليه من حديث ابن عمر.

[167] حديث: ((من بدا جفا… الحديث)) أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي من حديث ابن عباس.

[168] حديث: ((سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون… الحديث)) أخرجه مسلم من حديث أم سلمة.

[169] حديث أنس: ((العلماء أمناء الرسل على عباد الله… الحديث)) أخرجه العقيلي في الضعفاء وذكره ابن الجوزي في الموضوعات رواه أنس.

[170] حديث شرار: ((العلماء الذين يأتون الأمراء وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء)) أخرجه ابن ماجه بالشطر الأول نحوه من حديث أبي هريرة بسند ضعيف.

[171] حديث: ((العلم ثلاثة كتاب ناطق وسنة قائمة ولا أدري)) أخرجه الخطيب في أسماء من روى عن مالك موقوفا على ابن عمر ولأبي داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا نحوه مع اختلاف وقد تقدم.

[172] حديث: ((ما أدري أعزير نبي أم لا… الحديث)) أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة.

[173] حديث: ((لما سئل عن خير البقاع وشرها قال لا أدري حتى نزل جبريل… الحديث)) أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم وصححه ونحوه من حديث ابن عمر.

[174] حديث: (( كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثة… الحديث)) أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة قال الترمذي حديث غريب.

[175] حديث: (( إن رأيتم الرجل قد أوتى صمتا وزهدا… الحديث)) أخرجه ابن ماجه من حديث ابن خلاد بإسناد ضعيف.

[176] حديث مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء أخرجه البخاري من حديث أبي جعفة.

[177] حديث: (( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم)) أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس وضعفه.

[178] الحديث ليس له تخريج هنا، ولعله مخرج من قبل.

[179] حديث: (( لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا)) متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ سمعه وبصره، وهو في الحلية كما ذكره المؤلف من حديث أنس بسند ضعيف.

[180] حديث: (( اليقين الإيمان كله)) أخرجه البيهقي في الزهد والخطيب في التاريخ من حديث ابن مسعود بإسناد حسن.

[181] حديث: (( تعلموا اليقين)) أخرجه أبو نعيم من رواية ثور بن يزيد مرسلا وهو معضل رواه ابن أبي الدنيا في اليقين من قول خالد بن معدان.

[182] حديث: ((قيل له رجل حسن اليقين كثير الذنوب…)) أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر من حديث أنس بإسناد مظلم.

[183] حديث: ((من أولى ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر… الحديث)) لم أقف له على أصل وروى ابن عبد البر من حديث معاذ: (( ما أنزل الله شيئا أقل من اليقين ولا قسم شيئا بين الناس أقل من الحلم… الحديث)).

[184] حديث: (( إن من خيار أمتي قوما يضحكون جهرا من سعة رحمة الله ويبكون سرا من خوف عذابه… الحديث)) أخرجه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه من حديث عياض بن سليمان.

[185] لم أجده هكذا بطوله وفي (زيادات الزهد) لابن المبارك من حديث الحسن مرسلا: ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله تعالى))  وللدارمي من رواية الأحوص بن حكيم عن أبيه مرسلا: (( ألا إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء، وقد تقدم.

[186] حديث: (( إن أكثر الناس أمنا يوم القيامة أكثرهم خوفا في الدنيا… الحديث)) لم أجد له أصلا.

[187] حديث ابن عمر: (( لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن… الحديث)) أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين والبيهقي.

[188] حديث: (( كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتينا الإيمان قبل القرآن… الحديث)) أخرجه ابن ماجه من حديث جندب مختصرا مع اختلاف.

[189] حديث: (( لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ]فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام[… الحديث)) أخرجه الحاكم والبيهقي في الزهد من حديث ابن مسعود.

[190] حديث حذيفة: (( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر… الحديث)) أخرجاه مختصراً.

[191] حديث ابن عباس: ((ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) أخرجه الطبراني من حديثه يرفعه بلفظة من قوله ((ويدع)).

[192] حديث ابن مسعود: ((إنما هما اثنتان الكلام والهدى… الحديث)) أخرجه ابن ماجه.

[193] حديث: ((طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق مالا اكتسبه… الحديث)) أخرجه أبو نعيم من حديث الحسين بن علي بسند ضعيف والبزار من حديث أنس أول الحديث وآخره والطبراني والبيهقي من حديث ركب المصري وسط الحديث وكلها ضعيفة.

[194] حديث: ((كان يتوكأ في خطبة العيد والاستسقاء على قوس أو عصا)) أخرجه الطبراني من حديث البراء ونحوه في يوم الأضحى ليس فيه الاستسقاء وهو ضعيف رواه في الصغير من حديث سعد القرظي كان إذا خطب في العيدين خطب على قوس وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا وهو عند ابن ماجه بلفظ كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس الحديث.

[195] حديث: ((من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد)) متفق عليه من حديث عائشة بلفظ: ((في أمرنا ما ليس منه)) وعند أبي داود ((فيه)).

[196] حديث: (( من غش أمتي فعليه لعنة الله… الحديث)) أخرجه الدارقطني في الأفراد من حديث أنس بسند ضعيف جدا.

[197] حديث: ((إن لله ملكا ينادى كل يوم من خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تنله شفاعته)) لم أجد له أصلا.

[198] حديث: (( عليكم بالنمط الأوسط… الحديث)) أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث موقوفا على علي بن أبي طالب ولم أجده مرفوعا.

[199] حديث: ((الشيخ في قومه كالنبي في أمته)) أخرجه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر وأبو منصور الديلمي من حديث أبي رافع بسند ضعيف.

[200] حديث: ((يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل… الحديث)) أخرجه داود بن المجبر أحد الضعفاء في كتاب العقل من حديث أبي هريرة وهو في مسند الحارث بن أبي أسامة عن داود.

[201] حديث: (( أول ما خلق الله العقل قال له أقبل… الحديث)) أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي أمامة وأبو نعيم من حديث عائشة بإسنادين ضعيفين.

[202] حديث أنس: (( أثنى قوم على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى بالغوا في الثناء فقال كيف عقل الرجل… الحديث)) أخرجه ابن المحبر في العقل بتمامه والترمذي الحكيم في النوادر مختصراً.

[203] حديث عمر: (( ما اكتسب رجل مثل فضل عقل… الحديث)) أخرجه ابن المحبر في العقل وعنه الحارث بن أبي أسامة.

[204] حديث: (( إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله… الحديث)) أخرجه ابن المحبر من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به والحديث عند الترمذي مختصر دون قوله ولا يتم من حديث عائشة وصححه.

[205] حديث أبي سعيد: (( لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله… الحديث)) أخرجه ابن المحبر وعنه الحارث.

[206] حديث عمر: (( أنه قال لتميم الداري ما السودد فيكم قال العقل قال صدقت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم… الحديث)) أخرجه ابن المحبر وعنه الحارث.

[207] حديث البراء: (( كثرت المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إن لكل شيء مطية… الحديث)) أخرجه ابن المحبر وعنه الحارث.

[208] حديث أبي هريرة: (( لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد سمع الناس يقولون كان فلان أشجع من فلان… الحديث)) أخرجه ابن المحبر.

[209] حديث البراء بن عازب: (( جد الملائكة واجتهدوا في طاعة الله بالعقل… الحديث)) أخرجه ابن المحبر كذلك وعنه الحارث في مسنده ورواه البغوي في (معجم الصحابة) من حديث ابن عازب رجل من الصحابة غير البراء وهو بالسند الذي رواه ابن المجبر.

[210] حديث عائشة: ((قلت: يا رسول الله بأي شيء يتفاضل الناس في الدنيا قال بالعقل… الحديث)) أخرجه ابن المحبر والترمذي الحكيم في (النوادر) نحوه.

[211] حديث ابن عباس: (( لكل شيء آلة وعدة وإن آلة المؤمن العقل… الحديث)) أخرجه ابن المحبر وعنه الحارث.

[212] حديث: (( إن أحب المؤمنين إلى الله من نصب في طاعة الله… الحديث)) أخرجه ابن المحبر من حديث ابن عمر، ورواه أبو منصور الديلمي في (مسند الفردوس) بإسناد آخر ضعيف.

[213] حديث: ((أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا… الحديث)) أخرجه ابن المحبر من حديث أبي قتادة.

[214] حديث: ((ما خلق الله خلقا أكرم عليه من العقل)) أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر بسند ضعيف من رواية الحسن عن عدة من الصحابة.

[215] حديث: (( إذا تقرب الناس بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك )) أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث علي: (( إذا اكتسب الناس من أنواع البر ليتقربوا بها إلى ربنا عز وجل فاكتسب أنت من أنواع العقل تسبقهم بالزلفة والقرب )) وإسناده ضعيف.

[216] حديث: (( ازدد عقلا تزدد من ربك قربا… الحديث)) قاله لأبي الدرداء: أخرجه ابن المحبر ومن طريقه الحارث ابن أبي أسامة والترمذي الحكيم في (النوادر).

[217] حديث: (( ابن المسيب أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله من أعلم الناس فقال العاقل… الحديث)) أخرجه ابن المحبر.

[218] حديث: (( إنما العاقل من آمن بالله وصدق رسله وعمل بطاعته))  أخرجه ابن المحبر من حديث سعيد بن المسيب مرسلا وفيه قصة.

[219] حديث: (( إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه… الحديث)) أخرجه الشيرازي في (الألقاب) من حديث سهل بن سعد نحوه والطبراني في (الأصغر) و (الأوسط) من حديث علي وكلاهما ضعيف.

[220] حديث ابن سلام: (( سئل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل في آخره وصف عظم العرش وأن الملائكة قالت يا رب هل خلقت شيئا أعظم من العرش؟ … الحديث)) أخرجه ابن المحبر من حديث أنس بتمامه والترمذي الحكيم في (النوادر) مختصراً. (تم تدقيقه بعون الله وتوفيقه على يد افقر عباده محمد بن إسماعيل العاشر من رجب عام 1425هجرية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام حامداً الله ومصلياً على نبيه)

Obat Harap dan Jalan kepada Harap

 

 

madinah1.jpg

Penjelasan tentang obat harap, dan jalan yang menghasilkan dari keadaan harap dan menguatkan pada harap

Ketahuilah bahwasanya obat harap ini yang membutuhkannya adalah salah satu dari dua macam orang yaitu

1. diperuntukkan bagi seseorang yang telah bersangatan keputus asaaannya dari rahmat Allah sehinga menyebabkan ia meninggalkan ibadah.

2. Diperuntukkan bagi oraang yang bersangatan rasa takutnya kepada Allah dan membuat ia berlebih-lebihan dalam beribadah sehingga dapat merusakkan keadaan dirinya dan keluarganya.

Kedua macam orang tersebut termasuk orang yang menyimpang dari keseimbangan mengarah pada penyia-nyiaan keadaan dirinya. Maka mereka berdua membutuhkan obat untuk menghilangkan mengembalikannya pada keadaan seimbang.

Adapun bagi orang yang bermaksiyat, yang tergelincir dan berangan-angan akan rahmat Allah sedang ia berpaling dari beribadah kepadaNya dan terus berbuat maksiyat, maka obat berupa harap akan berubah menjadi racun yang mematikan, seperti jua keadaannya bagaikan madu yang berguna untuk menyembuhkan penyakit yang mengerasi baginya dingin, maka ia / madu tersebut akan menjadi racun yang merusakkan bagi orang yang mengerasi baginya akan panasnya keadaannya. Bahkan orang yang tertipu tiada menggunakan untuk dirinya selain obat-obat takut dan sebab-sebab yang membangkitkan ketakutan.

Maka karena itulah harus ada orang yang memberi nasihat kepada orang banyak, yang lemah-lembut, yang memperhatikan kepada sebab-sebab terjadinya penyakit, yang memberi obat kepada setiap penyakit dengan sesuatu yang melawannya, tidak dengan menambah penyakit itu-dengan racunnya. Sesungguhnya yang idcari adalah –keseimbangan atau sederhana dalam sifat dan akhlak. Dan sebaik-baik perkara adalah yang di tengah-tengah (sedang/seimbang). Maka apabila melampaii dari keseimbangan yang di tengah-tengah ke salah satu tepi, niscaya harus diobati dengan mengembalikannya kepada keadaan di tengah, tidak dengan sesujatu menambah kecondongannya dariposisi di tengah-tengah.

Zaman sekarang ini adalah zaman yang tidak seyognyanya dipakaikan sebab-sebab harap ke hadapan orang banyak. Akan tetapi perlu sekali kepada sesuatu yang menakutkan juga, agar mengembalikan mereka kepada kebenaran yang sesungguhnya.

Adapun mengutarakan sebab-sebab harap, maka yang demikian ini akan membinasakan mereka dan menjatuhkan mereka secara keseluruhan ke dalam jurang. Apabila sebab-sebab harap itu lebih meresuk ke dalam hati dan lezat di rasa, dan tidaklah maksud dari pemberi nasihat selain untuk menarik mereka dan menuturkan kepada orang banyak dengan pujian di manapun mereka berada, niscaya mereka akan cenderung kepada harap sehingga bertambahlah kerusakan itu. Dan bertambahlah kejerumusan mereka dalam kedurhakaan.

Aliali ra. Berkata,” sesungguhnya orang yang berilmu adalah orang yang tidak mendatangkan keputus asaan kepada manusia dari rahmat Allah, dan tidak menjamin keamanan mereka dari ujian Allah.

Kami akan menyebtkan sebab-sebab harap agar dapat digunakan bagi orang yang putus asa. Atau pada orang yang disangatkan oleh adanya ketakutan, karena mengikuti kitab Allah Ta’ala dan sunah Rasul SAW, karena pada keduanya ini melengkapi akan takut dan harap. Juga karena keduanya mengumpulkan sebab-sebab yang menyembuhkan terhadap jenis-jenis orang sakit. Agar yang demikian ini dipakain oleh para ulama, yang menjadi pewaris para Nabi, menurut kebtuhan, sebagaimana yang dipakai oleh para dokter yang ahli, tidak sebagaimana yang dilakukan oleh orang yang dungu yang menyangka bahwa setiap penyakit obatnya sama bagaimanapun keadaan penyakit itu.

Kondisi harap akan menguat dengan dua hal

Pertama dengan jalan mengambil ibarat (i’tibar)

Kedua dengan penyelidikan ayat-ayat, hadits dan atsar.

Adapun dengan jalan i’tibar yaitu dengan memperhatikan semua yang disebutkan tentang jenis-jenis nikmat pada kitab Syukur. Sehingga ia tahu akan nikmat yang halus-halus dari nikmat Allah yang diberikan kepada hambaNya di dunia. Dan keajaiban-keajaiban hikmaNya yang dipeliharaNya pada penciptaan insan. Sehingga tersedialah bagi insan segala yang penting baginya untuk kelangsungannya hidup di dunia, seperti alat-alat makanan dan apa yang diperlukan seperti anak jari dan kuku. Dan yang menjadi hiasanbaginya seperti lengkungan alis, berlainannya warna bola mata, merahnya kedua bibir dengan tidak sumbing padanya –bibir- tersebut.

Maka dengan bantuan ke-Tuhan-an, apabila tidak berhenti dari hamba-hambaNya pada contoh yang halus tersebut, sehingga Ia tidak ridho bagi hambanya bahwa akan hilang dari mereka kelebihan-kelebihan dan tambahan-tambahan pada hiasan dan hajat keperluan, maka bagaimana Ia ridho mereka dibawa kepada kebinasaan yang abadi ?

Bahkan apabila insan memeperhatikan dengan perhatian yang menyenangkan, maka akna tahulah ia bahwa kebanyakan makhluk telah disiapkan untuknya sebab-sebab kebahagiaannya di dunia. Sehingga ia tidak suka berpindah dari dunia itu dengan kematian, walaupun diberitahukan kepadanya bahwa tiadalah ia akna di azab sesudah kematian selama-lamanya umpamanya. Atau sekali-kali tiada dibangkitkan setelah kematian itu. Maka kebencian mereka itu bukanlah karena tidak lagi mereka di dunia, melainkan kaena sebab-sebab kenikmatan yang membanyak. Dan sesungguhnya yang mengangan-angan akan kematian itu tidaklah banyak.

Jadi keadaan kebanyakan makhluk di dunia itu yang banyak kepadanya adalah keadaan baik dan selamat. Dan tidak engkau jumpai dalam sunnah allah suatu pergantian. Maka dalam hal urusan akhirat akan begitu juga keadaannya, karena yang mengatur dunia dan akhirat itu hanyalah Satu , yaitu Yang Maha Pengampun, Yag Maha Pengasih, Maha kasih Sayang kepada hamba-hambaNya, yang Maha belas Kasih kepada mereka.

Maka apabila diperhatikan dengan sebenar-benarnya, maka akan menjadi kuatlah sebab-sebab harap. Dan juga dari i’tibar dapat diperhatikan tentang hikmah syariat dan sunah-sunahNya, tentang kemuslihatan dunia dan dair segi rahmat bagi seluruh hambaNya. Sehingga sebagian ‘Arifiin melihat ayat tentang utang piutang pada surah Al Baqarah adalah diantara sebab-sebab harap yang terkuat. Maka ditanyaken kepada orang ‘Arifiin tersebut, “apakah yang ada padanya-ayat tersebut– itu harap ?”

Beliau menjawab, “Dunia semuanya itu sedikit, Rizki insan padanya sedikit. Adn hutang itu lebih sedikit daripada rizkinya”. Maka perhatikanlah bagaimana Allah menurunkan ayat terpanjang supaya hambanya mendapat petunjuk kepada jalan menjaga diri dalam menjaga agamanya. Maka bagaimana ia tidak menjaga agamanya yang tiada tukaran baginya.

Kedua : penyelidikan dari ayat-ayat dan hadits-hadits. Maka ayat dan hadits yang menerangkan tentang harap itu tak terhingga banyaknya.

Adapun ayat-ayat yang menerangkan diantaranya adalah Firmn Allah yang berbunyi :

“Qul Yaa Ibaadiyalladziina asrafuu ‘alaa anfusihim Laa taqnuthuu min rahmatiLlaahi InnaLlooha yaghfirudzzunuuba jamii’aa, InnaHuu Huwal Ghafuururrahiin” (QS. Azzumar53)

Yang artinya, “Katakanlah wahai hamba-hambaKu yang melampaui batas dalam mencelakakan diri sendiri, janganlah kau sekalian putus asa dari rahmat Allah, sesungguhnya Allah akan mengampuni semua dosa, dan sesungguhnya Dia adalah Maha memberi ampun dan Maha Pengasih”.

Menurut pembacaan RasuluLlah SAW adalah : “Walaa yubalii InnaHuu Huwal Ghafuururrahiim”, yang artinya, “Dan tiada peduli bahwasanya Dia-Allah adalah Maha Memberi Maaf dan Maha Pengasih”.

Allah Ta’ala berfirman, “Wal Malaaikatu yusabbihuuna bihamdi Robbihim wayastaghfiruuna liman fil ardhi”. Yang artinya, “Dan para malaikat itu bertasbih/memuji Tuhannya dan memintakan ampunan kepada penduduk bumi”. (QS. Asy-Syura 5)

Allah Ta’ala menerangkan bahwa neraka itu disediakan bagi musuh-musuhNya dan neraka itu ditakutkanNya kepada para wali-waliNya. Allah berfirman, “lahun min fauqihim dhulalun minannaari wamin tahtihim dhulalun. Dzaalika yukhowwifuLlaahu bihii ‘ibaadaHu” yang atinya, “dan bagi mereka ada naungan api dari atas mereka demikian juga dari bawah mereka-(ada api). Dengan Yang demikian itu Allah memberi ancaman kepada hambanya”. (QS. Az-Zumar 16)

Allah Ta’ala berfirman, “Wattaquunnaarollatii u’iddat lil kaafiriin” yang artinya, “dan takutlah kamu sekalian akan neraka yang disediakan bagi orang-orang yang ingkar”. (QS. Ali Imran 31)

Dan Allah Ta’ala berfirman, “Fa andzarTukum naaron taladhdhoo, laa yashlaahaa illal asyqalladzii kadzaba watawalla”. Yang artinya, “sebab itu Aku memperingatkanmu dari api yang emnyala-nyala. Tidaklah masuk ke dalamnya selain orang-orang yang celaka, yaitu orang yang mendustakan-kebenaran- dan membelakang. (QS. Al-Lail 14-16)

Allah Azza waJalla berfirman, “Wa inna Robbaka ladzuu maghfirotin linnaasi ‘alaa dhulmihim” yang artinya, “dan sesungguhnya Tuhanmu memiliki ampunan bagi manusia atas perbiatan aniayanya”. (QS. Ar-Ra’d 6)

Dikatakan bahwa Nabi SAW senantiasa menanyakan tentang ummatnya. Sehingga dikatakan kepadanya SAW, “Apakah engKau tidak ridho dan telah diturunkan kepada engKau ayat ini, “Wa inna Robbaka ladzuu maghfirotin linnaasi ‘alaa dhulmihim”

Dan tentang penafsiran firman Allah Ta’ala “walasaufa yu’thiiKa RobbuKa fatardho” yang artinya”Dan nanti Tuhanmu akan memberikan kepadamu, maka engKau akan bersenang hati / ridho”. (QS. Adh-Dhuha 5) Bahwa kata Ibnu Abbas, bahwasanya RasuluLlah SAW tiada senang seorangpun dari umatnya masuk neraka.

Adalah Abu Ja’far Muhammad bin Ali mengatakan, “Tuan-tuan penduduk Iraq mengatakan, ‘Ayat yang paling mengandung harapan dari kitab Allah adalah firmanNya “Qul Yaa Ibaadiyalladziina asrafuu ‘alaa anfusihim Laa taqnuthuu min rahmatiLlaahi InnaLlooha yaghfirudzzunuuba jamii’aa, InnaHuu Huwal Ghafuururrahiin” (QS. Azzumar53)- di atas sudah ada.terjemahannya. Dan kami keluarga RasuluLlah SAW mengatakan yang paling mengandung harapan adalah firmanNya ” walasaufa yu’thiiKa RobbuKa fatardho” yang artinya”Dan nanti Tuhanmu akan memberikan kepadamu, maka engKau akan bersenang hati / ridho”. (QS. Adh-Dhuha 5)

Adapun hadits, maka diriwayatkan dari Abu Musa dari NabiSAW bahwasanya beliau bersabda, “Ummatyy Ummatun marhuumah laa ‘adzaaba ‘alaihaa fil aakhirah ‘ajjalaLlaahu ‘iqaabahaa fiddunyaa – al zalaazila wal fatana . faidzaa kaana yaumul kiyaamah dufi’a olaa kulli rojulin min ummaty, rajulun ,im ahlil kitaabi faqiila, ‘hadzaa fidaa’uka minannaar”’. Yang artinya, “UmatKu adalah umat yang diberikah rahmat. Tidak ada adzab bagi mereka di akhirat. Allah akan mnenyegerakan siksanya di dunia dengan gempa bumi dan kekacauan/beberapa fitnah. Maka apabila hari kiyamat nanti niscaya akan ditolakkan pada setiap orang dari umatKu akan seorang dari ahli kitab (yahudi dan nasrani) lalu dikatakan,’ ini adalah tebusan engkau dari api neraka”’.

Menurut susunan kata yang lain ialah, “Ya’ti kullu rojulin min hadzihil ummah biyahuudiyyin au nashrooniyyin ilaa jahannama fayaquulu, ‘hadzaa fidaa’iy minannaari fayulqaa fiihaa’”. Yang artinya, “Setiap orang dri umat ini akan dtang dengan seorang yahudi atau nasrani ke neraka jahanam, lalu ia berkata, ‘inilah tebusanku dari api neraka’, maka orang yahudi atau nasrani itu dicampakkan ke dalam api neraka”’

Nabi SAW bersabda, “Al humma min faihij jahannam wahiya hadhul mu’mini minannaar”. Yanga artinya, “Demam itu dari panasnya jahannam, dan itu adalah keuntungan orang beriman dari api neraka”.

Diriwayatkan tentang penafsiran firman Allah Ta’ala, ”Yauma laa yukhziiLlaahuNnabiyya walladziina Aamanuu” yang artinya, “Pada hari dimana Allah tiada menghinakan Nabi dan orang-orang beriman yang bersama Dia”. (QS. At-Tahrim 8) bahwa Allah Ta’ala menurunkan wahyunya kepada Nabi SAW, “bahwa Aku jadikan perhitungan amal ummat Engkau kepada Engkau SAW”.

Nabi SAW menjawab, “Tidak wahai Tuuhanku, Engkau lebih mengasihani mereka daripadaku”.

Maka Allah Ta’ala berfirman, “Jdai, Kami tidak akan memberikan kehinaan akan Engkau mengenai mereka”.

Diirwayatkan dari Anas bin Malik bahwa RasuluLlah SAW menanyakan Tuhannya tentang dosa-dosa umatnya, maka Nabi bersabda, “Yaa Robbij’al hisaabuhum ilaYya li’allaa yattholi’a ‘alaa masaawihim ghairYi”. Yang artinya, “Yaa allah jadikanlah hisab mereka kepadaku, supaya tidak terlihat keburukan mereka, selain aku”.

Maka Allah Ta’ala menurunkan wahyu kepada Nabi SAW, “Mereka itu umatmu dan mereka itu hamba-hambaKu. Aku lebih sayang kepada mereka daripada engkau. Aku tidak akan menjadikanperhitungan amal mereka kepada selainKu. Agar tidak dilihat oleh engkau dan selain engkau kepada keburukan mereka”.

Nabi SAW berasbda, “HayaatY khoirullakkum wamautY khoirullakum. Ammaa hayatY fa Asunnu lakum sunana wa Usyarri’u lakumussyaraai’a. Wa ammaa mautY fainna a’maalakum tu’radhu alaYya famaa ra aiTu minhaa hasanan hamidTuLlaaha ‘alaihi, wamaa ra aiTu minhaa sayyian istaghfarTuLlaaha Ta’alalakum”.

Yang artinya, “HidupKu adalah kebaikan bagi kamu sekalian. Dan matiKu juga kebaikan bagi kamu. Adapun dengan hidupKu, maka aku sunnahkan bagi kamu sunnah-sunnah dan aku syari’atkan bagi kamu beberapa syari’at (hukum agama). Adapun matiKu, maka semua amalmu dihadapkan kepadaku. Maka apa yang aku lihat dari amal itu suatu kebajikan, maka aku memuji Allah sebab yang demikian. Dan apa yang aku lihat itu sesuatu yang buruk, maka aku memohonkan ampun kepada Allah bagi kamu sekalian”.

Pada suatu hari Nabi SAW mengucapkan, “Yaa Kariimal ‘afwi” Yang artinya, “Wahai Dzaat Yang Maha Memberi ma’af”.

Lalu Jibril AS bertanya, “adakah Engkau tahu apa penafsiran Yaa Karimal ‘Afwi ?”Yaitu jikalau Iamemaafkan dari kejahatan-kejahatan dengan rahmatNya, niscaya digantikanNya kejahatan itu dengan kebaikan, dengan kemurahanNya”.

Nabi SAW mendengar seseorang berdo’a, “Wahai Allah Tuhanku, aku bermohon kepadaMu kesempurnaan ni’mat”.

Kemudian Nabi bersabda, “Hal tadry maa tamaamunni’mat” Artinya, “Apakah engkau tahu apa itu kesempurnaan ni’mat ?”

Laki-laki itu menjawab, “Tidak”.

Kemudian Nabi SAW bersabda, “Dukhuulul Jannah”

Artinya, “masuk surga”.

Para ulama berkata bahwa Allah Ta’ala telah menyempurnakan ni’matnya kepada kita, dengan diridhoinya agama Islam sebagai agama kita, karena Allah telah berfirman, “Wa atmamTu ‘alaikum ni’maTy waradhiiTu lakumul Islaama diinaa” (QS. Al Maa’idah 3). Yang artinya, “dan telah Aku sempurnakan ni’matKu bagi kamu semua, dan Aku ridho Islam menjadi agamamu”.

Dan disebutkan di dalam hadits, “Idzaa adznabal ‘abdu dzanban fastaghfaraLlaaha, yaquuluLlaaha ‘AzzawaJalla slimalaaikatiHi ‘undzuruu ilaa ‘abdy adznaba dzanban fa’alima anna lahu Rabban yaghfiruudzzunuuba waya’khudzu bidzzanbi –Usyhiduukum AnNy qad ghafartu lahu”.

Yang artinya, “apabila seorang hamba melakukan dosa, kemudian meminta ampun kepada Allah, maka Allah Azza waJalla berfirman kepada malaikatNya, lihatlah kepada hambaKu yang melakukan perbuatan dosa, dan ia mengetahui bahwa ia memiliki Tuhan yang dapat menerima taubatnya dan menuntutdosa itu. Maka Aku persaksikan kepada kamu sekalian, bahwa Aku tlah mengampuni dosanya”,

Pada Hadits disebutkan, “Lau Adznabal ‘abdu hatta tablugha dzunuubuhuu anaanassamaa’i, ghafarTuhaa lahu mastaghfaraaNy warojaaNyy”. Yang artinya, “Jika seorang hamba berdosa hingga sampai ke langit (banyaknya)maka Aku akan mengampuninya selama ia mau meminta ampun kepadaKu dan mengharapkan rahmatKu”.

Pada Hadirts diterangkan, “Lau alqiyaNy ‘abDy biqiraabil ‘ardhi dzunuuban, laqaiTuhu biqiraabil ardhi maghfiratan”. Yang artinya, “Jika hambaKu menjumpaiKu dengan dosa sebesar bumi, maka Aku akan menjumpainya dengan ampunan sebesar bumi pula”.

Disebutkan dalam hadits, “Innal malaka layarfa’ul qalama ‘anil abdi idzaa adznaba sitta saa’atin, fa in taba wastahgfara lam yaktubhu ‘alaihi, wa illa katabahaa sayyi’atan”. Yang artinya, “Sesungguhnya malaikat mengangkat pena dari hamba apabila ia melakukan perbuatan dosa enam jam. Maka jika ia betobat dan meminta ampun niscaya malaikat itu tidak menuliskannya. Dan jikalau tidak maka malaikat itu menuliskannya sebagai kejahatan.

Dan pada kata-kata yang lain yang artinya, “Maka apabila malaikat itu menuliskannya atas orang itu dan orag etrsebut berbuat baik, niscaya malaikat yang disebelah kanan mengatakan kepada yang di sebelah kiri dimana malaikat yang sebelah kanan itu sebagai amir atas malaikat yang sebelah kiri. “campakkanlah kejahatan itu, sehaingga aku jumpai dari kebaikannya ituy satu dengan penggandaan sepuluh. Dan aku angkatkan baginya akan sembilan kebaikan’. Maka dicampakkanlah kejahatan itu dari padanya.

Diriwayatkan dari Anas bin Malik RA. Bahwa Nabi SAW bersabda, “Apabila hamba itu berbuat dosa, niscaya akan dituliskan atas diri hamba itu”.

Kemudian seorang arab desa bertanya, “dan jikalau ia bertobat ?”

Nabi SAW mnejawab, “niscaya dihapuslah dosa itu”.

Arab desa bertanya lagi, “Jikalau diulanginya”.

Nabi SAW menjawab, “dituliskan lagi dosa atas orang itu”.

Arab desa bertanya lagi,”Jikalau ia bertobat”.

Nabi SAW menjawab, “Akan dihapuskan dari halaman amalnya”.

Arab desa bertanya, “hingga kapan?”

Nabi SAW menjawab, “Sampai ia memohon ampun kepada Allah SWT dan bertobat keadanya. Sesunguhnya Allah tidak akan bosan memberi ampunan sampai hamba itu merasa bosan memohon ampun kepadaNya. Apabila hamba itu bercita-cita akan kebaikan, niscaya ditulis oleh malaikat yang di sebelah kanan sebagai kebaikan sebelum dikerjakannya. Maka bila niat tersebut dikerjakannya, maka akan ditulis sebagai sepuluh kebaikan. Kemudian dilipatkangandakan oleh Allah sampai tujuh ratus kali lipat. Kemudian apabila seorang hamba bercita-cita melakukan kejahatan, niscaya tidak dituliskannya.dan apabila kejahatan itu dikerjakan, niscaya dituliskan sebagai satu kejahatan. Dan apabila ditinggalkan, maka akan ditulis sebagai satu kebaikan. Dan dibelakangnya terdapat kebaikan dan kema’afan Allah Azza Wa Jalla”.

Seorang laki-laki datang kepada RasuluLlah SAW lalu berkata, “Wahai RasuluLlah sesungguhnya aku tidak berpuasa selain satu bulan. Tidak aku tambahkan daripadanya. Dan aku tidak mengerjakan salay selain hanya yang lima waktu dan tidak aku tambahkan. Dan tidak ada dari hartaku amalan untuk Allah baik dari sedekah, hajji dan amalan sunat. Dimanakah aku bila aku mati ?”.

RasuluLLah SAW tersenyum dan berkata, “Ya..bersama aku apabila engkau nenjaga hati engkau dari dua perkara, : iri hati dan dengki”. Engkau menjaga lidah engkau dari dua perkara, : umpat dan dusta. Dan dua mata enkau dari dua perkara : memandfang ari apa yang diharamkan oleh Allah dan bahwasanya engkau mengejek orang islam dengan menggunakan mata itu. Engkau akan masuk surga bersama aku atas dua tapak tanganku yang ini”.

Dalam hadits yang panjang yang diirwayatkan Anas bin Malik bahwa seorang arab desa bertanya, “Wahai RasuluLlah, siapa yang mengurus hitungan amal makhluk ?”.

RasuluLlah SAW menjawab, “Allah Yang Maha suci dan Maha tinggi”.

Arab desa bertanya lagi, “Dia sendiri ?”

RasuluLlah SAW menjawab, Ya”.

Maka arab desa tiu tersenyum. Lalu RasuluLlah SAW bertanya,”Mengapa engkau tertawa hai arab desa ?”

Ia menjawab, “Sesungguhnya Yang Maha Pemurah itu apabila mentaqdirkan niscaya memaafkan. Dan apabila mengadakan hitungan amal niscaya penuh dengan kelapangan”.

Lalu RasuluLlah SAW bersabda, “Benarlah arab desa ini. Ketahuilah kiranya bahwa tiada yang pemurah yang lebih pemurah dari Allah Ta’ala. Dia lah yang Maha pemurah dari orang-orang yang pemurah”.

Kemudian Nabi SAW bersabda, “orang desa tersebut telah mengerti”.

Dan pada hadis ini disebutkan pula, “Sesungguhnya Allah Ta’ala memuliakan ka’bah dan mengagungkannya. Jikalau ada seoranag hamba yang merobohkannya batu demi batu, kemudian ia membakarnya, maka yang demikian ini belumlah sampai seperti doa orang yang merendahkan wali Allah dari para wali-wali Allah Ta’ala.

Orang arab desa bertanya, “Siapakah para wali Allah itu ?”

Nabi SAW menjawab, “Semua orang mukmin adalah wali Allah Ta’ala. Apakah kamu belum mendengar firman Allah Ta’ala, ‘Allah itu wali bagi orang-orang yang beriman yang mengeluarkan mereka dari kegelapan kepada cahaya yang terang benderang’”.

Dan diterangkan pada sebagian hadits, “Orang mukmin itu lebih utama daripada Ka’bah”. “Orang Mukmin itu baik lagi suci “.

“Orang mukmin itu lebih mulia bagi Allah dari pada malaikat”.

Dan di dalah hadits diterangkan, “Allah Ta’ala sesungguhynya menciptakan neraka jahanam karena rasa kasih sayangNya yang dengan neraka tersebut Ia menggiring hambanya agar masuk ke dalam surga”.

Diterangkan dalam sebuah hadits, “Allah Ta’ala berfirman, ‘Sesungguhnya Aku menciptakan makhluk agar merreka berharap kepadaKu dan Aku tidak menciptakan mereka agar Aku mendapatkan keuntungan dari mereka.

Dan Hadits Abi Sa’id Al-Khudhry, dari Rasulillaahi SAW, “Allah Ta’ala tidak menjadikan sesuatu melainkan dijadikanNya apa yang dapat mengalahkannya. Dan dijadikanNya rahmatNya mengalahkan amarahNya”.

Tersebut dalam hadits yang terkenal, “sesungguhnyaAllah Ta’ala menuliskan atas diriNya rahmat, sebelum Ia menjadikan makhluk. Sesungguhnya rahmatKu itu mengalahkan kemarahanKu”.

Diriwaaytkan dari Mu’adz bin Jabbal RA, dan Anas bin Malik bahwa Nabi SAW bersabda, “Barang siapa yang mengucapkan Laa ilaaha illaLlaah maka ia masuk surga”. “Dan barangsiapa yang akhir kalamnya Laa ilaaha illaLlah maka tidak akan tersentuh api neraka”. ”dan barang siapa yang berjumpa denagn Allah dan tidak menyekutukanNya dengan sesuatu maka haram neraka baginya”. “Dan tidak akanmasuk kedalamnya orang yang di dalam hatinya ada sebutir biji dari iman”. “

Dan dalam hadits diterangkan, “Jika saja orang kafir mengetahui luasnya rahmat Allah niscaya tiada seorangpun yang putus asa dari surgaNya”.

Dan ketika Rasulillaahi SAW membaca firman Allah, “Dan sesungguhnya kegoncangan kiyamat adalah sesuatu yang sangat dahsyat”, Lalu beliau SAW bersabda, “Tahukah engkau hari apakah ini ?, ini adalah hari dimana dikatakan kepada Adam AS, Bangunlah dan carilah akan kecaria nerakan dari anak cucumu”. Maka Adam AS bertanya, berapa ?“. Maka dijawab, “dari seribu, maka yang 999 orang ke neraka dan seorang ke dalam surga”.

Maka kaum / sahabat penuh keheranan. Maka mereka itu menangis seharian dan mereka juga tidak mau berbuat maupun bekerja. Maka datanglah kepada mereka RasuluLlah SAW dan bersabda, “Mengapa kamu tidak mau bekerja ?”.

Mereka menjawab, “ Bagaimana kami akan beramal setelah mendengarkan berita yang demikian ini ?”

Nabi bersabda, “berapa banyak kaumdalam umat-umat itu. Dimana Tawil, Tsaris, Ya’juj dan ma’juj, mereka adalah umat-umat yang tak terhingga banyaknya sehingga hanya Alah yang mengetahuinya. Sesungguhnya kamu semua di antara umat-umat tersebut hanyalah laksana sehelai rambut putih pada kulit sapi jantan yang hitam, dan seperti gurisan pada lengan kaki depan binatang kendaraan”.

Maka perhatikanlah bagaimana umat manusia dihalau dengan cemeti ketakutan dan dituntun dengan tali harapan kepada Allah Ta’ala. Manakala mereka digiring dengan cemeti ketakutan pada kali pertama, kemudian apabila mereka mulai melewati batas keseimbangan hingga sampai kepada rasa putus asa dari rahmat Allah, maka diberi obatlah mereka dengan obat harap dan mengembalikan mereka pada posisi seimbang. Dan poin yang terakhir tadi tidaklah bertentangan dengan poin pertama / takut , akan tetapi disebutkan pada permulaan apa yang dilihatnya menjadi sebab bagi kesembuhan. Dan disingkatkan pada yang demikian. Maka apabila mereka membutuhkan kepada pengobatan dengan jalan harap, niscaya disebutkan kesempurnaan urusan. Maka wajib bagi orang yang ahli memberi nasihat untuk mencontoh Pemimpin pemberi nasihat yaitu RasuluLlah SAW maka berlemah lembuh dalam mempergunakan berita /hadits tentang khouf atau masalah takut keapda Allah, dan harap, menurut kebutuhan setelah menelaah sakit-sakit bathiniah. Apabila hal ini tidak dijaga, maka kerusakan yang ditimbulkan bagi orang yang diberi nasihat akan lebih banyak dari pada perbaikannya.

Di dalam khabar disabdakan, “Jikalau kamu tidak berdosa, maka Allah akan menciptakan makhluk yang mana mereka melakukan dosa kemudian Allah memberi ampunan kepada mereka”.

Dan dalam alfal yang lain, “Niscaya Allah akan pergi dari kamu dan datang kepada kaum yang lain yang melakukan dosa kemudian Allah mengampuni mereka sesungguhna Dia Dzat Yang Maha pemaaf dan Maha Pengasih”.

Dalam hadits yang lain, “Jika kamu semua tidak memiliki dosa, maka Aku lebih khawatir akan sesuatu yang lebih buruk dari pada dosa”. Para ashabat bertanya, “Apakah itu ?”. RasuluLlah SAW bersabda, “Ujub”.

Dan RasuluLlah SAW bersabda, “Demi Dzat yang jiwaku berada di tanganNya sesungguhnya Allah lebih menyayangi hambaNya yang beriman daripada seorang ibu yang mengasihi anaknya”.

Dan di dalam hadits diterangkan, “Allah akan memberi ampun kelak di ahri kiyamat akan ampunan yang tiada terguris di hati seseorang. Sampai iblispun menyombongkan diri akan ampunan itu karena mengharap akan diperolehnya”.

Tersebut pada hadits, “sesungguhnya Allah Ta’ala memiliki 100 rahmat, dimana disembunyikanNya rahmat yang 99 dan diperlihatkanNya rahmat yang satu di dunia, yang berdesak-desakanlah semua makhluk pada rahmat yang satu tersebut. Maka ibu kasih sayang kepada anaknya, dan berlemah lembutlah hewan kepada anaknya. Dan apabila telah datang hari kiyamat, maka Allah mengumpulkan rahmat yang satu ini kepada rahmat yang 99 kemudian dihamparkannya kepada makhlukNya. Dan setiap rahmat darnya adalah sebesar lapisan langit dan bumi”. Nabi SAW kemudian bersabda, “Maka tiada binasalah pada hari itu kecuali orang-orang yang binasa”.

Diterangkan dalam sebuah hadits, “Tidak ada diantara kamu sekalian yang amalnya dapat memasukkannya ke dalam surga”.

Para sahabat bertanya, “Termasuk juga engkau Yaa RasuluLlah ?”

RasuluLlah SAW menjawab, “ Termasuk juga aku, selain bahwa aku diselubungkan oleh Allah dengan rahmatNya”.

Dan RasuluLlah SAW bersabda,”Beramalah kalian semua dan berilah kabar gembira. Dan ketahuilah bahwa seseorang tidak akan diselamatkan oleh amalnya”.

Nabi SAW bersabda, “sesungguhnya aku sembunyikan syafa’atku kepada orang-orang yangberbuat dosa besar dari umatku. Adakah engkau lihat syafa’at itu bagi orang-orang yang ta’at, yang taqwa saja ?, Tidak. Bahkan syafaat itu bagi orang-orang yang berlumuran dosa, yang mencampur adukkan antara dosa dan bukan dosa”.

19/04/2007 0:26:30

Dan Nabi SAW bersabda, “Aku diutus membaw agama yang benar,yang penuh kelapangan/samhah, dan penuh kemudahan”.

Dan RasuluLlah SAW bersabda, “Aku senang agar diketahui oleh dua golongan ahli kitab bahwa di dalam agama kami adalah penuh kelapangan”. Dan masih menunjukkan makna yang demikian yaitu tentang keterkabulannya do’a orang mu’min pada do’anya, “Janganlah engkau bebankan kepada kami sesuatu yang berat” QS. AL Baqarah 276.

Dan Allah Ta’ala telah berfirman, “dan meringankan beban mereka dan belenggu yang menyusahkan mereka”.

Dan telah meriwayatkan Muhammad bin Hanafiyah dari Aly RA sesungguhnya ia berkata, “ketika turun firman Allah Ta’ala. ‘Fashfahishafhassjamiil’ yang artinya ‘maka berimaaflah dengan pemberian ma’af yang baik’ , maka Nabi SAW bertanya, ‘Yaa Jibriil, apa itu Safhasjamiil ?. maka Jibril menjawab, ‘jika engkau memebri ma’af kepada orang yang menganiaya engkau, maka janganlah engkau mencelanya’.

Maka RasuluLlah SAW bersabda, “Wahai Jibril, maka sesungguhnya Allah Ta’ala itu lebih pemurah dari pada Ia mencela orang yang dima’afkanNya’. Maka menangislah Jibril, dan menangislah Nabi SAW, maka Allah Ta’ala mengutus Mika’il Alaihissalam kepada keduanya dan berkata, ‘Sesungguhnya Tuhan menyampaikan salam kepada kalian dan berfirman, “bagaimana Aku mencela orang yang telah Aku ma’afkan ?. yang demikian ini adalah sesuatu yang tidak menyerupai kemurahanKu”.

Dan hadits yang menerangkan tentang raja’ atau harap banyak sekali dan tidak terbilang. Adapun atsar atau perkataan sahabat, maka telah berkata Aly KarramaLlaahu Wajhah,”Barang siapa yang berbuat dosa dan Allah menutupinya di dunia, maka Maha Mulia Allah jika Ia membukanya dosa tersebut di akhirat. Dan barang siapa yang berbuat dosa dan Allah telah membalasnya di dunia, maka Allah Ta’ala Maha Adil untuk mengulangi siksaan kepada hambaNya di akhirat.

Imam Atsauri telah berkata, “Aku ridak suka jika dijadikan perhitungan amalku kepada kedua orang tuaku karena aku mengetahui sesungguhnya Al;ah Ta’ala lebih belas kasih terhadapku daripada keduanya”.

Dan sebagian ulama salaf berkata, “Orang mu’min apabila berma’siyat kepada Allah Ta’ala maka Allah menutupinya dari penglihatan malaikat agar malaikat tidak melihatnya sehingga mereka dapat berdiri menjadi saksi”.

Dan Muhammad bin Sha’b menulis surat kepada Aswad bin Salim dengan tulisannya sendiri, “Sesungguhnya seorang hamba apabila ia melampaui batas kepada dirinya sendiri kemudian ia mengangkat kedua tangannya seraya berdo’a, ‘Wahai Tuhanku’ Maka malaikat menutup/mendindingkan suara hamba tersebut, demikian untuk yang ke dua kalinya dan ke tiga kalinya, apabila sudah sampai yang ke empat kali ia berdoa ‘wahai Tuhanku’, maka Allah Ta’ala berkata kepada para malaikatNya “Sampai kapan kalian menghalangi Aku dari suara hambaKu? Sesungguhnya hambaKu itu mengetahui bahwa baginya tidak ada Tuhan yang dapat mengampuni dosa selain Aku. Aku persaksikan kepada kalian sesungguhnya Aku telah mengampuni dosanya.

Telah berkata Ibrahim bin Adham RA, suatu malam aku tidak berkesempatan melakukan tawaf karena hari itu turun hujan dan malam sangat gelap gulita. Maka berdirilah aku di multazam di sisi pintu Ka;bah. Aku berdo’a, “Wahai Tuhanku, peliharalah aku sehingga aku tidak bermaksiyat kepadaMu selamanya. Maka terdengarlah hatif / suara tanpa wujud dari dalam baituLlah, ‘Wahai Ibrahim engkau meminta pemeliharaan dariKu dan setiap hambaku meminta pemeliharaan dariKu. Jika Aku memelihara mereka, maka kepada siapa Aku memberikan karunia ? dan kepada siapa aku memberikan ampunan ?’.

Dan AL-Hasan telah berkata, “Seandainya seorang mukmin tidak pernah melakukan dosa, niscaya ia akan terbang ke langit yang tinggi, akan tetapi Allah Ta’ala mencegahnya dengan dosa”.

Dan telah berkata Al-Junaid RA. “Jikalau nampaklah mata orang pemurah niscaya menghubungkanlah ia di antara orang jahat dengan orang yang berbuat baiik”.

Dan Malik bi Dinar telah bertemu dengan Abban, maka ia bekata kepadanya, Sudah berapa banyak engkau berbicara kepada manusia tentang keringanan/rukhshah ?”. Maka Aban menjawab, “Wahai Abu Yahya, sesungguhnya aku sangat mengharapkan jika engkau melihat kemaafan Allah di hari kiyamat akan apa yang engkau koyak dari pakaian engkau karena sangat gembiranya”.

Dan di dalam hadits Rabi’y bin Harasy dari saudaranya, dan sungguh ia termasuk sebaik-baik tabi’in. Dan ia / saudaranya itu termasuk oarng yang berkata-kata sesudah ia meninggal. Maka Rabi’y berkata “Ketika saudaraku meninggal maka ia ditutup dengan pakaiannyadan kami letakkan dia di atas keranda. Maka ia membukakan kain yang menutupinya dari arah wajahnya dan duduk lurus dan berkata, “sesungguhnya aku telah bertemu dengan Tuhanku Azza wa Jalla maka Ia menyambutku dengan penuh suka cita. Dan Tuhanku tidak marah. Dan aku melihat segala urusan sangatlah mudah dari pada apa yang kalian persangkakan, maka janganlah kamu lesu. Dan sesungguhnya RasuluLlah SAW melihatku demikian pula para sahabat beliau hingga aku kembali kepada mereka.

Rabi’y meneruskan ceritanya, “Kemudian ia (saudaraku) mencampakkan dirinya seakan akan seperti sebuah batu yang jatuh pada tempat cuci tangan, maka kami pikul ia dan kami kebumikan”.

Dan tersebut di dalam hadits, “Sesungguhnya ada dua orang laki-laki dari bani Israel mengikat persaudaraan karena Allah Ta’ala. Maka salah satu dari keduanya adalah termasuk orang yang menganiaya diri sendiri dengan ma’siyat dan yang satunya lagi adalah ahli ibadah, dan ia menasehatinya dan menghardiknya pula. maka ia berkata kepada temannya yang menghardiknya, “tinggalkanlah aku. Demi Tuhanku, apakah engkau diutus untuk memata-matai aku? hingga pada suatu hari ia mendapat temannya yang ahli ma’siyat sedang melakukan dosa besar maka marahlah ia dan berkata, “Allah tidak akan mengampunimu”. Maka dijawabnya, “Kelak Allah pada hari kiyamat akan berkata ‘Adakah seseorang mampu mencegah rahmatKu atas hambaKu ? pergilah kamu dan sungguh Aku telah mengampuni kamu. Kemudian Allah berkata kepada yang ahli ibadah, ‘dan untukmu, sungguh engkau telah mengharuskan bagi dirimu neraka’.

Nabi SAW bersabda, “Demi Dzat yang jiwaku berada di tanganNya, sungguh ia telah berbicara dengan perkataan yang membinasakan dunianya dan akhiratnya”.

Dan diriwayatkan pula sesungguhnya ada pencuri pada masa bani Israil, dan ia tealh merampok selama empat puluh tahun. Maka lewatlah Nabi Isa AS sedangkan dibelakang beliau ada pula seorang ahli ibadah di kalangan bani Israel dari golongan hawariyyin, Maka berkatalah pencuri itu dalam hatinya, “Ini adalah Nabi Allah dan di samping beliau ada sahabatnya yang ahli ibadah. Jika aku turun bersama mereka, maka aku menjadi ketiganya dari mereka. Maka turunlah pencuri tersebut dan hendak menggabungkan diri dengan mendekati sang hawariyyin dengan cara menghina dirinya sendiri dan memuliakan sang hawariyyin dengan berkata pada dirinya sendiri, ‘orang sepertiku tidaklah pantas berjalan berdampingan dengan orang yang ahli ibadah ini’. Dan sang hawariyyin merasa sesuatu dalam dirinya dan ia berkata dalam hatinya, ‘orang jelek ini berjalan disampingku….Maka ia merapatkan dirinya dengan Nabi Isa AS dan berjalan disamping Nabi Isa AS sedangkan si pencuri tetap berjalan di belakangnya. Maka Allah Ta’ala memberikan wahyu kepada Nabi Isa AS, “Katakan kepada keduanya agar mereka mengulang semua amal mereka karena sesungguhnya telah terhapuslah semua amal mereka sebelumnya. Adapun hawariyyin telah terhapuslah amal baiknya disebabkan ia ujub kepada dirinya sendiri. dan adapun yang satunya lagi, juga telah terhapuslah keburukannya disebabkan ia telah menghinakan dirinya sendiri”. Maka Nabi Isa AS mengabarkan kepada keduanya hal akan tersebut dan pencuri itu menggabungkan diri dengan beliau AS dan dijadikannya menjadi sahabatnya.

Dan diriwayatkan dari Masruq sesungguhnya ada seorang Nabi diantara para Nabi AS sedang bersujud. Kemudian seorang ahli maksiyat menginjak lehernya dan lengketlah antara batu dengan dahinya. Maka Nabi AS tersebut mengangkat kepala beliau seraya marah dan berkata, ‘Pergilah, Allah tidak akan mengampunimu’. Maka Allah menurunkan wahyu kepadanya “Engkau telah bersumpah atasKu pada hambaku, sesungguhnya Aku telah mengampuninya”.

Dan mendekati dari yang demikian, apa yang diriwayatkan oleh Ibni Abbas RA, “Sesungguhnya RasuluLlah SAW berdo’a untuk orang-orang musyrik dan melaknatin mereka di dalam shalat beliau SAW. Maka turunlah kepada beliau firman Allah Ta’ala, ‘Laisa laka minal amri syai-un, au yatuuba ‘alaihim au yu’adzzibahum Yang artinya, “Tiadalah engkau mempunyai kepentingan dalam perkara itu sedikitpun , Allah menerima taubat mereka atau menyiksa mereka (QS. Ali Imran 128). Kemudian Beliau SAW meninggalkan tidak berdo’a untuk mereka dan Allah telah memberikan hidayahNya kepada kebanyakan mereka dengan agama Islam”.

Diriwayatkan dalam sebuah atsar, bahwasanya ada dua orang yang sama-sama ahli ibadah dan satu level ibadahnya. Maka apabila keduanya telah dimasukkan surga, diangkatlah salah satu dari keduanya kepada derajat yang tinggi mengalahkan temannya yang satu lagi. Maka berkatalah ahli ibadah yang satunya, “Wahai Tuhanku, tidaklah dia di dunia lebih banyak ibadahnya dari pada aku.sehingga engkau tinggikan derajadnya di surga dari pada aku ?

Maka Allah berfirman, “Sesungguhnya ia meminta kepadaku derajat yang tinggi di surga sedangkan engkau memintaku agar engkau selamat dari api neraka. Maka Aku berikan kepada setiap hamba akan apa yang ia minta kaepdaKu. Dan yang demikian ini menunjukkan bahwasanya beribadah atas dasar harap itu lebih utama daripada beribadah atas dasar takut / khouf, karena sesungguhnya kecintaan itu lebih keras bagi orang yang berharap daripada orang yang takut.

Maka berapa banyak perbedaannya pada raja-raja antara orang yang melayani karena takut akan siksanya dan antara orang yang melayaninya karena mengharapkan kebaikan dari raja dan kemurahannya. Karena itu Allah Ta’ala memerintahkan untuk selalu berperasanka baik , dank arena demikian maka RasuluLlah SAW bersabda, “SaluuLlaahad darajaatil ‘ulaa fa innamaa tas’aluuna kariimaa” yang artinya , “mintalah kepada Allah derajad yang tinggi karena sesungguhnya engkau meminta kepada Zat Yang Maha pemurah”.

Dan bersabda, “idzaa sa-altumuLlaaha fa-a’dhimuurraghbata was aluul firdausai a’laa fa-innalLaaha Ta’ala laa yata’adhamuHu syai-un”. Yang artinya “Apabila kamu semua meminta kepada Allah maka besarkanlah keinginan dan mintalah surga firdaus yang tertinggi, karena sesungguhnya Allah Ta’ala tiadalah sesuatu yang besar bagiNya”.

Dan telah berkata Bakr bin Salim Ash-Shawaaf, “Kami memasuki rumah Malik bin Anas pada waktu sore hari dimana ia wafat pada sore itu. Maka kami bertanya, ‘Wahai aba AbdilLah, bagaimana engkau mendapati dirimu ?’. Ia menjawab, ‘aku tidak tahu, apa yang aku katakan kepadamu selain engkau akan melihat dari kemaafan Allah apa yang tidak ada bagimu pada penghitungan amal (hisab)”. Kemudian kami tetap di situ hingga kami tidak mengetahui lagi maksud perkataannya.

Telah berkata Yahya bin Mu’adz di dalam munajahnya, “Harapku kepadaMu dalam kesalahanku, hampir mengalahkan harapanku kepadaMu dalam ta’atku. Karena sesungguhnya aku berpegangan dalam amal dengan ikhlash, dan bagaimana pula aku dapat menjaganya ? sedangkan aku berada dalam bahaya. Dan aku mendapati diriku ketika berdosa, maka aku berpegangan kepada kema’afanMu. Maka bagaimana Engkau tidak mema’afkanku sedangkan Engkau bersifat Maha Pemurah ?

Diriwayatkan bahwasanya ada seorang majusi bertamu kepada Ibrahim Al-Khalil AS, Maka beliau berkata, “Apabila kamu mau masuk Islam maka aku akan menjamu kamu sebagai tamu. Orang Majusi itu lalu pergi, kemudian Allah Ta’ala memberikan wahyu kepada Nabi Ibrahim AS, ‘Engkau tidak memberi makan kepada majusi kecuali ia mau merobah agamanya. Dan Aku selalu memberinya makan selama 70 tahun dalam kekafirannya. Jika saja engkau menjamunya semalam, maka apa yang ada atas engkau ?”

Maka pergilah Nabi Ibrahim AS menyusul majusi itu dan memintanya kembali dan menerimanya sebagai tamu.

Maka Majusi itu bertanya kepada Nabi Ibrahim AS, “apa yang terjadi padamu akan semua ini ?.” Maka Nabi Ibrahim menceritakan semua kejadiannya. Maka berkatalah orang majusi, “apakah karena ini engkau menghubungiku ?. dan dilanjutkannya ,”kemukakanlah kepadaku tentang Islam”. Maka masuk islam lah majusi itu.

ustadz Abu Sahl Ash-Sha’luki Telah melihat Abu Sahl Az-Zujaji di dalam mimpi. Dan beliau Abu Sahl Az-Zujaji telah berkata tentang janji azab selama-lamanya. Lalu Abu Sahl Ash-Sha’luki bertanya, “bagai mana keadaanmu ?”. beliau menjawab, ‘kami mendapati urusan lebih mudah adripada yang kami perkirakan. Kemudian sebahagian dari mereka bermimpi bertemu dengan Abu Sahl Ash-Sha’luki dalam keadaan yang sangat bagus yang tidak dapat disifatkan. Maka ditanyakan kepada beliau, ‘wahai ustadz, dengan apa engkau memperoleh derajad ini ?’ maka dijawab, “dengan berbaik sangka kepada Tuhanku”.

Dikisahkan sesungguhnya Abul Abbas bin Suraij RA semoga Allah merahmati beliau bermimpi dalam sakit dimana beliau meninggal pada sakitnya itu, seakan kiyamat sudah terjadi. Tiba-tiba Allah Yang Maha Perkasa berfirman, “Dimanakah para Ulama ?”. Maka datanglah para Ulama, kemudian Allah berfirman, “Apa yang kamu amalkan dengan ilmumu ?”. kamipun menjawab, ‘Wahai TUhanku, kami teledor dan kami berbuat jahat’. Maka Allahpun mengulangi pertanyaan seakan Dia tidak berkenan dengan jawabantadi dan menghendaki jawaban yang lain. Maka aku menjawab, ‘ Adapun aku yaa Allah tiadalah terdapat pada catatan amalku sesuatu syirik dan sungguh Engkau telah berjanji bahwa Engkau akan mengampuni yang kurang dari itu. Maka Allah berfirman, “pergilah kalian semua dengan dia / Abul Abas dan telah Akuampuni kalian semua. Dan wafatlah Abul Abbas setelah tiga hari –darimimpi itu.

Diceritakan adalah seorang laki-laki peminum khamr, mengumpulkan teman-temannya, dan memberikan 4 dirham kepada budaknya dan memerintahkannya untuk membelikan sesuatu dari buah-buahan untuk hidangan. Maka lewatlah budak tadi di pintu majli Manshur bin ‘Ammar, dan beliau meminta sesuatu untuk pafa fakir miskin, dengan berkata, “Barang siapayang memberinya uang 4 dirham, maka aku akan mendoakannya dengan 4 macam doa”.

Selanjutnya diceritakan, “maka budak tersebut menyerahkan uangnya yang 4 dirham , maka berkatalah Manshur,

“Apa yang engkau inginkan agar aku mendo’akanmu ?”.

Orang itu menjawab, “Aku mempunyai tuan, dan aku ingin agar aku terbebas/merdeka darinya”.

Maka berdoalah Manshur yang demikian.

Kemudian bertanya lagi, “yang lain ?”.

Kemudian budak itu berkata lagi, “Aku mohon dido’akan agar Allah SWT mengganti dirham-dirhamku. Lalu Manshur mendoakannya,

kemudian bertanya lagi “yang lain ?” Budak itu menjawab “Kiranya Allah mengampuniku dan juga tuanku dan juga engkau serta rombongan teman-temanku”. Maka berdoalah Manshur yang demikian.

Kemudian kembalilah budak tadi kepada tuannya maka tuannya bertanya “mengapa terlambat”. Maka budak ltu menceritakan kisah yang dialaminya di perjalanan dengan Manshur, dan tuannya bertanya, “apa yang engkau mohonkan

BUdak itu menjawab, “Aku mohon agar aku terbebas / merdeka .

Tuannya berkata , “Pergilah sekarang engkau merdeka”.

Tuannya bertanya lagi,” dan apa permintaanmu yang ke dua ?”.

Budak itu menjawab, “Aku meminta agar Allah SWT mengganti dirham-dirhamku”.

Tuannya berkata, “Bagimu aku beri 4000 dirham.”. Tuannya bertanya lagi “ KEmudian apa permintaanmu yang ke tiga ?”

Budak itu menjawab, Aku mohon agar Allah SWT membuat engkau mau bertobat”.

Tuan itu menjawab, “Sekarang aku bertobat kepada Allah SWT”. Tuannya bertanyalagi, “Kemudian apa permintaanmu yang ke empat ?”.

Budak itu mrenjawab, “Aku mohon agar Allah SWT mengampuniku dan engkau, dan teman-temanmu”.

Tuannya menjawab, “Yang satu ini tidak ada pada diriku “.

Maka ketika terrtidur malam itu, bermimpilah ia seakan – akan ada yang berkata kepadanya, “ Engkau telah berbuat apa yang ada padamu, apakah engkau akan melihat bahwa Aku tidak melakukan apa yang ada padaKu ? Sungguh telah Aku ampuni engkau, dan juga budak engkau , dan kepada Manshur ibnu ‘Ammar, dan juga teman-temanmu semua”

Dan diriwayatkan dari Abdul Wahab bin Abdul Hamid, Ats-Tsaqafi, berkata, “Aku melihat tiga orang laki-laki dan seorang perempuan sedang mengusung jenasah, maka aku ambil alih posisi wanita itu dan kami mengusungnya ke kuburan, dan kami menshalatkannya di sana kemudian kamu menguburkannya. Aku bertanya kepada wanita tadi, “Siapakah mayit ini dari pihak engkau?”

Wanita itu mwnjawab, “Dia adalah anakku”

Aku bertanyan ,”Apakah engkau tidak memiliki tetangga ?”

Wanita itu menjawab, “Aku mempunyai tetangga akan tetapi mereka semua meremehkan dia“.

Aku bertanya, “Mengapa demikian ?”

Wanita itu menjawab, “Dia /a anakku adalah banci”

Abdul Wahab meneruskan ceritanya, “Maka aku merasa kasihan kepadanya, selanjutnya aku ajaklah wanita itu ke rumahku, dan aku berikan beberapa dirham serta gandum dan beberapa helai kain. Pada malam harinya ketika tidur aku bermimpi, ada seseorang yang dating kepadaku, dimana wajahnya bersinar bak bulan purnama dengan mengenakan pakaian putih dan berterimakasih kepadaku. Maka aku bertanya, “Siapakah kamu ?”

Dia menjawab, “aku adalah banci yang telah engkau kuburkan. Tuhanku telah mengampuniku disebabkan karena manusia telah menghinaku”.

Telah berkata Ibrahim Al – Athruusyi “Suatu ketika kami duduk-duduk di Baghdad bersama Ma’ruuf Al-Kharqi RA di tepi sungai Dajlah, tiba-tiba lewatlah anak – anak muda dengan menaiki perahu dan menabuh rebana seraya minum khamr dan bersenang-senang.

Orang-orang berkata kepada Ma’ruuf, “Bukankah engkau lihat mereka bermaksiyat kepada Allah SWT secara terang-terangan ? Maka berdo’alah bagi mereka”.

Maka Syaikh Ma’ruuf Al-Kharqi mengangkat tangan beliau dan berdo’a, “Wahasi Tuhanku, sebagaimana Engkau gembirakan mereka di dunia, maka gembirakanlah mereka di akhirat”.

Orang-orang bertanya kepada Syaikh Ma’ruuf, “Sesungguhnya kami memohon engkau agar engkau mendo’akan bagi kebinasaan mereka”.

Syaikh Ma’ruuf menjawab, “jika Allah SWT memberikan mereka kebahagiaan di akhirat niscaya Allah SWT membuat mereka bertobat”.

Dan sesungguhnya sebagian ulama salaf berkata dalam do’anya, “Wahai Tuhanku, penduduk mana yang tidak pernah bermaksiyat kepadaMu ? kemudian ni’matmu Engkau berikan kepada mereka ? dan rizki tetap Engkau edarkan kepada mereka ? Maha suci Engkau, alangkah kasihnya Engkau, Demi keagungan Engkau, sesungguhnya Engkau menghinggakan, kemudian Engkau menyempurnakan ni’mat dan engkau cuurahkan, dan Engkau peredarkan rizki. Seakakn-akan Engkau Wahai Tuhanku tiada akan marah”.

Maka demikian ini beberapa sebab yang menarik ruuh harap pada hati orang-orang tang takut dan putus asa. Adapun orang yang dungu dan tertipu, tidak seharusnya mendengarkan sesuatu dari semua ini (yang menarik harap) akan tetapi sebaiknya mendengarkan Inasihat yang dapat mengambalikannya kepada rasa takut karena sesungguhnya kebanyakan manusia tidak akan menjadi baikkecuali dengan pentakutan seperti budak yang buruk dan anak kecil yang jorok, tidak dapat berlaku benar kecuali dengan cambuk dan tongkat dan melahirkan kata-kata kotor. Adapun kebalikan dari yang demikian, maka akan menyumbat mereka pintu perbaikan pada agama dan dunia mereka


Kitab Takut dan Harap

Hello world!

Welcome to WordPress.com. This is your first post. Edit or delete it and start blogging!